Sunday, October 7, 2012


استرجاع المسيحيين تمثيلهم النيابي أم "حلف رباعي" جديد؟

جميل السيد

في العام 1992 حصلت الانتخابات النيابية الأولى لما بعد اتفاق الطائف وانتهى بذلك عمر المجلس النيابي للعام 1972 الذي دامت ولايته لمدة عشرين عاماً بسبب الحرب الأهلية وتشعّباتها. وقد قاطع المسيحيون عموماً تلك الانتخابات لعدة أسباب، أهمّها موقف العماد ميشال عون المنفيّ حديثاً الى فرنسا حينذاك والذي كان منذ البداية رافضاً لاتفاق الطائف، وكان يهدف من تلك المقاطعة الى عدم اضفاء شرعية مسيحية انتخابية لدولة الطائف التي بدأت في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي في نهاية العام 1989.
في المقابل انضمّ أيضاً الى المقاطعة المسيحية لتلك الانتخابات رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع تعبيراً عن استيائه من الطريقة التي عُومِل بها، لا سيما لجهة ما اعتبره انقلاباً عليه او انتقاصاً من حجم تمثيله الحكومي في تركيبة دولة الطائف الحديثة العهد، خصوصاً أنه كان يعتبر نفسه واحداً من العرّابين الأساسيّين سياسيّاً وميدانياً لتمرير ذلك الاتفاق في الوسط المسيحي مدعوماً بغطاء البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير حينذاك.
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، فلا بدّ من الاشارة هنا الى أنه خلال أحد لقاءاتي معه في صيف العام 1993 في منزله في غدراس كمندوب عن قيادة الجيش لاقناعه بتسليم سلاح القوات اللبنانية وحلّ الميليشيا العسكرية وجهاز الأمن، فقد أقرّ جعجع حينذاك بأنّه ارتكب خطأين استراتيجيين في حياته، أوّلهما حين « انجرّ» الى حرب السنتين في بيروت الشرقية بين العامين 1989 و1990 في مواجهة العماد عون، وثانيهما عندما « انجرّ» وراءه أيضاً الى مقاطعة الانتخابات النيابية للعام 1992.
أياً يكن فانّ ممّا لا شك فيه أنّ تلك المقاطعة المسيحية للانتخابات قد فتحت حينذاك شهيّة الزعامات الاسلامية السنية والشيعية والدرزية على التمثيل النيابي المسيحي فتقاسمَتْهُ في ما بينها، باستثناء حالات مسيحية محدودة كانت تتمتّع بحيثيّة لبنانية مستقلّة وبعلاقة مباشرة وخاصّة مع سوريا كآل فرنجيّة في الشمال وآل المرّ في المتن بالاضافة الى بعض الشخصيات المسيحية الأخرى في بشرّي وزحلة وبعض أقضية جبل لبنان.
وقد نتج عملياً عن هذا التقاسم الاسلامي للتمثيل النيابي المسيحي أنّ قسماً من النواب المسيحيين بات يتبع لتيار المستقبل بزعامة الرئيس الراحل رفيق الحريري، وقسماً آخر منهم كان يتبع لكتلة النائب وليد جنبلاط، وآخرين يتبعون لتحالف حركة أمل وحزب الله، بينما القسم الرابع من النواب المسيحيين من ذوي العلاقة المباشرة مع سوريا كانوا خارج لعبة الاحتواء الاسلامي للحصّة المسيحية.
لاحقاً وفي الانتخابات النيابية التي جرت في العام 1996 ثم في العام 2000، وعلى الرغم من عودة المسيحيين عن مقاطعة الانتخابات، فانّ صراع الزعامات الاسلامية على الحصة النيابية المسيحية استمرّ أكثر بروزاً وشراسةً، حيث كان كل طرف اسلامي يسعى الى تكبير حجمه النيابي عبر محاولة احتواء العدد الأكبر من النواب المسيحيين، وبالتالي فقد كان صراع الزعامات الاسلامية يتمحور في كلّ مرّة حول شكل قانون الانتخاب وتقسيماته الادارية ثم حول نوع التحالفات في اللوائح الانتخابية، وبالتالي كان التنافس بين رفيق الحريري ووليد جنبلاط والفريق الشيعي يدور كلّه داخل أروقة الوجود السوري النافذ في لبنان وحيث كان كلّ طرف منهم يسعى الى استمالة الكفّة السورية لمصلحته، سواء من خلال المطالبة بقانون انتخاب على مقاسه أو المطالبة بمساعدته في تشكيل تحالفات انتخابية تُوفّر له الفرصة للفوز بأكبر كتلة نيابية ممكنة من خلال حيازته حصة نيابية مسيحية أكبر مما لدى غيره. وهكذا، وبفعل الجغرافيا الانتخابية للبنان والمساعدة السورية، كان الرئيس رفيق الحريري يحظى دائماً بالحصّة النيابية المسيحية الأكبر عدداً، يليه النائب وليد جنبلاط ثم الكتلة الشيعية، بينما كانت بقية الكتل النيابية المسيحية المحدودة العدد والمشار اليها آنفاً، كما كتلة الرئيس عصام فارس المستقلّة التي برزت في العام 2000، تحمي استقلاليتها وحقوقها من خلال قوّتها الذاتية في مناطقها، أو من خلال علاقة بعضها مع سوريا أو من خلال استظلالها تحت عباءة رئيس الجمهورية، أكان الرئيس الهراوي أم بعده الرئيس لحود، اللذين كانا بدورهما يستمدّان قوّتهما من المظلّة السورية نفسها التي كانت تظلّل الجميع وتعمَل على التوازن والتراضي في ما بينهم.

قانون غازي كنعان ليس له

مع اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري في مطلع العام 2005 وانقلاب وليد جنبلاط وآل الحريري على الحضن السوري الذي رعاهما بمختلف الامتيازات السياسية والمالية والتجارية في الدولة وعلى حسابها على مدى خمس عشرة سنة، ومع ثبات الفريق الشيعي الممثّل بحركة أمل وحزب الله على التمسّك بالعلاقة مع سوريا حتى بعد خروج جيشها من لبنان، ومع عودة العماد ميشال عون من منفاه واقتراب خروج سمير جعجع من السجن لاحقاً بقانون العفو، ومع بروز النهضة المسيحية الجماهيرية في ذلك العام تحت شعار ثورة الأرز، ومع وجود قرار دولي، وتحديداً أميركي فرنسي، باستغلال ذلك الاغتيال داخلياً وخارجياً،
مع بروز ذلك كلّه في العام 2005 اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فوجئ الفريق الشيعي الممَثّل بحركة أمل وحزب الله بمبادرة من سعد الحريري ووليد جنبلاط يطرحان فيها اجراء الانتخابات النيابية في صيف ذلك العام وفقاً لقانون انتخاب العام 2000، أو ما سُمّيَ حينذاك بقانون غازي كنعان، وهو ما ليس بقانون غازي كنعان على الاطلاق بقدر ما كان قانوناً توافقت عليه القيادات اللبنانية في حينه. كما فوجئ الفريق الشيعي أيضاً بعرْضٍ من الحريري وجنبلاط لتشكيل حلف رباعي انتخابي يضمّ تيار المستقبل والحزب الاشتراكي وحركة أمل وحزب الله لخوض الانتخابات النيابية للعام 2005 بصورة مشتركة في مختلف المناطق اللبنانية على الرغم من التطورات والخلافات السياسية الحادة في ما بين تلك الأطراف والتي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
بناءً على تعاطف جميع اللبنانيين، ومنهم الشيعة حينذاك، مع فاجعة آل الحريري على أساس الحقيقة والعدالة وليس على أساس التجارة السياسية وشهود الزور كما تبيّن لاحقاً، فقد استند العرض الملغوم الذي تقدّم به سعد الحريري ووليد جنبلاط حينذاك للفريق الشيعي الى أنهما، رغم الخروج السوري من لبنان، سينتهجان نهج الرئيس الراحل ولن يسمحا بالتعرّض للمقاومة وسلاحها أياً تكن الظروف، وأنهما حريصان على استمرار التوافق مع الشيعة وعلى مكانتهم ومواقعهم في الدولة على الرغم من كلّ المتغيّرات الحاصلة، وعلى أنّ الخطر الأساسي على الجميع في الانتخابات النيابية للعام 2005 يتأتّى بالدرجة الأولى من عودة العماد عون واستفادته من اليقظة المسيحية المستجدّة، وقدرته بالتالي على قلْب المعادلة القائمة في لبنان منذ الزمن السوري في حال اكتساحه للمقاعد النيابية في مختلف المناطق وفقاً للتعبير الذي أطلقه جنبلاط حينذاك عن ضرورة التوحّد لمواجهة « التسونامي العوني».
وبمعنى آخر، فانه في الوقت الذي كانت فيه خطابات تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي في ربيع العام 2005 تستنهض المسيحيين في ساحة الشهداء وتستعْديهم ضد سوريا تحت شعارات السيادة والحرية والاستقلال وعودة الحقوق المسيحية، وبدلاً من أن يُشكِّل الخروج السوري من لبنان مناسبةً لترجمة تلك الخطابات بصورة عملية انصافاً للمسيحيين واسترجاعاً لدورهم الذي لطالما اشتكوا من تقليصه في الزمن السوري، في ذلك الوقت بالذات، وأيضاً تحت وطأة التعاطف مع سعد الحريري، ابن المغدور، الذي التصق حينذاك بزيارات مكثّفة الى الرئيس برّي وسماحة السيّد حسن نصر الله، فقد كانت تدور في الكواليس تلك العروض الموجّهة من تيار المستقبل والاشتراكي الى الفريق الشيعي باجراء الانتخابات النيابية وفقاً للزمن السوري وبقانون الـ2000 نفسه الذي كان يحتجّ عليه المسيحيون، وبطريقة التقاسم نفسها التي كانت تجري منذ العام 1992 لجهة اسْتِتْباع النواب المسيحيين خلف الزعامات الاسلامية.

انتخابات لإقصاء ميشال عون

كان من نتيجة تلك الانتخابات في العام 2005، على الرغم من حيازة العماد عون معظم المقاعد النيابية في المناطق المسيحية الصرفة، أنّ تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي تمكّنا من خلال خديعة الحلف الرباعي من الحصول على أكثر من نصف المقاعد المسيحية بما أمّن لهما الحصول على أغلبيّة نيابيّة في المجلس النيابي الجديد حتّى من دون الحاجة الى النواب الشيعة أو نواب عون المسيحيين. وكان من نتيجة تلك الانتخابات الخديعة أيضاً أن جرى اقصاء العماد عون كليّاً عن الحكومة الأولى التي أعقبت تلك الانتخابات برئاسة فؤاد السنيورة، كما جرى حصر التمثيل المسيحي فيها بوزراء مسيحيين موالين لتيار المستقبل والحزب الاشتراكي في حين أنّ التمثيل الشيعي في تلك الحكومة لم يكن أكثر من تكملة للعدد ما دام ثنائي سعد الحريري ووليد جنبلاط كافياً لتأمين أكثر من ثلثي أعضاء الحكومة وأكثر من نصف المجلس النيابي، والى درجة أن تلك الحكومة استطاعت أيضاً في مرحلة لاحقة أن تستغني عن وزرائها الشيعة وحتى عن رئيس الجمهورية، سواء في اقرار المحكمة الدولية أو في تغطية مؤامرة شهود الزور وحماية القضاة والضباط الّذين تورطوا فيها أو في الانقلاب على سلاح المقاومة وصولاً الى استدراج الهجوم الاسرائيلي في تموز 2006 وحتى الى جرّ الشيعة الى ردة فعل اضطرارية في بيروت في 7 أيار 2008.

محطة السابع من أيار

أحداث السابع من أيار عام 2008 لم تكن محطة عسكرية هجومية في التاريخ اللبناني بقدر ما كانت حالة دفاعية سياسية بوسائل عسكرية، وبمعنى أنّ هذه المحطّة شكّلت خطّاً سياسيّاً فاصلاً أدّى الى رسم حدود اللعبة الاستراتيجية في الداخل اللبناني بين فريق 14 آذار الذي استخلص أنّ تلك الحدود لا يمكن تجاوزها وأنّه بلغ الحد الأقصى من استثماره، منذ العام 2005، للغطاء الدولي ولجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبين فريق 8 آذار الذي أوصل رسالته التي تقول للداخل والخارج بأنكم وصلتم الى الحد الأقصى الذي لا يمكن لنا أن نتراجع بعده. أي أنّ محطة 7 أيار قد رسمت حدود التقدّم الاقصى لفريق 14 آذار وحدود التراجع الأقصى لفريق 8 آذار، وما بعد ذلك كان سيؤدّي الى حرب أهلية لا تريدها أطراف الداخل ولا تتحمّلها أطراف الخارج، فكانَ اتفاق الدوحة.
الانتخابات النيابية للعام 2009 جرت وفقاً لما تمّ الاتفاق عليه في الدوحة لناحية اصرار المسيحيين على اعتماد قانون الستين، أي قانون القضاء، الذي كانوا يظنّون، حتى في الزمن السوري، أنه القانون الوحيد الذي سيُنصفهم. لكن واقع الحال والتغيُّر الديموغرافي في بعض الأقضية والعائد الى تقلّص المسيحيين وزيادة عدد المسلمين والمجنّسين منهم على وجه الخصوص، مضافاً اليها الافراط المنقطع النظير في المال السياسي الذي أُنفق لشراء الأصوات، كلّ ذلك حَوّل تلك الانتخابات من فرصة لتحسين التمثيل المسيحي الى معركة بين فريق سعد الحريري وجنبلاط وحلفائهما من جهة وبين الفريق الشيعي وحلفائه من جهة أخرى، وكان عنوان تلك المعركة هو عمّن يحكم لبنان ويحدّد هويته وموقعه الاستراتيجي والاقليمي في المرحلة المقبلة.
فور انتهاء تلك الانتخابات، وعلى الرغم من حيازة العماد عون أغلبية التمثيل النيابي المسيحي في المناطق المسيحية الصرفة، فقد تبيّن بوضوح انه، باستثناء أقضية بشري وزغرتا والبترون، فانّ أكثر من نصف النواب المسيحيين الآخرين قد انتخبوا بأصوات اسلامية سُنيّة معظمها تابعة لسعد الحريري في بيروت وشمال لبنان وبقاعه الأوسط والغربي، وبأصوات درزية تابعة لجنبلاط في الشوف وعاليه، بينما الأصوات الشيعية في البقاع الشمالي وبعض الجنوب لم تكن مؤثرة سوى للاتيان بأربعة نواب مسيحيين فقط، جرى تجييرهم لاحقاً لأحزاب وكِتل حليفة، في حين أن جنبلاط والحريري جيّرا قسماً قليلاً من نوابهما المسيحيين الى كتلتَي الكتائب والقوات اللبنانية، محتفظيْن لكتلتيْهما بما يقارب نصف التمثيل المسيحي.
اليوم ونحن في خضمّ صراع جديد حول قانون الانتخابات للعام 2013، وبصرف النظر عمّا اذا كانت الظروف الاقليمية والمحليّة ستسمح أم لا باجراء تلك الانتخابات في حينها بالنظر لما يجري حولنا وبالأخص في سوريا، وما ينعكس منه على لبنان مباشرة من مراهنات وأحداث،
وبصرف النظر أيضاً عن تعدّد المشاريع وتقسيمات الدوائر المطروحة حول تلك الانتخابات، ما بين قانون الستين وقانون الـ 2000 وقانون الـ 14 دائرة أو الـ 15 دائرة أو الـ 50 دائرة، أو القانون النسبي أو مشروع اللقاء الأرثودكسي أو فنون الخلط والدمج بين هذا المشروع وذاك،
بصرف النظر عن ذلك كله، فانّ الشيء الوحيد المؤكد هو أن المسيحيين عموماً، أياً تكن مواقعهم السياسية، يطالبون حالياً بقانون انتخابي يكون فيه نوابهم، أو معظمهم على الأقل، منتخبين بأصوات مسيحية على غرار نواب الطوائف الاسلامية الذين يأتون بأغلبيتهم الساحقة بأصوات طوائفهم.
والحقّ المسيحي في هذه المطالبة هو حقّ مشروع ما دامت التجربة أثبتت انه حتّى ولو كان نصف نواب تيار المستقبل مثلاً من المسيحيين فإنّ الحريري الأب أو الابن يبقى زعيماً سنياً وتبقى مطالب كتلته النيابية محصورة الى حد كبير بالطائفة السنيّة التي تمثلّها. والأمر نفسه ينطبق على وليد جنبلاط الذي حتى لو كان عدد النواب المسيحيين في كتلته أكبر من عدد النواب الدروز فانّه يبقى ويمارس كزعيم درزي وتكون طلباته محصورة الى حد كبير بمصالح الطائفة الدرزية، والشيء نفسه ينطبق أيضاً على الشيعة، وبحيث انّ الوجود النيابي المسيحي في أيّ من الكتل النيابية الاسلامية لم يجعل تلك الكتل، في أي مرحلة من المراحل السابقة والحالية، معنيّة بالمطالِب المسيحيّة سواء في الدولة أو خارجها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى تنظر الطوائف اللبنانية اجمالاً الى نوّابها الذين يأتون بأصوات من غير طوائفهم على أنهم نواب طارئون أو مفروضون عليها، كحال النائب الشيعي المنتخب من السنّة والنائب السنّي المنتخب من الشيعة، والدرزي المنتخب من المسيحيّين، والمسيحي المنتخب من المسلمين، وقد يصل الموضوع أحياناً الى حدّ نبْذ ذلك النائب كخارجٍ عن طائفته وصولاً الى اعتبار وجوده في النيابة على أنه اعتداء أدبي على حقوق الطائفة أو على أنه مزحة سمجة.

مئة ذنب لا تصنع رأساً

في خضمّ ذلك كلّه يدرك المسيحيون كلّهم، بشكل أو بآخر، أن تبعيّة نوابهم للكتل الاسلامية تجعلهم مجرّد أذناب فيها وأنّ مئة ذَنَب لا يمكن أن تصنع رأساً واحداً. هذا عدا عن أنه، بينما في انتخابات الأعوام 1992 و1996 و2000، أيْ في زمن الحريري الأب، كان صراع الزعامات الاسلامية السنية والشيعية والدرزية حول تقاسم النواب المسيحيين صراعا سلطويا وصراع أحجام داخلية في كنف استراتيجية سورية واحدة انضوى اليها الجميع وزايدوا في انتمائهم اليها، وعلى الأخص رفيق الحريري ووليد جنبلاط، فانّ هذا الصراع حول تقاسم النواب المسيحيين قد تحوّل بعد الخروج السوري من لبنان، سواء في انتخابات العام 2005 أو العام 2009 أو تلك المرتقبة للعام 2013، الى صراع مصيري في ظل استراتيجيات ومراهنات متناقضة في ما بين الطوائف اللبنانية، تبدأ من الاختلاف الجذري بينها حول موقع لبنان في لعبة المحاور العربية والاقليمية، وحول التطورات في سوريا، وحول المقاومة وسلاحها وصولاً الى المحكمة الدولية، هذا عدا عن الاختلاف أصلاً حول كل شيء تقريباً وفي كل ما يتعلق بالقضايا اللبنانية الداخلية البحتة في مجالات الادارة والخدمات والأمن والقضاء والاقتصاد وغيرها.
وفي ظل هذا الصراع الاستراتيجي الاسلامي الداخلي الذي تدلّ كل المؤشّرات الى أنّه سيزداد شراسة من اليوم وحتى موعد الانتخابات النيابية المرتقبة وغير المؤكدة، وفي ظل التعقيدات الاقليمية والسورية التي لا شيء يشير حتى الآن الى وجود آفاق قريبة للحلول والتسويات بشأنها، وفي ظل المخاوف المسيحية اللبنانية المتزايدة والمبرّرة حول انعكاس الاحداث الاقليمية والمدّ الاصولي على الوجود المسيحي في الشرق الاوسط، وبعدما فقَدَ المسيحيون «مِعطفهم» في العراق و«سِتْرتهم» في مصر وهُم في طور فقدان «كَنزتهم» في سوريا والشعور بأنهم باتوا «شِبه عراة» في لبنان، فإنّ الفارق الجوهري بينهم وبين شركائهم المسلمين في الوطن هو انهم، أي المسيحيين، باتوا يعيشون هواجس وجود ومصير في لبنان والمنطقة، بينما المسلمون يخوضون صراع سياسة واستراتيجيات، عدا عن أنّ تلك الهواجس المسيحية باتت تصبح أكثر حدّة وأكثر خوفاً على المصير بمقدار ما يزداد تهميش الدور المسيحي واضعافه داخل التركيبة السياسية للدولة اللبنانية.

انتفاضة مسيحية

من هنا، ولهذه الاسباب مجتمعة وغيرها، ومع تزايد الطروحات القائمة حول قانون الانتخاب، يشهد لبنان حالياً شبه انتفاضة مسيحية حول صحّة التمثيل المسيحي الذي هو وحده الكفيل بحماية وجود المسيحيين ودورهم ومصالحهم في الوطن والدولة. فلَا تطمينات سعد الحريري المتكررة بِنَافعةٍ لهم ما دام هو نفسهُ لا يَأمَن العيش في لبنان وما دام ينتمي سياسياً الى بلدان ليس للمسيحي دور أو وجود فيها، ولا مناورات وليد جنبلاط وخطاباته حول الاختلاط والتعايش يمكن ان تُنْسِيهم خطورة تقلّباته اليومية ومجازر الشوف والجبل، ولا الشيعة وحدهم قادرون على الادّعاء بحماية المسيحيين ما دام جزء من الحرب الاقليمية والمحلية الدائرة حالياً يستهدف الشيعة أنفسهم كما يستهدف مقاومتهم قبل غيرها.
ولعلّ ما تجدر الاشارة اليه في هذا المجال هو أن تلك اليقظة أو الانتفاضة المسيحية لاستعادة التمثيل النيابي الصحيح قد أربكت أطراف الفريق الاسلامي السني والشيعي والدرزي بصورة متفاوتة تمكن قراءتها جلياً من خلال المواقف الصادرة عن كل من تلك الاطراف: ففي حين يُبدي الفريق الشيعي ليونةً واضحة حيال مختلف الطروحات مفضّلاً النسبية ومبدياً استعداده حتى للقبول بمشروع اللقاء الارثودوكسي الذي يتيح للمسيحيين الحصول على 64 نائباً بأصوات المسيحيين من أصل 64، فانّ الفريق السني الممثَّل بتيار المستقبل يناور بمختلف طروحات المشاريع الانتخابية وبمساعدة حليفه الأبرز سمير جعجع لجعل المسيحيين يختارون فقط ما يقارب الخمسين نائباً مسيحياً وبحيث يبقى لتيار المستقبل والحزب الاشتراكي ما بين عشرة الى أربعة عشر نائباً مسيحياً مُنتَخَبين بأصوات المسلمين لضمان الحصول على الأغلبية في المجلس النيابي للعام 2013، في حين أنّ وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي بامتياز، بات اليوم مصراً على الاحتفاظ بحصته المسيحية الكاملة في الشوف وعاليه تحت شعار الاختلاط والتعايش، وهو شعار، عدا عن كونه مناقضاً تماماً لماضي جنيلاط الدموي في الجبل ولحاضره المتقلّب والمخيف، فانّ فيه أيضاً الكثير من التهديد المبطّن للمسيحيين، أقلّهُ بتعقيد حياتهم كرهائن في الجبل أو بتهجيرهم اذا أمكن، في ما لو أنهم ساروا بغير قانون الستين الذي يشتهيه.
أيّاً يكن، ومهما كانت الحجج المطروحة، وما دام أنه ثبت بالوجه الشرعي، كما يقولون، بأن لبنان هو وطن المذاهب والطوائف بامتياز حتى اشعار آخر، وما دام يستحيل في هذا الزمن وفي هذه الظروف بالذات اصلاح هذا النظام الطائفي المذهبي، فانّ من حقّ المسيحيين، كما هي حال اخوانهم المسلمين، أن يسعوا اليوم، ولكل الاسباب الآنفة الذكر، للحصول على حصتهم النيابية الكاملة أي 64 نائباً من أصل 64 وفقاً لمشروع اللقاء الأرثودكسي، ما دام محظورا عليهم الحصول على قانون النسبية الذي يضعهم على قدم المساواة في الربح والخسارة مع شركائهم المسلمين في الوطن، اللّهم شرط أن يكون قانون النسبية قائماً امّا على لبنان كلّه كدائرة واحدة أو على المحافظات القائمة حالياً أو على الأقضية القائمة حالياً، وليس قانون نسبية قائما على مقصّات جديدة للخريطة الانتخابية، لأنه، في هذه الحالة وبناءً على التجربة، فانّ لعبة المقصّات، ان بدأت على قياس هذا وذاك، فانّ أي قانون انتخاب لن يبصر النور من اليوم وحتّى قيام الساعة.

تنافس إسلامي على المسيحيين

ربّ قائل هنا بأن المسيحيين في انقسامهم الحالي هم أعجز من تخطّي الواقع القائم وهُم أعجز بالتالي عن فرض قانون انتخاب يُنصِفهم كما يشتهون، سواء عبر مشروع اللقاء الارثودكسي أو عبر مشروع النسبية بمختلف أشكالها المذكورة أعلاه. والجواب عن هذا هو أن قوّة المسيحيين الحالية، حتى وهُم منقسمون، تكمن في الحاجة الماسّة اليهم من قبل الاطراف الاسلامية المختلفة. فالكلّ يسايرهم والكلّ يخطب ودّهم من أجل اقناعهم بهذا المشروع الانتخابي أو ذاك تحت شعارات وعناوين فيها الكثير من التعمية على الواقع، في حين أنّ لبّ المشكلة وجوهر الصراع حول مشاريع قوانين الانتخاب المتداولة حالياً هما أنّ التمثيل النيابي المسيحي ـ وحيازة جزء منه على الأقلّ ـ بات يشكّل حاجة استراتيجية مصيرية، وخصوصاً لفريق المستقبل والاشتراكي، ليس فقط من أجل تعزيز موقعه في اللعبة الداخلية بل من أجل رفع سعره واستجلاب الغطاء والدعم من القوى الاقليمية والدولية الفاعلة في الشرق الأوسط.
من هنا، فانّ الفارق النوعي الأساسي داخل هذا التنافس الاسلامي على التمثيل النيابي المسيحي يَكمُن في أنّ فريق الحريري جنبلاط وبعض حلفائه يريد الحصّة المسيحية التي تؤمّن له الأغلبية النيابية كوسيلة هجوم على الآخر في اللعبة السياسية اللبنانية تماشياً واستكمالاً للهجوم الاقليمي والدولي الذي يقوده المحور الأميركي في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، في حين أنّ الفريق الشيعي وحلفاءَه يسعون الى تلك الحصة للحصول على أغلبية نيابية تشكّل لهم وسيلة دفاع في مواجهة ذلك الهجوم نفسه، وهذا كلّه ما يفسّر الى حدّ كبير شراسة المعركة الحالية حول قانون الانتخاب، كما يفسّر أيضاً حالة الخلل والتخبّط والتوتّر التي تسود الوضع اللبناني المضّطرب والمنهمك في حسابات الربح والخسارة تبعاً للتطورّات العربية والسورية الراهنة التي، لوْلا مصلحة الخارج بالاستقرار اللبناني مرحلياً ولولا أنّ الفرقاء اللبنانيين الفاعلين يردعهم حاليّاً عامل الخوف أو الحكمة أو كل منهما، لكنّا رَأَيْنا لبنان مشتعلاً منذ مدة، هذا من دون الانكار أنّنا أصبحنا اليوم في شبه حربٍ أهليّة لكن من دون قرقعة السلاح الى اشعارٍ آخر.
وفي الخلاصة فان ّالمبدأ العام يقول انْ يكون قانون الانتخاب عادلاً ومساوياً بين كل الطوائف والمذاهب، ثم ان تكون التحالفات السياسية حُرّ ةً بعد الانتخابات ثمّ أن تكون الاغلبية النيابية الناتجة عنها في المجلس النيابي الجديد هي أغلبية تستند الى تحالف بين رؤوس مسيحية ورؤوس اسلامية حرّة على حد سواء، وليس أن تكون تلك الأغلبية مبنيّة على تحالف بين رؤوس اسلامية حرة وبين أذناب مسيحية منتخبة بأصوات المسلمين من خلال قانون انتخابي أعوج وخادع للمسيحيين، وعندها فقط يمكن ان يسلك البلد طريقه الى الاستقرار والى الخيارات الاستراتيجية الاقليمية الرادعة والحكيمة لا سيما في مواجهة الخطر الاسرائيلي بشكل خاص، وعندها فقط أيضاً يمكن أن يصبح المسيحيون مجدداً بيضة القبان في التوازن اللبناني الداخلي وفي تبريد التنافس الاسلامي الذي يزداد حِدّةً كلما ضَعُف الدور المسيحي في الدولة وكلّما اسْتعرَتْ حدّة المـشاريع والمــواجهات في المنطقة.
وأخيراً قد يتساءل البعض: اذا وقف المسيحيون بزعامة بكركي وقفةَ رجُلٍ واحد للمطالبة بقانون انتخاب كهذا أو هدّدوا بمقاطعة الانتخابات، فما الذي يمنع أن نرى سعد الحريري ووليد جنبلاط عائديْن قريباً الى أحضان سماحة السيد حسن نصر الله والرئيس نبيه بري لطرح تحالف رباعي جديد على غرار تحالف العام 2005 طارحين فيه المقايضة بين قانون انتخاب يؤاتي الحريري وجنبلاط في مقابل تنازلهما، لمصلحة الفريق الشيعي، عن المحكمة الدولية، وتغاضيهما عن سلاح المقاومة وضمانة رئاسة المجلس النيابي للرئيس بري والتفاهم حول رئيس الجمهورية المقبل؟
ما أعرفه سلفاً أنّ سعد الحريري ووليد جنبلاط سيَسْمعان في هذه الحالة جواباً يقول لهما باختصار: «انّ المؤمِن لا يُلدَغُ من جحرٍ مرتين...».
Description: < المقال السابق
Description: رجوع
Description: Bookmark and Share

الإسم الكامل
*
البريد الإلكتروني

No comments:

Post a Comment