Tuesday, February 12, 2013

عرس التجدد المسيحي

جورج عبيد
تجلّت دمشق على الرغم من الجراح مطلاًّ عريقًا للقاء مسيحيّ جامع. لم يسبق من قبل، أن شهدت الكنيسة الأرثوذكسيّة مع تنصيب بطاركتها هذا اللقاء، كما شهدته «كنيسة الصليب» مع تنصيب البطريرك يوحنا العاشر يازجي، في العاصمة التي وافاها بولس الرسول، وكان اسمه شاول من أورشليم، والمسرح اللاحق في الحقبة الأمويّة للقاء مسيحيّ - إسلاميّ كان يوحنا الدمشقيّ إمامًا له، وجاءت كلمة يوحنا العاشر استلهامًا لذلك التاريخ واستشرافًا لمستقبل يستنير بإشراقاته.
قمّة التجليّات سطعت بزيارة البطريرك المارونيّ بشارة الراعي، لمعانقة أخيه يوحنا العاشر في يوم تنصيبه بطريركًا على إنطاكيا.
الزيارة فريدة بالمعنى التاريخيّ، لكنها طبيعيّة. إذ إنّ الكنيسة المارونيّة فاضت ينابيعها جذرًا من سوريّا إلى لبنان، وليس لها أن تتقوقع فقط في جبل لبنان، وقد فهمنا في مسيرة التاريخ، أنّ محاولات الانعزال والانكماش قضت على المسيحيين بعدما تقلّص الحضور بفعل التهجير.
بهذا المعنى إنّ مقرّ البطريركيّة المارونيّة غير محصور بمدى جغرافيّ بل إنّ المشرق المسيحيّ العربيّ كلّه هو المدى، ولبنان جزء من هذا المدى. بشارة الراعي هو بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق للموارنة، وليست كنيسته مشلوحة في الضيق بل في الوساعة، في شراكة مع كلّ المسيحيين في الرؤى والرجاء.
يستدلّ على ذلك، بالخطاب الرعائيّ للبطريرك يوحنا العاشر، وهو من أبلغ ما ظهر، في عمق تلك الأزمة العاصفة في سوريا الجريحة، والمتراكمة تداعياتها على لبنان ودول المحيط، كما يستدل عليه في كلمة البطريرك الراعي التي ألقاها في قداسه هو، والكلمة التي جاءت في تنصيب البطريرك يوحنا.
تجلت الرؤية المشتركة بقول الراعي: «جئنا اليوم لنؤكّد ونشدّد أواصر الوحدة والمودّة والمحبّة والشركة في ما بيننا، وجئنا أيضًا لنقول معك (أي البطريرك يوحنا) كلّ تضامننا لشعبنا الجريح المتألّم. ولكي نعلن معًا مع كل كنائسنا في هذه المنطقة من العالم وفي سوريا وجذورنا كلنا عميقة فيها، جئنا لنقول: نحن نحمل معًا إنجيل السلام، إنجيل الأخوّة والمصالحة وكرامة الانسان وقيمته. فكل دم بريء يسقط هو دمعة من عيون المسيح».
الخطاب الجذوريّ عينه فاض على لسان البطريرك يوحنا العاشر الذي قال: «سنبقى في أنطاكيا جسر تواصل مع الجميع، وعلينا أن نصلي مع يسوع من أجل الوحدة، وهي شرط لازم لكي يؤمن العالم»، واستطرد أن نعمل أي أن نجسّد الوحدة. ويبيح كلامه في الوحدة منطق الشراكة بين المسيحيين، «سنعمل من أجل إعادة اللحمة بين الكنائس الشرقيّة والغربيّة»، كما بين المسيحيين والمسلمين، «نحن لسنا فقط شركاء في الأرض والمصير، نحن بنينا معاً حضارة هذه البلاد، ومشتركون في الثقافة والتاريخ، ولذلك علينا جميعاً أن نحفظ هذه التركة الغالية التي لدينا في سوريا».
هذا المشهد الذي استقطبته دمشق والمنتظر أن يستكمل في بيروت الأحد المقبل، هو مشهد وحدة وشراكة بكلّ ما للكلمة من معنى، والتي تلفظ من جوفها ثقافة الاستتباع والاستيلاد على المستوى المسيحيّ - الإسلاميّ، والتي تترجم باعتراف الآخرين بحقوقهم الكاملة العائدة لهم.
البطريركان الراعي واليازجي هما الأنموذجان الجديدان لرؤى مسيحيّة مشرقيّة، آن أوان تجددّها وتوثبها في تلك البوادي والجبال والهضاب، حتى يظلّ المسيح بإنجيله راسخًا في جذورها، وحتى تبقى تلك الجغرافيا مولودة منه، ومرسومة من الرؤى الرسوليّة الصّافية. لا تقوم المسألة على بشريّة الرجلين - المسؤولين، ولكنها تتأسّس بتيّار جديد يعي دوره ومسؤوليته في بناء شراكة حقيقيّة ليس في الجسد المسيحيّ فقط، بل يتواصل نحو الشريك الآخر من أجل بناء مدينة السلام التي المواطنة جوهرها.
زيارة البطريرك الراعي إلى دمشق فتح جديد لأسوار مدينة رسوليّة ذاقت بهاء الشراكة الحيّة في العصر الأموي، ولا يمكن لها سوى أن تحيا في برّها وتزهو برؤاها وجمالها، خالية من الأنماط التكفيريّة التي تحرّف الدين عن مساره السليم كما أشار البطريرك يوحنا العاشر.
دمشق الجريحة، توشّحت بضياء فصح مسيحيّ رسوليّ ومسكونيّ بامتياز. قرأت دمشق حضورها اليوم في عيني المسيح الذي يمسح عن عيون أهلها كلّ دمعة. وبيروت التي تنتظر زيارة يوحنا العاشر، تستعدّ لعرس مسيحيّ مكمل لعرس دمشق. المسيحيون سيقولون قولة الحبّ والشراكة الوجوديّة. وفي أدبيّاتهم العميقة إنّ الكلمة صارت جسدًا. والجسد المشرقيّ الحاوي لبنان وسوريا والأردن وفلسطين والعراق، هو جسد المسيح التاريخيّ المبذول.
هذا هو تراثنا جميعًا الذي لا ينمو إلاّ بوجودنا، وبالشراكة الفاعلة مع الإخوة المسلمين، حتى لا يتمزّق الله بصراعاتنا وبحركات استكباريّة وآحاديّة تحرّف الدين عن حقيقته وتقبض على حياة الإنسان، فتحددها وتحجمها، وتلقي بنا في حروب مستعادة جيلاً بعد جيل. عرس دمشق وبيروت، عرس الوحدة والمحبّة الممدودة إلى كلّ آخر. هو عرس التجدّد والتوثب نحو فجر جديد ومشرق، يبزغ بالسعي والتجسيد.


([) ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»

< المقال السابقرجوع
Bookmark and Share
إقرأ للكاتب نفسه

الإسم الكاملالبريد الإلكتروني

No comments:

Post a Comment