Saturday, February 23, 2013


المناصفة والتوازن ركيزتان ميثاقيتان

جورج عبيد

يسعى بعض من هاجموا مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» إلى إخراجه من السياق الميثاقي المتكوّن جذرًا منه. ويتذرّع بعضهم أنّه غير حائز على موافقة القوى الممثلّة للطائفة السنيّة الكريمة في لبنان، وبعض من الطائفة الدرزيّة الكريمة. وبعض الاعتبارات الأخرى التي يوردها بعض المحللين السياسيين أنّه يعيد الاعتبار إلى حرب إلغاء داخل الموارنة بصورة خاصّة، ومنهم إلى سائر المسيحيين.
في المعطى الأوّل، لا يسوغ لبعضهم الادّعاء بأنّ الميثاق الوطنيّ محصور ما بين الموارنة والسنّة في لبنان. فبمجرّد الاندراج في سلوكيات تلك الحصريّة، نكون قد خرجنا من الهالة الميثاقيّة إلى الحالة التفكيكيّة. صحيح أن رياض الصلح سنة 1943، أعطى بعدًا خلاّقًا لدستور 1926 الذي كتبه ميشال شيحا الكلدانيّ، لكنّه بعد متشعّب، عنى المسلمين بمذاهبهم الأربعة، بعد انضمام عدد من الشخصيات الشيعيّة التاريخيّة، في تلك الحقبة لتبويب سطوع هذا البعد، في منحاه العروبيّ - المشرقيّ، مع عادل عسيران وصبري حمادة وأحمد الأسعد وعلي بزّي. ودستور الطائف المعدِّل لدستور 1926، لم يتخلّ عن تلك الهالة الميثاقيّة المتوسّعة، بل ثبّتها بصورة واضحة ومؤسساتيّة، تعنى بالمذاهب جميعها. الانشداد نحو مبدأ الحصريّة، الذي تظهره أفكار ملتبسة، هو الوائد للروح الميثاقيّة التي تجلّت مع تصويت كتل إسلاميّة شيعيّة إلى جانب المشروع، ومع الأرضيّة السياسيّة الداعمة عند بعض القيادات الدرزيّة.
في المعطى الثاني، أن مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ»، عدا عن توحيده الأحزاب المسيحية الأساسية الأربعة، تحت سقف بكركي، صار - بأسبابه الموجبة - جزءًا من حركة مسيحيّة عربيّة ومشرقيّة، تشاء أن تلتقي حول حقّ الوجود والمساهمة في بعث الحياة السياسيّة مع المكونات الأخرى. وقد جاءت زيارة البطريرك المارونيّ بشارة الراعي إلى دمشق، لترصف هذا الجزء في الكلّ، وتجعل الجزء ناطقًا بالكلّ.
لكنّ المشروع بصفته الوجوديّة، لم يتخلَّ على الإطلاق عن ميثاقيته. لا تعني المادة الثانية من المشروع، والتي تقول «يقترع الناخبون لمرشحّين من طائفتهم فقط...» توقًا للانعزال أو التقسيم. ذلك أنّ النواب المنتخبين من طوائفهم يتخطّون الدائرة التمثيليّة الطائفيّة الضيقة، بالنسبيّة ولبنان دائرة واحدة ليكونوا بالعمق والفعل أي التجسيد العميق ممثلي الأمّة جمعاء، كترسيخ لمنطوق المادة 27 من الدستور.
وقد حرص «اللقاء الأرثوذكسيّ» على التأكيد على إجراء الانتخابات في إطار لبنان دائرة واحدة، (وتلك دعوة الرئيس نبيه برّي المبدئيّة)، ليظهر أنّ وحدانيّة الدائرة ترسّخ وحدانيّة الشعب، وتزيدها مناعة، في إطار معالجة الطائفيّة الفوضويّة والمتلاشية بالطائفيّة المتوازنة والخلاّقة، والتي بتأصّلها تسمح مع مرور الزمن بتشكيل تحالفات وأحزاب وطنية، تعمل على مبدأ إلغاء الطائفيّة السياسيّة وتكريس المواطنة، هكذا نكون قد دخلنا في تنفيذ المادة 95 من الدستور التي اشترطت المناصفة طريقًا لمبدأ الإلغاء.
أمّا القول بأنّ مشروع اللقاء غير ميثاقيّ يبقى تجنيًّا على الحقيقة الدستوريّة والمتوازنة المعششة في جوفه. فالمشروع بحدّ ذاته صورة طبق الأصل عن اتفاق الطائف، مع فارق بسيط وفريد، وهو أن تنتخب كلّ طائفة ممثليها.
-
الاستنتاج الأوّل: لقد تعطّل الميثاق الوطنيّ من خلال استغلال إسلاميّ للتخبّط المسيحيّ البنيويّ. وقد ولد هذا الاستغلال من رحم صفقة أميركيّة - سوريّة ـ سعوديّة، «رمت» العماد ميشال عون في المنفى الباريسيّ والدكتور سمير جعجع في السجن اللبنانيّ الأسود. حصر استغلال المسلمين للمسيحيين في قلب حركة مطلبيّة تحت عنوان عودة العماد عون وتحرير الدكتور سمير جعجع. فتبدلّت الطبقة السياسيّة المسيحيّة السياديّة بطبقة زبائنيّة استهلكت واستولدت. فغاب منذ ذلك الوقت المكوّن المسيحيّ عن الحياة السياسيّة الكبرى، بعد أن استغلّت الحريريّة السياسيّة المادّة 49 من الدستور، والتي تقول بأنّ السلطة الإجرائيّة تناط بمجلس الوزراء مجتمعاً فباتت مناطة بسبب التجسيد السياسيّ بشخص رئيس مجلس الوزراء، أي متشخصنة به ومرهونة بإرادته.
-
الاستنتاج الثاني: لم يكن مبدأ «لبنان أولاً»، الذي أطلق غداة استشهاد الرئيس رفيق الحريري، سوى ردّ فعل تكتيكيّ وليس فعلاً وجوديًّا كبيرًا. ذلك أن نهائيّة الوطن اللبنانيّ راسخة في العمق الدستوريّ والسياسيّ، وهي مادّة ميثاقيّة بامتياز. غير أن إطلاق هذا المبدأ غدا شعارًا لحركة عدائيّة ضدّ النظام السوريّ، بغطاء ميثاقيّ مسيحيّ - إسلاميّ، ولم يتكشف من إخلاص لميراث لبنان المضيء. فالتفاصيل التي دارت في الجسم السياسيّ المسمّى بالسياديّ، أصابت الميثاق بجروح دامية، بفعل الانقلاب عليه بدءًا بالتحالف الرباعيّ الذي همّش المسيحيين، ومن ثمّ أجهزت عليه حينما دفعته إلى حروب المحاور. فلم يعد مبدأ «لبنان أولاً» سوى غطاء «ميثاقيّ» وهميّ لحركة مذهبيّة صابية إلى إسقاط النظام في سوريّا. والحركات السلفيّة والتكفيريّة اللاّعبة في هذا المدى تشي بهذه الرؤية. وهذا ما يجب أن يعيه معظم المسيحيين، وبخاصّة بعد زيارة البطريرك الراعي إلى دمشق، إذ هي تعيد الروح إلى الميثاق الداخليّ ولو من بوابة دمشق، ولكن بحرص فاتيكانيّ - روسيّ وأوروبيّ ليكون لبنان ذلك الأنموذج الحياديّ والفريد في محيط متخبّط.
-
الاستنتاج الثالث: إنّ إدخال المسيحيين في الصراع المذهبيّ، والمتراكم الآن في سوريّا، إبادة لهذا المكوّن. كما أن الميثاق لا تسري مفاعيله بين المسيحيين والمسلمين فقط، بل بين المسلمين أنفسهم والمسيحيين أنفسهم، في إنتاج وحدة وطنيّة راسخة.
وخلاصة هذه الاستنتاجات، أنّ «اللقاء الأرثوذكسيّ» بمشروعه يعيد الاعتبار إلى الميثاق الوطنيّ، ويعزز عراه بإعادة لبنان إلى المناصفة المستباحة، والتوازن المفقود.
المناصفة والتوازن هما الركيزتان الجوهريتان للميثاق ولحياة لبنان.
([)
ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»





No comments:

Post a Comment