Friday, February 1, 2013


بكركي: التساوي في الانتخاب ... وفي الزواج أيضاً

الاستاذ جان عزيز


ترى بكركي أن المقاربة الجدية الوحيدة الممكنة هي تعديل المادة 9 من الدستور (هيثم الموسوي)
أن يتحدث زعيم سني كبير عن البطريرك الحويك وعن دوره في تأسيس لبنان وضرورة الحفاظ على إرثه وعدم إضاعته أو التفريط به، أمر لا يمر في بكركي من دون كبير تقدير وثناء وتثمين. لكن حين تصل الأمور إلى ميثاقية المؤسسات الدستورية في لبنان وتوازنها، ومدى جدية ما يطرح من مجلس شيوخ أو سواه، خصوصاً موضوع الزواج المدني... عندها تصير الأسئلة البطريركية مشروعة، ومباشرة
جان عزيز

تلقّت بكركي، بارتياح كبير، كلام رئيس الحكومة السابق سعد الدين الحريري عن لبنان الكبير ودور البطريرك الحويك في تأسيسه، وعن معنى الكيان اللبناني وجوهره. ذلك ان أهل الصرح يدركون تماماً أن في هذا الكلام تطوراً كبيراً في لغة ووجدان وذاكرة جماعة، ظلت حتى الأمس القريب، تحمل الكثير من التحفّظات حيال تلك اللحظة التأسيسية لهذا الوطن. وكان رد الفعل الأول لبكركي، حيال هذا الكلام الصادر عن الحريري الابن، مزيداً من الإصرار على السعي إلى وحدة وطنية جامعة وشاملة. وحدة حقيقية لا مصطنعة، إرادية لا مفروضة، لا تستثني أحداً، ولا تُقصي أحداً ولا تستعدي ولا تستقوي ولا تستفرد ولا تتفرد. «حين سمعناه، تأكدنا أكثر فأكثر من أولوية واجبنا الوطني بأن نعمل من أجل تلاقي الجميع، وتوافق الجميع، خصوصاً من يمثلهم الرئيس الحريري».
وبناء عليه، تطرح أوساط بكركي بعض التساؤلات حيال ما قيل وما يحصل. فالتأكيد مثلاً أن لبنان لا يعيش إلا بجناحيه، أمر إيجابي ومشكور ومطلوب. تصوروا مثلاً لو أن طائراً ما حاول الطيران بجناح واحد، أو بجناح كامل وآخر ناقص أو مهيض أو مقصوص. لكان سقوطه حتمياً، والسقوط أثناء الطيران أو محاولة التحليق يكون عظيماً. أو تصوروا لو أن جناحاً نما على حساب الجناح الآخر، بحيث ألحق بالأول نصف الثاني أو ثلثه أو ربعه، ألا يتحول الطائر عندها مسخاً كسيحاً في أحسن الأحوال؟ المطلوب إذن جناحان للوطن، لكن جناحان متوازيان متساويان متكاملان ومتعاونان، بما يضمن مصلحة التقدم والترقي. وهذا ما يشكل الهدف الوطني السامي لما طرحه المسيحيون الملتقون في بكركي حول صيغة قانون الانتخابات. تقول أوساط بكركي ان اقتراح اللقاء الأرثوذكسي لم يكن إلا وسيلة من أجل غاية محددة، هي استعادة جناحي الوطن، كما تحدث عنهما الحريري الابن. وبالتالي، كان من الواجب على كل المؤمنين بتلك الغاية الوطنية التسليم أولاً بها، ومن ثم النقاش في تفاصيل الوسيلة. فإذا ثبت أنها غير مجدية، يتم البحث عن وسيلة أخرى تؤدي إلى الغاية نفسها. لا أن يصير السجال عملية مزايدة أو مبارزة أو ابتزاز أو مكابرة، كمن يخفي رفضه للغاية في نفسها، أو كمن يستبطن سعيه الكامن إلى نسف مبدأ المناصفة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين.
وفي هذا السياق تسأل بكركي: إذا كان البعض يرى، مثلاً، أن اقتراح اللقاء الأرثوذكسي يجلب كل تلك الكوارث على البلاد والعباد، كما حاولوا وصفه ووصمه والتحامل عليه، فكيف نطرحه إذاً هو ذاته صيغة مقبولة لانتخاب مجلس الشيوخ؟ وإذا كانت صيغة «الأرثوذكسي» صالحة لتكوين هذا المجلس الدستوري العتيد، فكيف لا تكون بالتالي صالحة لاختيار مجلس النواب؟ إلا إذا كان المقصود من اقتراح التعجيل في تشكيل مجلس الشيوخ مجرد ملهاة، او مناورة لإيجاد مؤسسة صوَرية شكلية مفرغة من أي صلاحية، غير فاعلة وغير مؤثرة وغير حاسمة في قرارات الوطن واتجاهات السلطة. ما يفسر أن نترك لها ما يعتبره البعض «كارثة» عليه، على أن يُبقي هذا البعض نفسه لمجلس النواب ما يراه لصالحه. أو كأن القصد من هذا الطرح هو الضحك على المسيحيين، كما على غير المسيحيين، بأن نتركهم يوصلون «شيوخهم» الحقيقيين إلى المؤسسة التي لا تملك السلطة، فيما يوصل سواهم نوابهم غير الحقيقيين إلى المؤسسة الدستورية التي تحكم فعلاً وتمسك السلطة... وإلا ما معنى هذا التناقض في الموقف من صيغة انتخابية واحدة؟ فإذا ثبت أن صيغة «الأرثوذكسي» مؤذية، فلنرفض اعتمادها كلنا، وفي كل مكان، أكان لمجلس النواب أو لمجلس الشيوخ. أما في المقابل، إذا ثبت بالحوار العلمي والهادئ أنها تؤمن الغاية الوطنية المطلوبة، أي المناصفة الميثاقية الحقيقية والصحيحة والصحية والسليمة، عندها فلنعتمدها في كل مكان أيضاً، لانتخاب مجلس النواب كما لانتخاب مجلس الشيوخ أو غيرهما من المؤسسات.
ثم طالما ان الشيء بالشيء يذكر، فكيف بات مقبولاً الآن الحديث عن تعديل الدستور وعن المس بما سمي «قدسية» الطائف؟ ولماذا لا يكون الأمر نفسه مقبولاً حيال مسائل أخرى أكثر ضرورة لاستقرار النظام وتوازنه، وأولها صلاحيات رئاسة الجمهورية وتصحيح الثغر التي أظهرتها تجربة عقدين من أزمات نظام الطائف؟ وصولاً إلى ضرورة وضع «عقد اجتماعي وطني جديد».
كذلك ثمّنت أوساط بكركي الحرص الشديد على إجراء الانتخابات في موعدها القانوني، كما أبدت تقديرها الكبير للكلام عن أنه لا مقاطعة لهذا الاستحقاق الوطني، حتى ولو أقر قانون اللقاء الأرثوذكسي. ورأت في هذا الموقف روحاً وطنية عالية. من دون أن يسقط هذا التقدير بعض التساؤلات، ومن أكثر من نوع. أولها التناقض التام والكامل لهذا الموقف مع كلام «مستقبلي»، ومن أعلى المستويات، نقل إلى بكركي قبل حديث الحريري بساعات، مفاده نوع من التهويل أو التهديد أو حتى الابتزاز. على طريقة أنه إذا أقر القانون «الأرثوذكسي» فقد يجد الفريق الأزرق نفسه مضطراً إلى مقاطعة الانتخابات، وعندها سيصل إلى مجلس النواب الأصوليون والسلفيون والمتطرفون، وليتحمل إذذاك كل مسؤوليته. وتساؤلات من النوع الذي طرحه قريبون من الصرح: هل المقصود بهذه الإشادة الفائضة برئيس الجمهورية، مع التأكيد على خوض الانتخاب حتى بالقانون «الأرثوذكسي»، محاولة الضغط على الرئيس ليتولى هو رفض القانون أو إسقاطه، وبالتالي محاولة الفريق الأزرق التنصل من مسؤولية أي تعطيل ورميها أو حتى فرضها على مقام الرئاسة؟ وهذا ما يدفع أوساط الصرح إلى التأكيد على رفض المحاولتين معاً: لا يمكن القبول بالتهويل الأصولي، من أجل فرض قانون يسلب المسيحيين أي جزء من حقوقهم الميثاقية، ولا يمكن القبول إطلاقاً بمحاولة زج الرئاسة الأولى في صراع مع مصلحة المسيحيين ومع مصلحة جميع اللبنانيين، خصوصاً حين يكون الموضوع المطروح هو ضمان حقوق الجميع في شكل متساو.
مسألة أخيرة تتوقف عندها بكركي في تطورات الأيام الماضية والمواقف المسجلة، وهي موضوع الزواج المدني. تسارع بكركي إلى إبداء أسفها لبعض محاولات التجني والتلطي والتطاول. مؤكدة بُعد كل ما قيل وكتب عن حقيقة موقفها. ولذلك فهي تعلن بوضوح أنها ليست المرة الأولى التي يطرح الموضوع على بساط البحث والنقاش والتداول. فسنة 1998 فاتح الرئيس الراحل بكركي بهذا الموضوع قبل طرحه على مجلس الوزراء يومها. فبادرت بكركي إلى دراسة الأمر. وتكشف أوساط الصرح أنه تم تكليف راعي أبرشية جبيل، المطران بشاره الراعي في حينه، وضع مذكرة خطية تتضمن رأي الكنيسة في المسألة وتسليمها إلى رئيس الجمهورية. وبالفعل وضعت تلك المذكرة، وسلمت باسم الكنيسة المارونية التي أقرتها بكامل مندرجاتها. وهي تؤكد على المنطلقات التالية: أولاً لا يمكن للكنيسة أن تكون مع حرية المعتقد وحرية الضمير، وهما مسألتان أكدهما تعليم الكنيسة الجامعة وشددت عليهما كل الرسائل العامة والإرشادات الرسولية. وبالتالي فهي لا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تكون ضد الزواج المدني في لبنان. ثانياً، ثمة إشكاليتان دستوريتان في هذا المجال، هما التاليتان:
أولاً، إن المادة 7 من الدستور اللبناني تنص على أن «كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم». وبالتالي فإن وضع اي قانون جديد، من نوع الزواج المدني، بصيغة «الاختياري»، أي بصيغة تطبيقه على لبناني دون آخر، سيشكل خرقاً لهذه المادة كما لمبدأ المساواة كقاعدة حقوقية عامة.
ثانياً، إن المادة 9 من الدستور نفسه تنص على أن الدولة اللبنانية «تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية». وبالتالي فإن تطبيق قانون مدني موحد وملزم للأحوال الشخصية يخضع له كل اللبنانيين، سيشكل خرقاً لهذه المادة.
لذلك ترى بكركي أن المقاربة الجدية الوحيدة الممكنة، هي أن تذهب الدولة اللبنانية إلى تعديل المادة 9 من الدستور، وأن تفرض قانوناً مدنياً للأحوال الشخصية، بشكل إلزامي على كل مواطنيها، كخطوة على طريق بناء الدولة المدنية الكاملة التي تحدث عنها المجمع الماروني المنعقد سنة 2005. وعندها لن تكون الكنيسة معارضة ولا معترضة. أما إيمان ناسها وبنوتهم لها وكونها الأم والمعلمة لهم، فمسائل لا تخاف عليها الكنيسة، ولا تشك إزاء ثباتها في التاريخ، ثبات الروح القدس فيها وفي العالم. أما كل ما يطرح في هذا السياق، خارج القانون المدني الإلزامي، فهو من باب المزايدات أو محاولات الاستثمار، التي تؤكد بكركي بقاءها خارج أسواق سجالاته.

No comments:

Post a Comment