Wednesday, October 17, 2012




ليست المرّة الأولى التي يرفع فيها حنا العتيق سبّابته اليمنى بوجه قائده السابق سمير جعجع. تاريخهما المشترك الطويل حافل بالمواجهات الكلامية، وكثيراً ما قال «العتيق»: لا.. لن أقبل.
للرجل مكانته في «القوات»، هذه الحقيقة يعرفها كل من حمل السلاح إلى جانبه. كلمته واضحة مثل رصاصاته. يعرف «الحكيم» عن كثب ويعرف الكثير من أسراره وطبخاته الخفية. أما «الحركة التصحيحية» التي أطلقها مع «الرفاق» من دير سيدة الجبل مؤخرا، فهي «ليست سوى البداية».
يتذكّر العتيق أنّ المرة الأولى التي سجّل فيها «فيتو» سياسياً على أداء جعجع، كانت مع ولادة اتفاق «الطائف». يومها سأل المحارب قائده: لماذا نقبل به وقد رفضنا قبله «الاتفاق الثلاثي»؟ ألم يكن أجدى بنا توفير كل هذه الحروب التي خضناها ما دامت النتيجة ذاتها (الاتفاق نفسه) بفارق سنوات من القتال والدماء والشهداء؟ كان جواب قائد «القوات» يومها أن الطائف «ولد ليدفن فوراً، وما دام ينصّ على تسليم سلاح الميليشيات، فإن «حزب الله» سيرفضه لأنّه لن يقبل بمقتضياته».
إذاً راهن «الحكيم» على رفض «حزب الله» لاتفاق الطائف كي لا يكون هو في «فوهة المدفع»، وكي يضع خصمه ميشال عون بمواجهة الشرعية الجديدة، وإذ به يدفع الثمن.
ويوم طرحت مسألة تسليم السلاح على طاولة مجلس القيادة، سأل «الحنون»: كيف نقبل بتسليم سلاحنا؟ ما هي المكاسب التي حققناها لقضيتنا وللمسيحيين كي نسلّم «رقبتنا»؟
في مجلس القيادة، وحده كان يملك جرأة التوجه نحو «القائد» قائلاً: «السلاح ليس ملكك، لا يمكنك التصرّف به كيفما تشاء، هو ملك المسيحيين الذين دفعوا ثمنه دماء وشهداء ومعوقين... وإذا كنت تريد وقف النضال، فنحن لن نتوقف. فليتحمل المسيحيون مسؤولية هذا القرار».
رفض «الحكيم» مطلقا حجة العتيق، واكتفى بردّ بسيط كاشفاً العرض الذي وضع على طاولته: السلاح لم يعد يتناسب مع وضعنا. معروض علينا 17 نائباً و5 وزراء، ولن نرفض التفاهم.
قبلها، قال العتيق، وهو الذي كان قائدا لـ«فرقة الصدم» في «القوات» لا لحرب الإلغاء الدموية (مع ميشال عون) التي دمّرت المسيحيين. سأل جعجع مراراً عشيّتها: إلى أين تريد الوصول بهذه الحرب؟ فكان ردّه: لن تستمر هذه المواجهة أكثر من ثلاثة أيام، سيتمرد المسيحيون على نارها... وإذ بها تستمر أشهراً، من دون «الحنون» الذي رفض المشاركة فيها.
تسري الحكاية نفسها على رفض حنا العتيق الانخراط في المعارك والانقلابات والانتفاضات «القواتية» الداخلية المتكررة.
قبيل أن يعبر جعجع النهر الكبير شمالا، للتعزية بباسل حافظ الأسد، دار بينه وبين مجلس قيادته حوار حول جدوى الزيارة إلى القرداحة. وبطبيعة الحال كان العتيق أشد المعترضين على الخطوة، في شقها السياسي لا الاجتماعي. اشتم رائحة «طبخة - خديعة» سيحاول «الحكيم» تمريرها من تحت الطاولة، مع العلم أنّها ليست المرّة الأولى التي يحاول فيها الرجل التوصّل إلى تفاهم استراتيجي مع السوريين، ولذا رفض «الحنون» الشهادة على ما أسماها «عملية البيع والشراء الجديدة».
قال حنا لجعجع بالحرف الواحد: «أنت ورقة ساقطة بالنسبة لدمشق، ولو كان في نيّتي زيارة العاصمة السورية، لكنت فعلتها مع غيرك» (في إشارة إلى ايلي حبيقة). وأنهى حديثه بالقول: «لم تعد غدراس (مقر قيادة جعجع في زمن الحرب) ساحة للنضال، فلنلتقِ في ساحات أخرى»!
يقول «الحنون» إنّها «لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يُخدع فيها جعجع من قبل السوريين»، يضيف «لو لم يحظ اتفاق الطائف بغطاء سوري - قواتي لما أبصر النور».
«الخدعة الأكبر»، بنظر المحارب، هي الحركة التي قام بها فؤاد مالك اثر خروجه من سجن وزارة الدفاع: في أحد الايام، يطلب سمير جعجع لقاء ريشار جريصاتي في سجنه في وزارة الدفاع، ويطلب منه إجراء اتصال بروبير فرح مسؤول المكتب السياسي في الولايات المتحدة الأميركية، ليتصل بدوره بأحد الديبلوماسيين في القنصلية السورية في واشنطن، وينقل إليه الرغبة بإجراء اتفاق مع السوريين ليخرج جعجع بمقتضاه من السجن.
وبالفعل، نفّذ جريصاتي المهمة بحذافيرها، وأتى جواب دمشق أنه لا بدّ من تراجع «القوات» في خطابها كي يتمّ الاتفاق. وافق جعجع على الشرط بحجة أنّ «القواتيين» لن يدفعوا من كيسهم! هنا جاء دور فؤاد مالك الذي قدّم يومها خطاباً تنازلياً خوّن بفعله من جانب «القواتيين» قيادة وقاعدة، من دون أن يفصح عن الجهة التي طلبت منه السير في خطة أحيطت بالسريّة إلى أن جلس «الحنون» مع جعجع في كانون الأول 2006، بعد عودته من الولايات المتحدة، وسأله عن صحّة ما قيل إنه هو بالذات من طلب من جريصاتي الإعداد لتلك «الحفلة». فكان الجواب بمثابة «اعتراف»، وعندها أبلغه العتيق أنه سيعتذر من كل «الرفاق» الذين أساء إليهم بفعل تلك المواقف «القواتية» الانقلابية.
في العام 1994، كان «الحنون» قد ترك غدراس، إلى البيت، ومع اعتقال جعجع، دخل بدوره سجن وزارة الدفاع لمدة شهرين ونصف شهر، خرج من بعدها بعد منع المحاكمة عنه، إلى أن حصلت مواجهة بين «الرفيقين» أمام قاضي التحقيق عبدالله بيطار في جريمة الياس الزايك.
يومها طلب جعجع من القاضي الانفراد بالمقاتل العتيق. كان له ما أراد ودار بينهما الحديث الأخير. قال الرجل المعتقل لمحدّثه: لقد كنت على حق في ما أبلغتني به يوماً. اليوم أنا أترحم على الماضي، ولكن لنطوِ الصفحة. أريد منك أن تغادر البلاد لأنني أخشى أن يتم استخدامك ضدي، وسيكون كل شيء مؤمناً لك.. ولعائلتك.
وضّب حنا العتيق حقائبه ودق على باب روبير فرح في الولايات المتحدة. ولكن على عكس ما قيل له، لم يجد شيئاً يسعفه هناك وهو المحارب الذي لا يعرف سوى البارودة صنعة له. لحظتها تيقّن أنه تمّ نفيه من أقرب الناس له. هناك بدأ صفحة جديدة من حياته ومرحلة مختلفة من النضال.
كان لـ«القوات» مكتب واحد في واشنطن، فصار لها 32 قسماً في الولايات المتحدة و5 أقسام في كندا، فضلاً عن أميركا اللاتينية وأوروبا واوستراليا. وضع لعملها نظام داخلي، وكان على رأسها مجلس سياسي منتخب (ضم مسؤولي المناطق والقادة «المنفيين» ومنهم رشيد رحمة وجوزيف رزق وراجي عبدو)، وترأسها جوزيف جبيلي، فيما تولى حنا العتيق الأمانة العامة.
واحتراماً للقيادة الأم، نصّ النظام الداخلي على أنّ «المجلس السياسي» يبقى قائماً إلى حين خروج جعجع من السجن وانعقاد المؤتمر الحزبي الأول لـ«القوات» وإجراء الانتخابات، عندها تحلّ هذه الصيغة.
وبينما حافظ حنا العتيق على خيط تواصل رفيع مع ستريدا جعجع، كانت الخلافات تتكدس بينها وبين بقية «القدامى» والمحاربين والقيادات، أكثر من خمسين «قواتياً» ألصقت أسماءهم على «لائحة سوداء»، يمنع عليهم دخول منزل «الحكيم» ـ مقر القيادة، يقول العتيق.
ومع عودة التواصل بين جعجع الخارج بعفو خاص من السجن في صيف العام 2005، و«المجلس السياسي»، طلب منهم حلّ الصيغة الحزبية الاغترابية، وبطبيعة الحال، سجل العتيق اعتراضه سائلاً عن مصير التنظيم البديل. فكان الجواب: «عليكم الانتظار». كما طلب من «الحنون» تأجيل عودته إلى بيروت، في انتظار إشارة خضراء تأتيه من «قائده».. لاحقا.
ولكن قبل أن يتخذ قراره النهائي بالعودة، كان انطوان زهرا يلتقي بعض القيادات «القواتية» في منزل غسان توما في الولايات المتحدة. سأله العتيق عن مصير ملفات «الشباب المبعدين»، فكان الجواب أنه لم تحصل أي «ضربة» فيها بعد. وللمناسبة، فإن الملفات لا تزال عالقة حتى الآن. سأله العتيق أيضاً عن ملف الخلافات الداخلية، فنفض زهرا يديه منها... ونبش المجتمعون الماضي المشترك والمستقبل الغامض، وتعاركوا بالكلام والشتائم.
بعد ذلك اللقاء العاصف، أطلق الحنون «البيان الرقم واحداً» متمرّداً على «العشائرية»، بعدما قرر «كشف المستور» والسير عكس «التيار الجعجعي»، ليقينه أنّ سمير جعجع اليوم غير سمير جعجع الأمس، وهو ما قاله بنفسه للرجل حين التقاه في بزمار.
انتظر «الحنون» أكثر من ثمانية عشر شهراً كي يسمع «بشارة العودة» من «القائد»، لكنها لم تصل. الاتصال الهاتفي الأخير لم يكن أفضل من غيره. قال له جعجع حرفياً: «إذا أردت العودة، فلتكن على مسؤوليتك الخاصة، لأن أكثر من ملف قضائي ينتظرك هنا»!
لم يتأثر الرجل بما بلغه من «رسائل» عبر المحيطات، وقرر حجز بطاقة الإياب. وبعد أقل من عشرة أيام قصد «الحكيم». حصل ذلك في أواخر العام 2006. التقاه لأكثر من ساعتين، بعض منها مع «رفاق»، والبعض الآخر في جلسة ثنائية. أبلغهم «الحكيم» صراحة ان لا مكان لهم في الوقت الراهن في صفوف التنظيم، وعليهم البقاء على لائحة الانتظار. في تلك الجلسة، قال «الحنون» كلاماً كبيراً، استوضح مضيفه حول مبررات خياراته السياسية غير المقنعة، حول سرّ تحالفه مع الأصوليات، والتي ظهرت مؤشراتها في «غزوة الأشرفية»، سأله عن ملكية القلعة المعرابية التي كانت في طور التشييد، حول مصدر كلفتها البالغة 60 مليون دولار، حول أملاك «القوات»... كل ما أفصح عنه جعجع قبل أن يقول له الرفاق وداعاً، هو قوله: «أنا مرشح قوى الرابع عشر من آذار لرئاسة الجمهورية.. وبالنصف زائداً واحداً»!
يعترف العتيق بأنّ «لقاء سيدة الجبل» ليس ابن ساعته. هو ثمار مشوار طويل من المشاورات مع رفاق السلاح («قدامى القوات»). لقاءات متعددة ونقاشات أفضت الى اتفاق يقضي بالانخراط في معركة نضالية جديدة عنوانها استعادة «القوات» وإعادتها إلى جذورها وحقيقتها. المصلحة المشتركة أذابت الخلافات المتراكمة بين هذه المجموعة منذ سنوات. التلاقي هو السبيل الوحيد لفضح حقيقة سمير جعجع، واستعادة راية «القوات» منه، هي كلمة السرّ التي فتحت أبواب الدير أمامهم... بدليل أنّ تلك الحركة أزعجت معراب ودفعتها لممارسة كل أنواع الضغوط على أمهات الشهداء، وعلى بكركي كي تمنع حصول اللقاء تحت مظلتها.
اللقاء هو خطوة أولى، درست بعناية، قبل أن تبدأ المجموعة مسارها الطويل، الذي سيتبلور قريباً من خلال مأسسة هذه الحركة، وتنظيمها، فعلاً لا قولاً، للحؤول دون احتكارها مرّة جديدة، والهدف واضح: «نحن «القوات». البرنامج السياسي مفنّد. بكركي والجيش من المسلمات. الإرث النضالي من المقدسات. الخصومة مع جعجع نهائية ولا تسوية معه».

كلير شكر

No comments:

Post a Comment