Monday, October 22, 2012



19 تشرين الأول، بيت الوسط...

جان عزيز
كان المجتمعون حول طاولة «بيت الوسط» مساء الجمعة الماضي يستطلع بعضهم وجوه بعض بصمت، اللبنانيون منهم كما «الخدَّاميون»، الميثاقيون منهم كما «الكنعانيون». المخضرمون سرحوا بالبصر والبصيرة ردحاً في الزمن، ومسافة في الجغرافيا. عودة سبعة أعوام ونيفاً إلى الوراء، وبضع مئات الأمتار صوب قلب العاصمة. في 14 شباط 2005 مساءً، اجتمعنا كما اليوم. الحزن نفسه. الغضب نفسه. الانتفاض الداخلي نفسه، ممزوجاً قلقاً وضياعاً وبعض خوف، حيال آلة القتل والحقد نفسها. ما الذي تغيّر بين الاجتماعين، حتى كنا يومها نحسّ بقوة ضعفنا، فيما اليوم نعيش مرارة ما يشبه الانهزام أو يلامس الاستسلام؟ لم تتمالكوا أيدي البعض من أن تمسك قلماً ووريقات وتبدأوا لعبة تعداد الفوارق بين المشهدين.
في 14 شباط 2005، كنّا أولاً في بيت رفيق الحريري. كان هو الغائب غدراً واغتيالاً. وكان بيته الجامع لكل من تحت اسمه. في 19 تشرين الأول 2012 نلتقي في بيت سعد. وهو الغائب خوفاً من الغدر ربما، هرباً من القتل، ممكن. لكن كثراً ممن حول الطاولة لم يقتنعوا بالأسباب...
تفصيلاً قد يكون ما سبق. تتردد الأقلام في شطبه أو «خرتشته»، قبل أن تمضي في التعداد: في 14 شباط 2005 كانت معنا بكركي. كانت معنا كفريق، وكانت معنا على الطاولة. لا يزال صليب المطران بولس مطر يقرع كرسي لقائنا، حين وقف تلك العشية تاركاً مقعده ليحل أزمة مكان سعد لحظة وصوله من السفر تواً إلى الاجتماع. كانت بكركي كلها، بصليبها وصلبانها معنا. في اليوم التالي كان كافياً أن يمر فارس سعيد على الصرح، ليستقل «مجد لبنان» سيارته ويصير بيننا. اليوم بكركي غائبة. لا لأن البطريرك صفير تقاعد، ولا لأن البطريرك الراعي على سفر، بل لأن بكركي منذ أعوام طويلة لم تعد معنا. منذ أحست بأنها قد غُدرت وخُدعت. منذ أعلى صفير نفسُه صوته في وجهنا في آذار 2005 صارخاً فينا: «الدستور أعطانا 64 مقعداً ونحن نريد أن ننتخب 64 مقعداً. وقد أعذر من أنذر». لم تكن قصة نائب هنا أو لوحة زرقاء هناك. فبكركي أكبر وأرفع وأعلى وأطهر وأقدس. كانت مسألة إحساس بالخيانة الوطنية. فطوال الاحتلال السوري كان أهل الوصاية يمالقون سيد الصرح. يتوسلونه. حتى غازي كنعان الذي كان يرعبنا بنعله، كتب قصيدة للبطريرك متغزلاً بسلامة عينيه يوم أجرى عملية جراحية لإحداهما. كان أهل الوصاية يقولون لصفير: مشكلتك ليست معنا. بل نحن الحل. إذا ذهبنا سيأكلك أهل السرايا. وكان سياديو بكركي من المسيحيين يحاولون إقناعه بالعكس: لا مشكلة إطلاقاً مع شريكنا في الوطن. كل المشكلة مع السوري. فلنراهن على جلائه، ولنعمل لذلك، وسترى كيف ستقوم الشراكة الوطنية تلقائياً من بعده. حتى حسم صفير خياره ورهانه ومشى. إلى أن تحقق النصر الذي صنعه هو، فإذا بنا نغدره ونطعنه ونخون خياره ورهانه ونضاله. فننصِّب له 22 نائباً مسيحياً، ونترك له من فتات حكومتنا ثلاث حقائب مسخرية: السياحة والصناعة والشؤون الاجتماعية... يومها تركتنا بكركي، وما ظل وهماً من أنها معنا، كان لأنها لم تترك لبنان أبداً.
ثم كان معنا ميشال عون في 14 شباط 2005. وهو أيضاً لم يخذلنا. رغم جنونه وتهوّره وطبيعته غير المضبوطة ولا المتوقعة ولا المرتقبة، كان معنا. ومن اللحظة الأولى عملنا على إزاحته. في 14 آذار منعناه من إلقاء كلمة في الساحة. في نيسان طلع أحد جهابذتنا إلى بكركي يقول لسيدها أمام عشرين شخصاً: عون آتٍ ليحدلك ويحدلنا، فلنعطّله قبل أن يعطّلنا. بعدها حاصرناه بالتحالف الرباعي، وما أدراك ما التحالف الرباعي، فرد علينا على طريقة «التحالف بالتفاهم والبادئ أظلم»...
وفي 14 شباط 2005 كان معنا وليد جنبلاط. لا بل تلك العشية كان وليد جنبلاط وحده كل 14 شباط. لم يخف لحظة. كان رفيق قد نقل إليه كلاماً سورياً كبيراً ولم يخف. جاء رجل المخابرات البريطانية من قبرص حاملاً حركة الاتصالات المرصودة من محطتهم هناك، ولم يخف... لم يعد معنا اليوم لأنه يئس منا ومن عقلنا وعملنا. لا لأنه خاف من قميص أو «شحاطة». هو من لم ترعبه جيوش البزات والجزمات. إلا إذا كنتم تتوهمون أن هنري حلو، مرشح حزب البعث في فرعية بعبدا ــــ عاليه سنة 2003، صار اليوم أكثر شجاعة من وليد جنبلاط.
يبقى الموقف الدولي. كيف كان في 14 شباط 2005، وكيف صار في 19 تشرين الأول 2012؟ يومها كانت واشنطن وباريس أشد تأييداً لنا مما هما الآن؟ أم أن كونيللي وباولي توأمان طبق الأصل لكل من فيلتمان وإيمييه؟ ماذا قال لنا ساترفيلد الآتي على عجل ليلة 27 شباط في بيت رينيه معوض؟
المأزق أكبر بكثير. فلنكتب الفقرة الثالثة من بياننا، إنها كل البيان، ولننتظر الشارع غداً في التشييع، فنعرف من قتل وسام الحسن، ولماذا، ماذا بعد... يتبع غداً

No comments:

Post a Comment