Wednesday, October 3, 2012

هويتي لا تشبهني ولبنانيتي مزوَّرة


هذا اعتراف لا يقنعني. لبنانيتي ناقصة، ولست من أنقصها. جهدت كي أكون لبنانياً عادياً وطبيعياً، لكنني مُنعت. لبنانيتي المفترضة تتساوى مع لا لبنانيتي المثبتة، نصاً لا روحاً.
أنا لبناني مجازاً والحقيقة ليست كالمجاز. 
بطاقة هويتي هي لي وعني. فيها ما يشبهني وفيها ما لا يشبهني: صورتي الشمسية تقلد وجهي وتصدق معه، صورة تقول: هذا هو أنا.. اسمي حقيقي، حملته هدية من والديَّ، تيمناً بصديق وفيّ لأبي.. عائلتي، ورثتها باستحقاق المشاعر والأواصر وتقاليد الأرومة الذكورية.. تاريخ ميلادي صحيح، منقول بأمانة عن سجل العائلة المكتوب على الصفحات الداخلية للكتاب المقدس، اعتقاداً بفأل القديسين ونذور العذراء (وللفقراء في النذور حكايات عن آمال برغيف كريم ومستقبل مبارك).. قريتي، هي هي، وهي أولي وآخري، حياً وما بعد الحياة.
بطاقتي تقول لي: هذا أنت. كل ما فيها صحيح ومبرم ولا خطأ فيه. غير أن الصدق يقف عند هذا الحد. فقد أقحم على هويتي ما ليس مني. ألزمت بمعتقد لم أختره، ودين لا أعرفه، وطائفة لا أمت إليها بصلة. أخذوني رضيعاً، وحشروني في طائفة ودين، من دون وعي مني ومن دون سؤال... فلكي تكون لبنانياً، مسجلاً في دوائر النفوس، وفق «الفرمان» الطائفي، عليك أن تكون مخطوف النفس... جسدك لك، أما روحك فليست ملكك، هناك وصيٌّ عليها ولست حراً كي تختار معتقدك، وبناء عليه، فأنت ملزم بأن تكون في طائفة والدك.
حاولت أن أكون لبنانياً بلا إضافة أو موانع، ففشلت. ولا أزال حتى اللحظة، طائفياً بحتاً. ووجودي محدد في طائفتي. ولا وجود لأي لبناني خارج طائفته ولا يعترف به إلا طائفياً... وهذا أمر يشمل كل «اللبنانيين». 
لذلك، أنا لبناني بالرغبة، وطائفي بالفعل. وليس مهماً أن أكون علمانياً ويسارياً وعقائدياً ومدنياً ومؤمناً وملحداً واشتراكياً. فكل هذه النعوت لا تلغي أبداً مبدأ وجودك، المحدد بالشرط الطائفي... حتى إذا كنت ضد الطائفية وتكره الطائفية والطائفيين، فإن وجودك السياسي والإداري والعائلي والاجتماعي والثقافي والتربوي، محدد بكونك من طائفة. واللبنانيون سواء في ذلك.
لست وحيداً بلا لبنانيتي. كل «اللبنانيين» طائفيون، بالإكراه أولاً، وبعد ذلك، إما بالرضا أو بالرفض.
وقصة هذا الاغتصاب، وخطف اللبناني من لبنانيته، وإيداعه المعتقل الطائفي كمصح سياسي معطوب، تبدأ من غلبة المرض على الصحة. المشهد النيابي، وتحديداً لدى لجنة صياغة الدستور في العام 1926، كان معبراً عن قناعة مبرمة لدى الجميع، بأن الطائفية شر. غير أن البعض أضاف على ذلك: «لا بد منه»، فيما قال الآخرون: «رجس فاجتنبوه». لم يمدح أحد الطائفية. كانت مذمة ومصيبة وجلابة أحزان. ويبدو أن هذا الشر الذي كان لا بد منه، ليس لمداواة الداء بالداء، ولقتل الطائفية بالمزيد منها، بل كان رأسمالاً سياسياً سهل التحصيل وسهل الصرف نيابياً وحكومياً ومالياً. اعتماد الطائفية لم يكن لطمأنة الخائفين من طغيان أكثرية. تلك حجة، بل من أجل الاطمئنان على فوائد الحصص وموائد السياسة وعقود التجارة، والحفاظ على «عراقة» البيوتات السياسية.
في لبنان، من استـطاب أن يكـون طائفياً، فاستكان لها وتطـبّع بها واتخذها متكأً وموئلاً وثقافة ومصلحة وحزباً.. وفي لبنان أيضاً، من رفض أن يكون طائفياً، فنجح في تنقية نفسه وعقله وسلوكه من التعصب والعفن والسخف والتلف والتهافت والانتهازية والعنصرية، وصار إنساناً سوياً على المستوى القيمي، يرى إلى أن الإنسان أخو الإنسان، وليس كما قال هوبز: «ذئب لأخيه الإنسان»، أو كما تقول العقيدة الطائفية «الطائفي عدو كامن لأخيه الطائفي المنتمي إلى طائفة أخرى». هذا اللاطائفي المنقى، لم يكن مسموحاً له أن يوجد، لأن انتماءه إلى لبنان، ليس بحاجة إلى الانتماء الطائفي قبله.
قصدت الشيخ الراحل الإمام محمد مهدي شمس الدين، بعد سريان مفعول اتفاق الطائف، وخلال الحديث، سؤال بسيط مني وإجابة مطوّلة ومسهبة منه، شكوته. قلت: أشكوك إليك. أنا أريد أن أكون لبنانياً، وأنت تمنعني عن ذلك. قال: كيف: قلتُ أنا علماني، أي لا أنتمي إلى جنس طائفي في السياسة، ولا أستطيع، حتى إن حاولت، أن أكون طائفياً. فلا ثقافتي تسمح لي ولا... قال لي: كي تكون لبنانياً، عليك أولاً أن تكون طائفياً. المعبر إلى اللبنانية هو الانتماء أولاً إلى الطائفة. بطاقة العبور إلى لبنان، تلزمك بدخول المعبر الطائفي. الباب إلى لبنان، بلا وسيط الطائفة، مستحيل.
ولم أحاول الدخول إلى الطائفة، وما زال عبوري إلى لبنانيتي مستحيلاً.
سبب هذا الكلام الآن، تفسير ما يقال وما يسمع وما يكتب، عن مشاريع قوانين الانتخابات. لم يسبق في تاريخ لبنان الحديث، أن كانت المنازلة بهذا العار. كان هناك كذب ضروري، خجل موضوعي، تكتم على الفضيحة. كانوا، وهم ينسجون القوانين الطائفية ويناقشونها، يغطون آثامهم بنـظافة أقوالهم، فاخترعوا مستلزمات «الوحدة الوطنية» و«العيش المشترك» و«التعايش» بين الطوائف، وقبلها ساد منطق «التفهم والتفاهم» و«لبنان بجناحيه»... كان هناك حشمة سياسية. أما اليوم، فنحن أمام حقبة جديدة، يتم فيها إلغاء اللبنانية الكامل، في أدبيات السياسة المعمول بها سابقاً، لمصلحة الطائفية النقية. مناسبة هذا الكلام التجرؤ على تكريس الطائفية، كفضيلة سامية، وقضية يجدر الدفاع عنها والاستبسال من أجلها، علانية. مناسبة هذا الكلام، «فلتنتخب كل طائفة نوابها» ـ ليتهم يفعلون ذلك، كي تنقسم كل طائفة على ذاتها، علّنا نبرأ من القطعان الطائفية المقادة برأس أو برأسين ـ كلام نسمعه عن «المشروع الأرثوذكسي»: «ردوا إلينا مسيحيينا». لأن الشيعة والسنة والدروز، سرقوا التمثيل المسيحي. مناسبة هذا الكلام، ما سمعناه من السلفيات السياسية المكرسة عند المسيحيين: «القوات اللبنانية»، «التيار الوطني الحر»، والسلفيات الثقافية في الخطاب السني والخطاب الشيعي، بفروعه الرسمية وأطرافه المنتشرة في الشوارع والضواحي، التي جاءت حكراً للطوائف، وبحصانة بسلاح مناسب.
لقد أكلت الطائفية كل لبنان. كانت الطائفية في ما مضى من أيام، بحاجة إلى إذن مرور من الطائفة المنافسة. كانت الطوائفيات مختلطة انتخابياً وسياسياً وحكومياً... «الكتلة الوطنية»، بقيادة اميل اده جمعت رجالات من كل الطوائف. «الكتلة الدستورية» بزعامة بشاره الخوري، حضنت زعامات وقيادات عابرة للطوائف. «الحزب التقدمي الاشتراكي» برئاسة كمال جنبلاط كانت طلائعه من النخب اللبنانية كافة، «حركة المحرومين» بقيادة السيد موسى الصدر، جمعت قيادات روحية وفكرية وإعلامية من منابع ثقافية وعلمية وعلمانية ودينية، شتى... كانوا أفضل حالاً منا. طائفيتهم تكتمل بطائفية سواهم. كان منسوب الطائفية متدنياً و«اللبنانية» و«الميثاقية» كانتا أقوى من التفرد الطائفي.
هذا زمن انتهى.. المواطنة تراجعت وانسحبت لمصلحة «المواطفة». فكلنا اليوم طائفيون.
هذا هو «لبنانهم»... أخذوه برمته. فماذا عن لبنان الآخر؟ لبنان اللاطائفيين؟ الأحزاب العلمانية لم تخسر معركة إلغاء أو تعديل النظام الطائفي، لأنها لم تخضها. هذه الأحزاب المفوّهة علمانياً، كانت عملياً وفعلياً، عميلة مجانية للقوى الطائفية. ففي زمن الحروب، قدمت هذه الأحزاب خيرة مناضليها وشبابها في الخنادق الطائفية والمذهبية. وفي زمن السلم سعت لأن يكون لها مقعد أو مقعدان في اللوائح الانتخابية التي يؤلفها زعماء الطوائف... هذه الأحزاب كانت برتبة خادم غير كفء للقوى الطائفية، وعوّضت عن ضمورها، بالصخب الكلامي عن العلمانية، بسيل الشتائم للنظام الطائفي.
هذه أحزاب لا يعول عليها. إنها «إكسسوار» للطوائف والمذاهب. والدليل، غيابها عن أي اقتراح أو مشروع يخفف من قوة اللصق الطائفية، ولقد فات أوان الحديث عنها. فهي من الماضي الذي يشبهها، وصورتها غارت في الحاضر الذي يشبه وجوه الطائفيين الأقحاح.
ماذا بعد؟ أو، من بعد؟
عرف لبنان، بعد اندلاع «الربيع العربي» حركة شبابية دعت إلى إسقاط النظام الطائفي. للأسف، هذه الحركة غرقت في الخلافات، وبالغت في البحث عن جنس النظام الجديد، وخاضت تظاهرات أسفرت عن انفراط عقدها، ليس بسبب قمعها من قبل النظام، بل لتقليدها الأحزاب العقيمة، واتباعها أساليب أتقنها ثعالب السياسة فقط. لقد سقطوا في التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل. أخذوا التظاهرات إلى حروب 8 و14 آذار، معها وضدها. لم يعترفوا بأن خريطة الطريق أهم من الشعارات والهتافات والصور. لم يستمعوا إلى من قال لهم: «تطبيق الدستور اللبناني هو الطريق، لأنه نص على الدولة المدنية، وعلى قانون انتخابي خارج القيد الطائفي». لقد طالب بعضهم بصبيانية بإلغاء الدستور... كانوا صادقين وعلتهم أنهم لم يسمعوا إلا أصواتهم، فطربوا بها، ورقصوا على إيقاعها ونشازها معاً، إلى أن تفرّق العشاق العلمانيون، وباتوا في كل واد يهيمون.
الطائفيون جديون، حريصون على صيانة حقوقهم وحماية حصونهم وقلاعهم الطائفية. لا يتركون مكاناً أو نافذة تدخل منها رياح التغيير. يفهمون أن هذا البناء الطائفي المرصوص لا ينهار إذا خاض أطرافه حروباً طائفية. ففي هذه الحروب، تزداد الطائفية قناعة وإقناعاً والتحاما، وتزداد الحاجة إلى إعطائها حصة تناسبها من النظام ومن الدولة... لا تخشى الطائفية، ولا يخاف الطائفيون، إلا البذرة العلمانية، مهما كانت نبتتها رقيقة الحواشي. لا شيء يخرّب النظام الطائفي، مثل الخراب الذي يصيبه إذا أدخلت تعديلات لاطائفية أو علمانية عليه. فالعلمانية الطفيفة خطر على الطائفية الطاغية.
وبكل أسف، العلمانيون يقاتلون النظام بالنظريات والأقوال والتشدق بالبيانات، ويتهربون من تطعيم هذا النظام، بطعوم علمانية ومدنية ولاطائفية. 
لا بد من الواقعـية واحـترامها إلى جانب احـترام الرغبة بتخـطيها. فالواقع ليس أزلياً. وعلـيه، فمن حق «اللبـناني» أن يكون طائفـياً، بالاختيار الحر أو بالتساهل أو بالمـصلحة، ومن واجبي أن أحترم خياره، الذي أرفضه... إنما، من حقـي كلبـناني، ألا أكون طائفياً، بالاختيـار الحـر أو بالقناعة أو بالمصلحة، ومن حقي عليه أن يحترم خياري.. من حق اللبناني أن يحب ويتزوج ويرث ويورث وفق قناعته بمذهـبه. ومن واجـبي أن أحترم خياره.. إنما من حقي كلبناني غير طائفي، أن أحب وأتزوج.. مطبقاً شرعية مدنية تؤمن المساواة التامة بين المواطنين ذكوراً وإناثاً. ومن حقي أن يحترم رغبتي بالخروج والتحرر من أنظمة المحاكم الطائفية الشرعية.
من حقي أن أكون علمانياً... ولم أتمتع بهذا الحق. فأنا كسامي الشقيفي، ملعون في هذا البلد. لقد ألزمت بالبقاء طائفياً برغم إرادتي وضد قناعتي... من حقي أن أكون علمانياً بحقوق علمانية، كما من حق الطائفي أن يكون طائفياً بحقوق طائفية، وهي حقوق أخذها وأمعن فيها حتى الثمالة.
أريد حقي غير منقوص، أريد لبنانيتي التي أحبها، لا لبنانيتي التي أكرهها. لذلك، أقدم عدد بائس من العلمانيين الذين قطعوا كل شعرة مع النظام الطائفي بطلب شطب الإشارة إلى الطائفية من سجل النفوس. اعتماداً على طلب قانوني صاغه طلال الحسيني، وعملنا على تعميمه ونشره... للأسف، كان أكثر من انتقد هذا المطلب، علمانيين عقائديين يهربون إلى المستحيل في مطلبهم: إسقاط النظام الطائفي، فيما هم ينامون في فراشه وفي غرفه الطائفية السرية.
حق الطائفي حاصل عليه وزيادة. أي طائفة تشعر بأن حقها مهضوم، فلتسأل عنه الطائفة التي هضمته. فليسأل المسيحيون اليوم عن «نوابهم» المستأجرين عند الطوائف الأخرى، كما كان يسأل المسلمون عن نوابهم الذين ألحقوا بالمارونية السياسية، بحيث كان رئيس الوزراء آنذاك، يلقب بـ«الباش كاتب»...
ماذا عن حق اللاطائفي؟ انه محروم من الوجود بالكامل. لا يحق له أن يحب بنقاء وبلا زغل طائفي وحرمان مذهبي. من حق العلماني ان ينتخب علمانياً، وليس في قانون الانتخاب مقاعد للعلمانيين. والعلمانيون واللاطائفيون ممنوعون من التعبير وعن التمثيل. فكيف ينتخب العلماني، الطائفي الذي يقصيه ويضطهده... العلماني الذي ينتخب لأي مرشح، وفق أي قانون انتخابي طائفي، هو عبد، وإذا كان لا يشعر بعبوديته، فهو طائفي، بلغة علمانية.
على العلمانيين أن يتعلموا من الطائفيين. فليتحدوا من أجل المطالبة بحقوقهم، قبل المطالبة بتغيير النظام. وهذا النظام، بالمناسبة، هو أقوى وأعتى وأشرس نظام، برؤوسه المتعددة.
فليتحد العلمانيون أولا أو فليَلْتَحِدوا (من لحد). فلينظموا حملة مقاطعة. أو فليرفعوا شعار الورقة البيضاء، أو فليفعلوا أي شيء، سوى ان يذهبوا إلى صناديق الاقتراع. فليعترضوا، بصوت عالٍ. فليقولوا لأهل هذا النظام، من كل الطوائف والمذاهب: طبقوا الدستور لجهة إلغاء الطائفية وإقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، وفق جدول زمني.
مارسوا علمانيتكم عبر قطيعة مبرمة مع الطائفية وزعمائها. لا تفكروا بهم. لا تعطوهم مشورة. فليذهبوا إلى الجحيم. «ما خصنا». لسنا مسؤولين عنهم وعما ارتكبوه بحق لبنان وبحقنا كعلمانيين ولاطائفيين.
إذا لم يفعل العلمانيون شيئا وإذا برّر اللاطائفيون ذهابهم إلى صناديق الاقتراع، واقترعوا، فلنعترف بأن لبنان لا نستحقه كوطن، وأن الطائفيين استحقوه كمزرعة لهم.
لبنانيتي هذه المرفوضة، هي شهادة انتمائي إلى وطن لن يرى النور.

No comments:

Post a Comment