Friday, February 8, 2013


جورج عبيد

قرأت يا دولة الرئيس مبادرة انتخابيّة من أربع نقاط. وقلتم في سياقها: «أنا ولدت سياسيًّا في يوم الرابع عشر من آذار، من قسم جبران تويني». لكنّ الولادة جاءت بخلاف النشأة اللاحقة. ذلك أنّ معظمنا ولد من رحم ذلك اليوم الوطنيّ الكبير، ورحنا نبحث عن قراءة جديدة للبنان بعد خروج الجيش السوريّ منه، تستقرّ فيه دولة حقيقيّة فاعلة، تنشأ من أحزاب وطنيّة. لكنّكم وفي تأسيسكم لـ«التحالف الرباعيّ» انقضضتم على الحلم الوطنيّ، وأجهضتم المسعى التغييريّ الكبير وأعدتم لبنان إلى السياق الطّائفيّ.
لكنّ الولادة من رحم جبران، تقتضي منك الإنصاف والإخلاص لمن سفكت دماؤه من أجل حريّة لبنان واستقلاله. فقد ردّد اللبنانيون قسمه الشهير، «أن نكون موحّدين مسلمين ومسيحيين إلى أبد الآبدين». لكن الوحدة يا دولة الرئيس يكتبها التوازن وتلدها الإرادة وينحتها العقل وتصهرها الرؤى. والسعي إلى ذلك يتطلّب جوهريًّا عدم الولوج في منطق العدد واحتسابه بالمعنى السياسيّ، وبوضوح أكثر، عدم استئثار طائفة تقول عن نفسها بأنّها أكثريّة بطائفة يتم الادّعاء بأنّها أقليّة.
نحن المسيحيين أطلقنا النهضة العربيّة، وقدمناها بهيّة وعريقة وشامخة في السياق الكونيّ من دون احتساب ما إذا كنا أكثريّة أو أقليّة. وما دفعنا إلى ذلك هو إيماننا بأنّ الله لا يحد ولا يعد، «فمن عدّه فقد حدّه» كما قال الإمام عليّ بن أبي طالب.
وما يؤسف في الحقيقة، أنك تقيم بونًا ما بين الأسلوب والمضمون، فتظهر في الأوّل مرونة، لكنك ترتمي في أحضان التشدّد بحرصك على تقديم مبادرتك خارجًا عن السياق التوافقيّ المتوازن. ولا أحسدك على ذلك، فقد كنت مع «صديقك» وليد جنبلاط، والطائفة الشيعيّة الكريمة، تبنون مجدكم وسلطتكم على الخلاف المسيحيّ العموديّ، وعلى إفلاس ساهمتم أنتم به في ظلّ الهيمنة السوريّة، وفي ظلّ وجود العماد ميشال عون في المنفى القسريّ. والدكتور سمير جعجع سجين الصفقة السوريّة - الأميركيّة آنذاك. فكنتم، متوكّئين على تلك الصفقة القابضة على لبنان، تأتون بنوابكم بنسبة 95% حتى لا أقول أكثر، وبالمسيحيين بنسبة 80%، تاركين ما نسبته 20 في المئة فقط لحفظ ماء الوجه.
ما يعينني على هذا الكلام ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: هو خوفكم من مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، الذي وحّد المسيحيين للمرّة الأولى حول مبدأ المناصفة. وفي اليقين أيضًا أننا صرنا نسمع أصواتاً إسلاميّة من الطائفتين السنيّة والشيعيّة الكريمتين مؤيّدة لمشروعيّة المناصفة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. وبدا هذا على وجه التحديد مع الرئيس نبيه برّي الذي تفهّم دوافع المشروع، ولم يعتبره سببًا بل نتيجة تراكمات وممارسات شاذة. وجاء خطاب السيد حسن نصرالله في عيد المولد النبويّ الشريف ليؤيّد مبدأ المناصفة والنسبيّة ويلقي على التأييد وشاحًا وطنيًّا.
ليس المسيحيون يا دولة الرئيس، وبهذا المقياس هم من خالفوا الطائف بل أنتم من خالفتم هذا الاتفاق، وطعنتم به بالسياسة التي اتبعتموها منذ التسعينيات من القرن المنصرم، ولم تكن بعد قد ولدت من رحم الرابع عشر من آذار بالفعل الوطني كما ادّعيتم.
الأمر الثاني: إنّ مبادرتكم بإجراء الانتخابات في موعدها على أساس قانون الدوائر الصغرى، تجهز بكلّ ما للكلمة على ما تبقى من اتفاق الطائف. وقد سمعت نواب تيار المستقبل يشدّدون على تطبيقه وعلى حفظ المناصفة.
وفي هذا السياق، يسوغ لي طرح سؤال واحد وبسيط: أين هو وجه المناصفة الحقيقيّة والموضوعيّة، حين تقول بمبدأ إجراء الانتخابات على أساس الدوائر الصغرى وفي ظلّ النظام الأكثريّ في عمليّة استنساخ واضحة وحرفيّة لقانون 1960 الذي أجمع معظم السياسيين والمتابعين على عدم دستوريّته وميثاقيّته؟
للمعلومات التاريخيّة، فإنّ الرئيس فؤاد شهاب الذي شرّع ذلك القانون عاد بعد ذلك وتبرّأ منه. وفي البند الثاني من مبادرتك، سؤالي الموجّه إليك: من قال لك بأن المسيحيين لا يريدون إلغاء الطائفيّة السياسيّة لتطلب تعديل المادة الدستوريّة المتعلّقة بهذا الموضوع؟ نحن نسعى إلى ذلك، ولكن من ضمن مبدأ معالجة الطائفيّة المتلاشية والفوضويّة بالطائفيّة المتوازنة والخلاّقة، والتي تعيد الروح لميثاق نخشى أن يكون قد غدا جثة هامدة بسبب العطب المتمادي لهيكل لبنان السياسيّ والوجوديّ. هذا هو صلب المادّة 95 من الدستور.
الميثاق يا دولة الرئيس، وبالقراءة السياسية للمسيحيين، هو الطريق السليم لإلغاء الطائفيّة السياسيّة. لكنّ مشروعك هذا بتصنيف الدوائر كما ظهر عندك وبالنظام الأكثريّ استمداد لحالة القهر والإجحاف بطائفة كبيرة مكونة للبنان. وإذا ما شئت الصراحة المطلقة، المسيحيون لا يستجدون هبة الإنصاف، بل يطالبون باستعادة الحقوق الدستوريّة السليبة العائدة لهم. هذا هو الحقّ المطلق الذي نشاؤه لنا وللبنان.
الأمر الثالث: إنّ كلامكم على مجلس الشيوخ جاء مبتورًا. ذلك أنّ مجلس الشيوخ، وبحسب منطوق المادة 27 من الدستور، يمثّل العائلات الروحيّة. ويأتي كلامك في هذا السياق على كثير من التناقض حين تقول بأن ليس له أيّة صلاحيّة تشريعيّة، وهو ذو صفة تمثيليّة. لكن من المتعارف عليه في علم القانون الدستوريّ، أنّ التمثيل يبيح التشريع ويتيح لهذا المجلس المشاركة في المناقشات المصيريّة، لكونه يجسّد دور لبنان الرساليّ. فيبدو مجلس الشيوخ ومن خلال مبادرتكم شبيهًا بالمجلس الاقتصاديّ الاجتماعيّ الذي لا عمل له ولا وجود، والمعطّل منذ عشر سنوات.
يا دولة الرئيس، آن الوقت لقول الحقائق. نظام لبنان طائفيّ حتى العظم. ولا يُحكم من طائفة دون أخرى. بل يُحكم بالمشاركة الفعليّة. والمشاركة تتطلّب المناصفة. أيّ مشروع يحقق المناصفة هذا مرحّب به. وإلى أن يولد فمشروع اللقاء الأرثوذكسيّ هو الطريق السليم لعودة السلام إلى لبنان بإرادة الجميع الحرّة والمتلاقية وليس باستيلاد طائفة لأخرى واستهلاكها. بل بالتلاقي والحوار بين أحرار، حيث من حريتهم يولد لبنان.


([)
ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»
< المقال السابق
رجوع

No comments:

Post a Comment