Tuesday, February 5, 2013


الأشد فتكاً، البخور! بقلم سمير عطالله - النهار
حاول كثيرون من أصدقاء بنيتو موسوليني ومعارفه الأوائل، أن يحذّروه من إغواء التزلف، والسقوط في خداع النفس. لكن "الدوتشي" كان قد تخطّى عتبة الوعي وصواب العقل. ليس فقط بسبب من ضعف النفس، بل خصوصاً بسبب إتقان الايطاليين فن النفاق(1). وفي بدايات حكومته، العام 1923، عاد موفده الى "مؤتمر الحد من الغازات السامة" الذي انعقد في جنيف، وذهب لإطلاعه على النتائج. دخل المبعوث، فرأى الدوتشي منهمكاً بالكتابة، لا يرفع رأسه. وبعد دقائق طويلة، رمى القلم وتطلع الى الديبلوماسي الكهل بازدراء، وقال له: "أي الغازات أكثر خطراً، يا سفير"؟ فردَّ الرجل بكل جدية: "البخور هو اشدها فتكاً، صاحب السعادة".
لماذا؟ ربما لأن البخور يخدِّر الأنوف ويغشي العيون في وقت واحد. حاستان في آنٍ معاً. وإذا اجتمع الى ذلك فقر عضوي في حواسٍ أخرى، فيا للهول.
جميع الذين – وليس بعض – بخَّروا موسوليني، ارتدّوا عليه عندما خسر الحرب. عشقوا المباني التي أقامها، وأحبوا خُطبه، وهامت به النساء، وفي لحظة اكتشفوا أنه مقابل ذلك كبَّدهم الوطن، وشرَّد الناس، وتجاهل الفقراء، فانقلبوا عليه وعلّقوه مع كلارا بيتاتشي. وكما كان يفعل البغداديون، إذ يفرشون الطعام على الأرض تحت جثث الخونة المعلّقة مشانقهم، "وجبة" بعد "وجبة"، وفقاً للتعبير النضالي، هكذا فعل الإيطاليون تحت سيقان الدوتشي وكلارا. تنزيهة العصر.
قلَّد القذافي موسوليني حرفاً حرفاً. قرأ في كتابه كل يوم. استلهم مُستعبد ليبيا ومُستعمرها في خيلائه وعجرفته وطنانة الكلام وإثارة الغضب واستخدام التعابير الممنوعة من الطبع، وفي اعتماد اللجان (القمصان السود) بدل قوى الأمن. صفحة صفحة مصدِّقاً قول ابن خلدون في تقليد العبد المُستعبَد. ونسي الصفحة الأخيرة، فإذا هي مطابقة أيضاً. لم يختَرها. لكنه اختار الطريق إليها. "القائد"، تعني الدوتشي. الذين هللوا لقتل القائد والدوتشي هم هتّافو الأمس.
حسنات الديموقراطية قليلة، لكنها عظيمة. منها، وربما أهمها، أنها تحذّر الحاكم من ضعف الناس وتحذّر الناس من لحظات ضعفه. عندما كان نابوليون يحكم أوروبا كلها، كانت أمه ليتيزيا بونابرت، تقول بلهجتها الكورسيكية" "شرط أن تبقى الأمور على ما هي". وكانت راشيل موسوليني تردّد، طوال عشرين عاماً من حكم زوجها، القول نفسه، ولكن بلهجة أهل روما. وكان ملك إيطاليا فيكتور عمانوئيل الثالث يتطلع الى الحشود الهاتفة له، ويقول لمرافقه إن العدد نفسه سوف يحضر ساعة شنقه، ويهلّل بالقوة نفسها. هي الجماهير نفسها التي تطلّع إليها سعد زغلول من شُرفته ثم دخل البهو قائلاً لهؤلاء المصريين: "ما فيش فايدة يا صفية، غطيني".
يشبهنا الإيطاليون ، قليلاً. أو نشبههم كثيراً.
تعوّدت السفر في إيطاليا. قطارات الدرجة الثانية والمراكب المشرفة على التقاعد من بهجة المتوسط المغلفة بالملح، المعرّضة للصدأ. وعاماً بعد عام، كنت أتأكد من ملامح الشبه. مسرح إيطاليا، مثلنا، مسرح. تياترو. وأيضاً ديكور، يقول لويجي بارزيني. رسم الإيطاليون أروع اللوحات. بنوا أجمل دُور الأوبرا. متاحف. تماثيل. حدائق. ولم يصنعوا دبابة أو طائرة أو حكومة قوية. إذا قال لك الإسكافي إن الحذاء سيكون جاهزاً يوم الخميس وأقسم على ذلك، فهو طبعاً يكذب. أنت تعرف ذلك، وهو يعرف. لكن المسكين لا يكذب من أجل نفسه. يكذب من أجلك. لا يريدك أن تتذمر من طول الانتظار. ولا يريد أن يُفجعك الصدق. رجاء، لا تغيّر عاداتك.
"كل واحد يمتدح الآخر، فلا يعود أحد يلاحظ ذلك. كل كهل يجد من يبلّغه أنه يبدو أكثر شباباً من العام الماضي. كل عجوز تجد من يُطري خلوّ وجهها من التجاعيد. كل مخلوق له لقب أكاديمي. كل رجل من الطبقة الوسطى هو "دوتوري"، شاباً، وعندما يكبر يصبح "كومانداتوري". ومع التقدّم في السن والمكانة يتخذ اللقب العام "الرجل النبيل".
لا بد أن تكون أحداً ما. أي أحد. فقد علَّمهم ماكيافيللي درساً لا يُنسى: "مَن ليس له موقع في هذه الحياة، لن يجد حتى كلباً ينبح عليه". هل فهمت الآن لماذا يدفع المرشحون الملايين لصاحب الليستة؟ ويقابل ذلك في لبنان أن كل مثرٍ يصير شيخاً، أو بَيْكاً. الدكتوراه فقدت مفعولها لأنه لا يرافقها عادة حساب بنكي. إنها المجتمعات الفارغة، غير المنتجة وغير العاملة. عندما وصل ابن قريتي طوني صايغ الى نيويورك ذهب الى صديقه سهيل شماس. قال له سهيل: ثمة نصيحة واحدة تُعطى للقادمين الجدد في هذه البلاد: بعد الساعة الخامسة، أنت وروكفلر، تناديكما الناس بالاسم الأول. لا وقت للألقاب هنا.
يجب أن تحذَر شيئاً واحداً في إيطاليا: أن تكون ابن حلال.
FESSO، يُسمى هناك. ابن الحلال هو الغبي، هو الذي يُضحكُ منه وعليه، هو الذي يمكن أن تسرقه، الذي تبيعه النحاس بسعر الذهب، هو الذي يطيع القوانين ويتجنّب المشاكل: "أعدادهم تقلّ ولا أحد يعرف ماذا سوف يحلّ بالبلاد بعد انقراضهم".
"يتحدث الإيطاليون بإعجاب، فقط، عن السياسيين المشبوهين، أحياء أو موتى. عن الذين اتهموا بجميع أنواع الجرائم: الشذوذ، المعتدون على القاصرين، الفاسدون، الخوَنة، تلك الجريمة الأسوأ: الغباوة. الكفاية غير مطلوبة في المنصب ولا مرغوبة. صلة القربى هي الشرط الوحيد، أو النسَب". كم مرة سمعت لبنانياً يصف آخر بأنه "مسكين. ابن حلال".
يقلّد الإيطاليون الدول الصناعية في المظاهر، حرصاء دائماً على استبعاد العنصر الأخلاقي: "يتطلع الإيطالي إلى الكثير من قواعد السلوك العادل على أنها عبث مطلق. خُذ مثلاً القول الإنكليزي "لا ترفس رجلاً وقَع". الإيطاليون يعرفون أنه يجب عدم رفس رجل فقط إذا كان قوياً ويستطيع ردّ الرفسة على الفور، أو إذا كان يستطيع الانتقام لاحقاً، أو إذا كان له أقرباء أو أصدقاء نافذون، أو إذا كان يمكن أن ينفعك ذات يوم، أو إذا كان الشرطي شاهداً. وإلا لماذا لا ترفسه وهو على الأرض، فأي وضع أنسب من هذا الوضع؟ وفي دليل قديم للعبة الورق الشعبية (سكوبا) وضعه المونسنيور كيتاريلا من نابولي: القاعدة الأولى: حاول دائماً أن ترى أوراق خصمك".
كان موسوليني صحافياً ناجحاً. عرف كيف يثير القراء ويوسِّع انتشار الصحيفة التي يرأس تحريرها "أفانتي". "لكنه كان يخاطب غرائزالجماهير البدائية لا المثقفين والنخب. وتلك الميزات التي مكّنته من إثارة الناس جعلته رجل دولة كارثياً: ذكاؤه السطحي وسرعة انفعاله، قدرته على تبسيط الأمور وإعطائها طابعاً درامياً، متابعته فقط للأشياء اليومية الآنية التافهة، رؤيته الحزبية الضيقة، تجاهله للحقائق والدقة والموضوعية والاستمرارية، إذا أعاقت غاياته، قدرته على أداء عمله دون أي وازع أو تساؤل، وفوق ذلك طاقته على ركوب الموجة العاطفية السائدة ذلك النهار. المهم إثارة الجماهير.
"رفعت في القرى لافتات تقول إن "لا الله، ولا الانسان يمكن أن يحيده عن رأيه". الحقيقة أنه كان دائماً عنيداً، أصم عن النقد، يحاول إخفاء خوفه وعدم الثقة بالنفس. عندما كان رئيس تحرير "أفانتي" كان يرفع شعارات من نوع: فلتسقط الحرب. فليسقط السلاح. وأجرى استفتاء بين القراء: هل أنت مع الحرب أو مع السلام. وكتب مرة افتتاحية بعنوان: خائن الذي يدفعنا الى الحرب. وبعد أشهر قليلة مع حلول 1914 تزعّم حركة الدعوة الى الحرب.
أخفى شكوكه القاتلة خلف مظهر القوة والشدة. عندما انتقل الى صحيفة "شعب إيطاليا". كان يغطي مكتبه بترسانة من الأسلحة: قنابل يدوية، سيوف، مسدسات مختلفة الأعْيرة وخناجر. وكانت افتتاحياته مليئة بالاهانات والبذاءات لخصومه. وكان يرتدي غالباً قميصاً أسود مثل أتباعه، ويندّد بالرجال الحياديين والمحترمين، ويدعو أعداءه الى المبارزة، لكنه لم يشارك شخصياً في أي اشتباك. من بُعد لم يكن كل ذلك مرئياً. الحقيقة كانت بعيدة عن الصورة. كان هو كل شيء: المشرّع، القاضي، الرقيب، الشرطي، السفير، الجنرال. كان رئيس الحكومة، ورئيس المجلس الأعلى، ورئيس مجلس الوزراء، وحمل معظم الحقائب الوزارية، الداخلية، الدفاع، الخارجية، وزارة الجيش، البحرية، الجو، وزارة الاقتصاد. وغيرها".
عندما سافرت في صقلية وجدت أن أهلها حافظوا على بعض كلمات من العصر العربي، أهمها، "فلوس". وكانت صقلية مليئة بالنساء لابسات الأسود، مثل زغرتا ذات عصر أليم عبثي، كئيب، وأسود. ذهبت أعود في المستشفى البريسبيتيريان في نيويورك المطران اسطفان هكتور الدويهي، الذي لا يزال يصرّ على مناداته "الخوري هكتور".
لم يكن الخوري الرائع والنادر قادراً على الكلام، إلا من خلال آلة صوتية في عنقه. وكل ما فيه كان مربوطاً بأشياء الكهرباء والطب الأميركي المذهل. وعلى رغم كل التوسلات، أصرّ على أن يتحدث. يستريح من تعب الكلام ثم يُكمل. قال لي إنه كان قد هيأ ست ملاحظات ليكتبها إلي. وأصرَّ على تعدادها. أنشرُ منها اثنتين: إياك أن تحني رأسك الى اليمين أو الى اليسار أو الى تحت. الثانية: حاول دائماً أن تبحث عن الإيجابيات في لبنان، فهي كثيرة! وأعطاني الكتاب الذي وضعه عن أمه، "أم الخوري" وقدّم له الدكتور جورج فرشخ. يقول الخوري، الذي صُنّف شيوعياً عندما تحدّث بالعدالة مثل المسيح، إن أمهات زغرتا يرتدين السواد كي لا يبينّ الفارق بين أم فرحة وأم أخرى. ويقول الخوري إنه كان يؤمن بأن العذراء أمه، لكنه اكتشف أن الأم الزغرتاوية أمٌ أخرى. أم كبرى. أم تبقى أمومتها الى الأبد ويبقى ظلّها وطيفها ملء الحياة. مهما طال غيابها.
هل فهمت جيداً ما أعني، قال الخوري هكتور من الحنجرة الكهربائية؟ وعلى رغم كل تلك الأشرطة واللمبات وألوانها، كان وجهه مشرقاً مثل تفاح في إهدن. يبتسم، هذا الحبر العظيم التواضع، البهيّ النفس، يسترجع أنفاسه، ثم يكرِّر: لا تخيّب أملي، فتش دائماً عن الإيجابيات. فهي كثيرة.
يعرف الخوري هكتور أنني لا أصلّي على طريقته. ويعرف أيضاً، أنني، على طريقتي، لجأت الى السكينة في الله، أتوسله أن يتذكر دعاءات "أم الخوري".

(1) معظم هذا المقال مبني على كتاب "
The Italians"، لويجي بارزيني، الطبعة السابعة.

¶ في المقال السابق "المسألة المسيحية" الصادر في 30 كانون الثاني 2013، لم يرد سهوا اسم الدكتور موسى عبود الذي كان مستشارا للعاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني. فاقتضت الاشارة والاعتذار.
  •  

No comments:

Post a Comment