Friday, November 9, 2012

لبنان وصيغة «اللقاء الأرثوذكسيّ»:
مشـروع إنقـاذي لمنـع الاحـتراب

جورج عبيد
ليس الهمّ الغوص في جوف الخائف كما في جوف المخيف للاستنباط، وقد أظهرت الوقائع التاريخيّة والسياسيّة، أن الخائف سيصير مخيفًا والمخيف سيرضخ للخوف ويصير خائفًا. ولذا هما واحد. غير أن الهمّ هو اكتشاف الجميع الأسباب الموجبة التي أينعت الأطروحات الطائفيّة وعززتها وبات التعزيز كلّ الكلام، كلّ الشريعة. والأهمّ من كلّ ذلك، أن الخلل في العلاقة بين المكونات، الناتج من زرع الخوف والشكوك، يبيح الاحتراب من أنّى أتت مصادره. لذلك وجب التفتيش عن مشاريع تكوينيّة، تسعى إلى تأمين الحماية الذاتيّة، التي تعوّض عن الوصايات وما نجم عنها من أدبيّات وسلوكيات مقيتة وممجوجة للغاية.
من هذا الرحم أو السعي بالذات، ولد مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» الانتخابيّ. ليس الخوف مشتله أو رحمه، وبخاصّة ذلك الخوف الملتحم بمعادلة التواجد بين فريق أكثريّ، وفريق أقلويّ. ذلك أن الخوف لا ينتج مشاريع منقذة في كثير من الأحيان، بل ينتج فراغًا، كما الفراغ يسبّب الزوال.
إنّ هدف هذا المشروع من حيث الرؤية إبادة الخوف بلغة العقل، وإباحة التوازن بمعايير المنطق. وقد أصاب الرئيس نبيه برّي لمّا قال، بأنّ المشروع ليس هدفًا بل هو نتيجة، فالهدف أن يصطبغ الميثاق الوطنيّ ببهاء التوازن، ويترسّخ بتجسيد المناصفة الموضوعيّة على الأرض. إنّ رسوخ الطائفيّة، وما نتج منها من مخاوف وهواجس أدّت إلى صدامات وحروب، لا يعود أصله، وبالضبط، إلى مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ»، أو ما يشابهه من مشاريع. بل إلى الاختلال الذي اعترى الميثاق الوطنيّ - الذي سطعت مفرداته في العام 1943- حينما تداخلت القضيّة الفلسطينيّة بالقضيّة اللبنانيّة، وتحوّل هذا التداخل إلى حالة بركانيّة انفجرت على أرض لبنان وبلبنان أكثر من ثلاثين عامًا، قبل أن تطويها وثيقة قيل بأنّها ستعيد التوازن من جديد إلى الصيغة اللبنانيّة، لكن ازداد معها منسوب الخلل في علاقة الطوائف اللبنانيّة ببعضها البعض، وفي نظرتها إلى الكيان اللبنانيّ وماهيّته، على الرغم من إقرار الجميع بنهائيّة الكيان.
فالوثيقة، التي غدت دستور لبنان، وُئدت حين وُلدت. وُئدت بصفقات دوليّة - إقليميّة على حساب لبنان ونهائيّة وجوده، أو ديمومة تلك النهائيّة. وما لبث هذا الخلل أن انفجر تباعًا، في اعتراضات من جانب المسيحيين على سلوكيات الطوائف الأخرى بحقّهم، وبخاصّة حين أكلت حقوقهم في التوظيفات الإداريّة وما إليها. وقد بدا المسيحيون بفعل عمليّة وأد الطائف، «مستولدين في كنف مذاهب أخرى» منذ التسعينيات من القرن المنصرم، ولا نزال نحيا في سلبيّات هذا الاستيلاد المقيت الذي يحتّم الاختلال وينذر بالانفجار.
وما يجعل الأسئلة مشروعة لدى المسيحيين، هو اندراجنا في الصدام المذهبيّ الآخذ بالتفاعل أكثر فأكثر في بنية المشرق العربيّ، بفعل تداعيات الأزمة السوريّة الوجوديّة، ولبنان هو الأكثر قربًا منها. «فالاستيلاد» والتعبير لنائب رئيس مجلس النواب سابقًا إيلي الفرزلي، تفاعل كثيرًا في جوف هذا الصدام المذهبيّ، إلى حدّ الخوف الكبير من خلوّ لبنان من مكوّن تاريخيّ وجوهريّ ساهم بتأسيسه وتكوينه وإعلاء شأنه بين الأمم.
والمؤسف في هذا التراكم، بأن الساسة المسيحيين استطابوا بل استلذّوا الاندراج في ماهية الصدام من دون قراءة واعية ونقديّة لانعكاس هذا الصدام على وجودهم التاريخيّ، وإطلالتهم المستقبليّة في لبنان والعالم العربيّ. فكيف إذا أمسى الصدام المذهبيّ في لبنان مطلاًّ للصراع في سوريا وعليها في آن؟
لقد جاء مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» الانتخابيّ، وفي هذا الخضمّ ليقول بثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: تحرير المسيحيين من تلك المولوديّة المسخ. والتحرير يتطلب إرادة كيانيّة وذاتيّة ووجوديّة. ومن شأن الإرادة أن تتجسّد على أرض الواقع، حيث كلّ طائفة تنتخب ممثليها في المجلس النيابيّ. فرادة التحرير، تعيد المسيحيين إلى دورهم الطليعيّ كمكوّن سياديّ للبنان، وفي البعد الجيو- سياسيّ للصراع، تجعلهم حماة للمسيحيين العرب، بدءًا من سوريّا وصولاً إلى مصر. وإذا جئنا بهذه الرؤية وقمنا بقراءتها وبتؤدة، ألا نرى حينئذ أنّ قراءة «اللقاء الأرثوذكسيّ» تبقى استقرائيّة لما يمكن أن يبلغه لبنان، واستباقيّة بحيث تمنع العاصفة من الاقتراب بفعل استهلاك المذاهب الأخرى للإرادة المسيحيّة، وحجبها عن الوجود؟ «الاستيلاد» تأصيل كامل للحالة الطائفيّة، بالإطار السلبيّ، والذي يفرز صدامًا وانسلاخًا مع الأيّام لدى شريحة تعتبر مكوّنًا تاريخيًّا واساسيًّا وجوهريًّا للمدى اللبنانيّ.
الأمر الثاني: لم يدخل مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» المسيحيين في «غيتوات» مغلقة، تفصلهم عن الحلقة التواصليّة مع الطوائف والمذاهب الأخرى. وقد قرأ منذ تأسيسه، بأنّ المسيحيين كانوا مؤسسين للعروبة وللثقافة العربيّة، ولا يزالون على انكبابهم نحو عروبة بيضاء، تبقى مرجوّة أمام تصاعد القوى السلفيّة وطموحاتها للدخول في جنّة الحكم باسم الشريعة. لقد لفظ اللقاء بمشروعه وقراءته السياسيّة الواقعيّة ثقافة العزل والانعزال، حين تبنّى قول الرئيس نبيه برّي «لبنان دائرة واحدة». وأمعن في القول بأنّ كلّ طائفة تنتخب ممثليها في لبنان دائرة واحدة. حيث الانتخاب الذاتيّ، يكسر حدّة التلاشي في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، والتي جعلت المسلمين بمذاهبهم الثلاثة مستهلكين للإرادة المسيحيّة، فحجبت عنهم القرار والعمل الحرّ لسنوات عديدة، ومنعتهم من المطالبة بالحقوق العائدة لهم في المؤسسات والإدارات العامّة، فاستفضنا في الخلل، حتّى افترسنا. في حين أن انتخاب كلّ طائفة لممثليها في وحدانيّة الدائرة اللبنانيّة تخرج المسيحيين من حالة الاصطفاف، وتحيي التوازن في علاقة المكوّنات ببعضها البعض، وتطرح الخوف جانبًا، محقّقة المناصفة الفعليّة، ومعيدة الروح إلى الميثاق الذي كان قد تمزّق بفعل كلّ هذا التراكم الصداميّ. مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» في جوهره، إحياء جديّ واستراتيجيّ وواقعيّ - تجسيديّ، لمبدأ قبول الآخر، هذا الذي نادى به الأرثوذكس طوال تاريخهم وفي أدبيّاتهم.
«فالآخر ضروري حتّى التنفّس» كما كتب المطران جورج خضر. وانكباب «اللقاء» بمشروعه على تلك الثقافة بجوهرها وتفعيلها، يبيد ثقافة الانعزال التي سادت لبنان خلال حروبه من أجل الآخرين، ويوطّد العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، في إطار من المعيّة المتوازنة والفعليّة، حيث تمنع انزلاق تلك العلاقة نحو المعيّة المتلاشية، التي تذيب تاريخيّة المسيحيين في محصولهم النوعيّ بوهج الديموقراطيّة العدديّة، حيث يأخذ هذا الانزلاق لبنان إلى مشاريع احتراب تنقلنا من جديد إلى جحيم الموت المتنقّل. لا بدّ وأن يلتقي المنتخبون - الممثلون لطوائفهم في رحاب المجلس النيابي ويؤلّفوا الكتل الوطنيّة، بروح ديموقراطيّة متوثبة. فالتأليف، وبهذا المعنى، سيرتكز حتمًا على المعيّة المتوازنة التي تبيد الهواجس والمخاوف بالحريّة الذاتية ومبدأ قبول الآخر، وتكتب بأحرف من ذهب شراكة جديدة أو متجدّدة ومؤسسة للبنان حقيقيّ، ومنها يبزغ فجر المواطنة الكاملة.
الأمر الثالث: إنّ مشروع «اللقاء» استقى من مشروع فؤاد بطرس ما تمّ رفضه في انتخابات 2009 وهو النسبيّة، وهو مبدأ يعزّز حركة المواطنة متجاوزًا الطائفيّات السياسيّة. وهو مبدأ مكمّل للأمرين وموطّد للوحدانية اللبنانيّة المنشودة.
إنّ مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» استراتيجيّ وضروريّ في هذه الظروف التي تمرّ بها المنطقة. إنّه مشروع إنقاذي للجميع يرنو الى معالجة الطائفيّة السلبيّة والمتلاشية، بالطائفيّة الإيجابية والمتوازنة التي تمنع الاحتراب وتحجب الخوف وتعيد الثقة وتمنحنا الطمأنينة، وتنقلنا إلى روح السلام.
أمّا الإصرار على قانون 1960، فهو إمعان في زجّ لبنان بأتون الحرب السوريّة، التي ستُستورد إلى أرضنا وتجعل النار تأكل أرزنا. لبنان سيحيا في هذا المشروع وستكتب له الحياة الجديدة. والمسؤوليّة ليست ملقاة على عاتق المسلمين سواء تفهمّوا أم لم يتفهمّوا هواجس المسيحيين، بل هي ملقاة بالدرجة الأولى على كاهل القادة المسيحيين، والموارنة بصورة خاصّة.
([) كاتب وناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»

No comments:

Post a Comment