Sunday, February 10, 2013


احتفالات القسم:
أوباما ورمزياته .. وسياسة التدخل
رياض طباره سفير لبنان السابق في الولايات المتحدة الاميركية
«إن عقداً من الحروب قد انتهى»، هكذا قال أوباما الثاني. لكن القول شيء والواقع شيء آخر. أوباما رفع عدد الجنود الأميركيين في أفغانستان، ووسع من استعمال الطائرات من دون طيار، بحيث بلغ عدد الطلعات 20000، قتل جراءها مئات المدنيين الأبرياء
احتفالات القسم الأميركية أصبحت مهرجاناً يحتوي، إضافة الى خطاب القسم، غداءً جامعاً واستعراضاً عسكرياً وأغاني وموسيقى متنوعة وقصيدة شعرية... وسهرات راقصة تدوم حتى ساعات الصباح. هذه الاحتفالات قد تكلف ما يقارب المئتي مليون دولار يغطي الرئيس المنتخب عادة القسم المتعلق بترتيب وتنظيم الاحتفالات، وتؤمن الدولة باقي التكاليف خاصة تلك المتعلقة بالأمن. احتفالات القسم 2009 كلفت متبرعي أوباما أكثر من 50 مليون دولار.
خطاب القسم للعهد الثاني، يقول تعليق في «سي إن إن»: هو كحفل الزواج الثاني، مهم بالتأكيد، ولكنه لا يتسم بالأعصاب المشدودة لما يخبئه المستقبل، كما هو الحال في الزواج الأول. فخطاب القسم الثاني هو عادة أشد اختصاراً من الخطاب الأول، وهذه عادة أسسها أول رئيس للجمهورية، جورج واشنطن، الذي لم يتجاوز خطاب قسمه الثاني الدقيقتين. أطول خطاب قسم في تاريخ الرئاسة الأميركية هو خطاب القسم للرئيس وليم هاريسون سنة 1841 الذي دام أكثر من ساعة ونصف الساعة في يوم بارد وممطر بكثافة. توفي الرئيس هاريسون بعدها بشهر واحد جراء التهاب رئوي.
إنّ الهدف من خطاب القسم هو عادة الدعوة للوحدة الوطنية بعد معركة انتخابية تفرق بين الناس، وليس لاعلان برنامج للسياسة المحلية والدولية، وهذا ينطبق بشكل خاص على خطاب القسم الثاني، وخطاب أوباما الأخير لم يشكل انحرافاً كبيراً عن المعهود في هذا المجال. ففي هذا الخطاب الذي لم يستغرق سوى ربع ساعة استعمل أوباما كلمة «نحن» أكثر من 35 مرة، كثيراً ما كانت ضمن مصطلح «نحن الشعب» أو «نحن سوياً» في محاولة لجمع الشمل كما جرت العادة. (بعض المعلقين اعتبر هذه المصطلحات تهديداً للجمهوريين بأن أوباما سيتوجه الى الشعب إذا ما وقفوا بأكثريتهم في مجلس النواب ضد تشريعاته القادمة).
ولكن الخطاب ذهب الى أبعد من ذلك في ما يتعلق بالسياسة الداخلية. فالخطاب كان ليبرالياً يسارياً أزعج المحافظين، القدامى والجدد، والجمهوريين بشكل عام. فإضافة الى نظرته الى الاقتصاد ودور الدولة الرائد فيه، تكلم عن حق المرأة بالمساواة خاصة في مجال العمل وتكلم عن تنظيم الهجرة وإيجاد «طرق أفضل للترحيب بأولئك المهاجرين النشطاء وأصحاب الآمال الذين ما زالوا يرون في أميركا أرض الفرص»، كل ذلك كايماءة الى النساء واللاتين (نسبة الى أميركا اللاتينية) والآسيويين الذين انتخبوه بكثافة. كما فاجأ الكثيرين عندما شمل مع النساء والمهاجرين تحقيق المساواة للمثليين من الجنسين.
ولكن الرسالة الاكثر فعالية في هذا الموضوع كانت من خلال الرمزيات الليبرالية التي طبعت ترتيبات الاحتفال وليس في ما قاله في خطابه. فالمغنية التي أنشدت النشيد الوطني الأميركي (ببراعة مشهود لها) كانت المغنية السوداء بيونسيه (والسود طبعاً صوتوا لأوباما بأغلبية ساحقة تجاوزت التسعين بالمئة). أما الشاعر الذي ألقى القصيدة في الاحتفالات الرسمية، ريتشارد بلانكو، فكان، ولأول مرة، كوبياً أميركياً، ولاول مرة أيضاً، مثلياً (واللاتين والمثليين صوتوا لأوباما بأغلبيات كبيرة). مسألة المثليين، في الخطاب كما في رمزية الشاعر، أججت مشاعر المحافظين الذين بدأوا ينظمون أنفسهم لمحاربة أوباما في عهده الثاني، ولكن أوباما ينظر بتفاؤل الى المستقبل بالنسبة لقوة المثليين المتصاعدة، كما بالنسبة للاتين والآسيويين الذين أصبحوا يشكلون نسبة لا بأس بها من سكان أميركا، وهم في ازدياد سريع، بينما نمو البيض أصبح سلبياً. بالمقابل، فان زواج المثليين ينتشر بسرعة في الولايات المتحدة، وهناك ما لا يقل عن ست ولايات حتى الآن قد وضعت قوانين تعترف بهذا النوع من الزيجات. وقد وصل المثليون الى أعلى مستويات الحكم إذ إن في المجلس النيابي الحالي هناك ستة نواب يقولون إنهم مثليون (أو ثنائيون) وهناك إمرأة في مجلس الشيوخ تعترف علناً بمثليتها. ويعتبر بعض المراقبين أنّ هذه الأعداد ستزداد بعد الانتخابات القادمة سنة 2014.
ولكن أكثر هذه الرمزيات ابتكاراً كان في أن أوباما أقسم اليمين على إنجيلين، الأول كان قد أقسم عليه اليمين ابراهام لينكولن سنة 1861، وهو الرئيس الذي أصدر اعلان التحرر للعبيد السود في منتصف ستينيات القرن التاسع عشر، والثاني، الانجيل الخاص بمارتن لوثركينغ، أشهر المناضلين السود، والذي كان له فضل كبير بإنهاء قوانين الفصل العنصري ضد السود التي كانت سائدة خاصة في ولايات الجنوب حتى منتصف ستينيات القرن العشرين، أي بعد مئة سنة من التحرر. وقد اعترض بعض المحللين السياسيين على هذه الرمزية أولاً، لأنّ لينكولن، رغم كونه عراب إعلان التحرر، كان يحتقر السود وحاول دفعهم للهجرة الى باناما ليؤسسـوا دولة لهم هناك ولم يكن يؤمن بالمساواة بينهم وبين البيض، وثانيـاً لأنّ مارتن لوثركينـغ كان يريد المـساواة بين البيض والسود وحارب كل حياته من أجلها. «إنّ دمج أوباما الرمزي للاثنين (لينكولن وكينغ)» يقول أحد المحللين الأميركيين، «يشكل بالواقع محاولة لفرض وحدة خاطئة بين ما يمثله كل منهما، ويتسم بقلة الاحترام لكينغ لأنه يجمعه مع نهج سياسي (نهج لينكولن) الذي قُتل كينغ وهو يحاول استئصاله».
إنّ أسلوب أوباما هذا، حيث الرمزيات وفن الخطابة كثيراً ما لا يتماشيان مع الأفعال، ظهر واضحاً في خطاب القسم عندما قال: «إنّ عقداً من الحروب قد انتهى» فصفق له الحضور بحماسة بالغة. ولكن في اليوم التالي تساءل الكثيرون هل حقاً أنهى أوباما الحروب الأميركية؟ فأوباما هو الذي أمر برفع عدد الجنود الأميركيين في أفغانستان الذي ظل يتزايد حتى نهاية السنة الماضية. وقد صرح الناطق باسم البيت الأبيض مؤخراً بأنّ القوات الأميركية لن تترك بالضرورة أفغانستان في المستقبل القريب. أوليس أوباما هو الذي وسع استعمال الطيارات من دون طيار («الدرون») لقتل مشتبه بهم ليس فقط في أفغانستان بل أيضاً في باكستان واليمن والـصومال وليـبيا وغيرها من البلدان؟ ورغم السرية التي تحيط بهذا البرنامج فقد أصبح من المعروف أنّ هناك قواعد أميركية لهذه الطائرات ــ تعمل أو قيد الإنشاء ــ في دول آسيوية عديدة، منها باكستان وأوزباكستان واليمن، كما في جميع أنحاء أفريقيا، من إثيوبيا وكينيا شرقاً وصولاً الى النيجر غرباً. وبناءً على احصاءات مكتب الصحافة الاستقصائية الاميركي، فإن أكثر من 20,000 طلعة لهذه الطائرات حصلت مـنذ تولي أوباما الحكم، وقد قتل من جرائها، إضافة الى عدد من المشتبه بهم، مئات من المدنيين الأبرياء. وقد وصلت الأمور الى حد دفع الأمم المتحدة الى فتح تحقيق بالامر لأن الحرب بهذه الطريقة «أصبحت واقعاً»، كما قال رئيس لجنة التحقيق، وتنتشر بسرعة مما يوجب وضع قوانين دولية لها. وقد سارع أوباما للطلب من ادارته وضع نظام لاستعمال الطيارات بدون طيار قتالياً يستثني لمدة وكالة الاستخبارات المركزية «السي آي إي».
المهم في الأمر هو أنّ كلام أوباما عن نهاية الحروب بالنسبة لأميركا لا يعني أنّ أميركا ستتقوقع، وتتوقف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، كما سارع البعض للاستنتاج، بل فقط ان أميركا ستتدخل بطرق مختلفة عن الماضي. وهذه السياسة الجديدة قد بدأت تظهر معالمها في تصريحات بعض المسؤولين في إدارة أوباما مؤخراً، وفي الواقع على الارض، كما في التعيينات الجديدة للولاية الثانية. ومن أهم الخطوط العريضة لهذه السياسـة:
أولا: عدم استعمال الجيش الأميركي، خاصة على الأرض، إلا في الحالات القصوى، والابتعاد عن سياسة بوش الابن والمحافظين الجدد، التي كانت تتكل على القوة العسكرية الأميركية بشكل مفرط في سياستها الخارجية، كما فعلت في أفغانستان والعراق.
ثانيا: الاستعاضة عن القوة العسكرية الأميركية، الى حدود الممكن، بالتفاوض و«محاولة فض الخلافات مع الدول الأخرى سلميا... لأنّ باستطاعة التواصل أن يبدد الشك والخوف بطريقة أمتن» كما جاء في خطاب القسم. ولعل اقتراح تعـيين تشاك هايـغل وزيرا للدفاع هو خير دليل على هذا التوجه إذ إن هايغل هو من أكثر السياسيين المناهضين للحروب، بعد خبرته المريرة في حرب فيتنام، كما وزير الخارجية الأميركي الجديد جان كيري ولربما أكثر، بالتفاوض الى أبعد الحدود، حتى مع «حماس» و«حزب الله»، قبل استعمال القوة.
ثالثا: عندما تدعو الحاجة للقوة العسكرية، فاللجوء الى المحاربة، كلما أمكن ذلك، بجيوش الآخرين من خلال تحالفات يكون دور أميركا فيها «القيادة من الخلف»، بحسب قول أحد مستشاري أوباما (ما أسمته الواشنطن بوست «عقيدة أوباما»)، كما حصل في ليبيا وكما يحصل اليوم في مالي.
رابعا: في ما يخص محاربة الإرهاب فقد أصبح من الواضح أنّ أوباما لا يرغب في اعتقال المشتبه بهم وجلبهم الى غوانتانامو أو محاكمتهم صورياً أمام «اللجان العسكرية» ذات الصيت السيئ، ما يعرض الولايات المتحدة لانتقادات واسعة عالمياً، وقد استعاض عن ذلك بقتل المشتبه بهم، إما مباشرة بتخطيط من وكالة الاستخبارات المركزية، أو في أكثر الأحيان من خلال الاستعمال المكثف للطيارات بدون طيار (الدرون) حتى لو كان الشخص المستهدف من حاملي الجنسية الأميركية. ولعل أكبر دليل على هذه السياسة، اضافة الى كثافة استعمال هذه الطيارات في عهد أوباما، هو اقتراح تعيين جون برينان رئيساً لوكالة الاستخبارات الأميركية المسؤولة بشكل أساسي عن استعمال (الدرون) في عمليات القتل (ولو بعد اذن مباشر من أوباما نفسه). فجون برينان الذي سمته الغارديان «بطل الدرون لدى أوباما»، والسي أن أن «مقاتل الدرون»، والدايلي مايل «المهندس» و«العقل الموجه» لهجمات «الدرون»، كان على علاقة وثيقة ببرنامج استعمال هذه الطيارات منذ بدايته في عهد بوش الابن، وأصبح في عهد أوباما المنفذ الرئيسي لهذا النوع من الهجمات، إضافة الى علاقته الوثيقة أيضاً بالتعذيب في عهد بوش الابن وعملية قتل بن لادن في عهد أوباما.
إن تفاصيل سياسة التدخل الجديدة ستظهر بوضوح أكبر قريباً جداً عندما يلقي أوباما خطاب «حالة الاتحاد» أمام جلسة مشتركة لمجلسَي النواب والشيوخ في 12 شباط الجاري.

No comments:

Post a Comment