Tuesday, November 27, 2012


·         سمير عطاالله
·         2012-11-28
ذات يوم من 1971 صدرت "النهار" وعنوانها الأول "مصرتنقلب". أي تغيّرت معالمها. فقد نقل أنور السادات، رئيس الوزراء السابق علي صبري، من "مراكز القوى" الى السجن ومعه رفاقه من وزراء اليسار. كانت تلك الخطوة الأولى في تصفية الناصرية وانتقال الصحافة وأخذ مصر من دون سؤالها، الى "كمب ديفيد". بل سوف يأخذها الى القدس، من غير أن يقف على رأيها أولاً.
تعوَّدت مصر أن يكون الحاكم هو الفرعون. وللفرعون وكالتان: واحدة من ذاته، باعتباره ممثل الآلهة على الأرض، والثانية من البشر، باعتباره فوقهم. تدخل الثورة كفاصل موقت، يعود فيه الرئيس بشراً لفترة قصيرة، ثم يتذكر فجأة أن مصر هبة النيل، وأنه هو النيل الآخر. هو القائد وخلفه 80 مليوناً، يُطلق عليهم في العالم العربي لقب الشعب. للتحبّب، والتربيت على الظهور.
غالباً، تُنادى هذه المجموعات والمخلوقات باسمها الواقعي، كما في السينما الإيطالية، أي "الشارع العربي"، الذي يُعرف في سائر بلدان الأرض بـ"الرأي العام". حيث يعبِّر عن نفسه ومطالبه وأهدافه، من خلال المؤسسات. تسقط الحكومات وهو باقٍ. ذهب هذا الى صناديق الاقتراع وأسقط أبرز ثلاثة سياسيين في القرن العشرين: ونستون تشرشل، شارل ديغول، مارغريت تاتشر. حاشية: الإثنان الأولان أشرفا على إنقاذ بريطانيا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية، أما السيدة المذكورة آنفاً فقد أنقذت بريطانيا من الشعارات المهترئة ومن أكوام القمامة التي طمرت المدن.
تشرشل ذهب الى يخوت الأصدقاء، ومعه سيجاره، وبقية اللوازم كانت متوافرة على اليخت. وذات مرة أراد أن يمدح فرانكلين ديلانو روزفلت أقصى المديح، فقال: "إن لقاءه أمتع من زجاجة شمبانيا". أما أمير فرنسا، فقد ذهب، كما تعرفون، الى كولومبي كي يقايض كاهن البلدة على قطعة أرض يضمها الى حديقة "البواسيري"، وأما البارونة تاتشر فإلى الريف البريطاني. ما أجمل أن يُحكم على المرء بالعزلة في الريف البريطاني.
علي عبد الله صالح، في صنعاء، ولن يغادرها. يحكمه أرق يمنعه من النوم خارج القصر، بعد 33 عاماً، تغيّر خلالها رؤساء أميركا وانقلبت روسيا من الاتحاد السوفياتي الى الجمهورية الاتحادية، حيث يتناوب فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين على الكرملين، مرة بلقب فخامة الرئيس، ومرة بلقبين: دولة فخامة الرئيس السابق، صاحب الدولة الحالي.
يجب أن نأخذ دائماً في الاعتبار الفارق بين الأمم التي نشأت على ثقافة الرأي العام، وتلك التي خدَّرت القوم على أنهم مجرد شارع يهتف "بالروح بالدم"، ثم يهتف هو نفسه ضد الروح والدم في اليوم التالي. الفارق بين مجتمع حرّ، عامل، منتج، وحريص على ما حقق وما يملك، وآخر لا يملك شيئاً سوى البطالة والابطال.
تمرّ في حياة الشعوب والأمم مراحل ومنطلقات ذهبية: الرأي العام يتلقفها ويمضي بها قدماً. الشارع، يمشي فوقها. ذات مرة ذهب الشيخ بشارة الخوري للقاء مصطفى النحاس باشا، وللوقوف على خاطر مصر في استقلال لبنان. يا للرجلين. يا للمرحلتين. ويا للبلدين. ويا للزمن العربي الجميل. كان النحاس باشا رئيس وزراء مصر، وكان في الوقت نفسه معارض فاروق. وكان شريكه في أمانة الوطن القبطي مكرم عبيد، الذي على اسمه سوف يُسمي غسان تويني ابنه مكرم. ولم تكن مصر تحترق. كانت تزدهر وتغبطها الأمم. وكانت في سعة لا في قبضة.
عابر، لا يدوم، فرح هذه الأمة. دائماً هناك من يكمن لفرحها عند أول مفترق. كم عاشت ثورة 25 يناير؟ جاء محمد مرسي عيسى العياط عبر صناديق الاقتراع وها هو يُبلغ الأمة أن ناخبه الأول كان الله. أول شيء رماه من النافذة كان القضاء. أول شيء فعله الحكم العسكري أنه أرسل زمرة تقتحم مكتب أبي الدساتير العربي، عبد الرزاق السنهوري، وهي تهتف: "لا حرية ولا دستور". ماذا إذاً؟
كان عبد الناصر يملك ما لم يملكه أحد: المصريين المؤتلفة قلوبهم. وكانت قدرته أن يأخذ "المحروسة" أنّى شاء، لكن المؤسف أن العسكري في الرجل، حال دون تقدير معاني الحرية وأبعادها. لذلك وصل أعداؤه الى الحكم، بعد أربعة عقود من يوم خرج خمسة ملايين مصري في وداعه. خطف الإخوان 25 يناير وردموا ما بقي من 23 يوليو، والآن يسنّ محمد مرسي القوانين ويمنع "الطعن عليها". باسم الدستور لا باسم الانقلاب.
"الفرعون"، سمّاه الرجل المتواضع والآدمي والمتزن والمتعفف، محمد البرادعي. "الديكتاتور" كتبت الصحافة المصرية الأهلية. هل تكون الخطوة التالية لمرسي قلب الصحافة، في بلد "الأهرام" وعصر النهضة؟
حُرم العالم العربي المؤسسات وأعطي الرجل الواحد. يجسّد وحده كل شيء. وإذا دعت الحاجة يأمر لنفسه بصلة بنسب الرسول كما فعل صدام حسين، أو يكون هو نفسه "رسول الصحراء" كما فعل معمر القذافي، الملازم في ثكنة بنغازي. أو يصير "صلاح الدين" بن يوسف الأيوبي، من دون انتصار واحد، ومن دون أي مسحة من تلك النفس السمحاء العظيمة، التي جعلت مهزوميه يحبونه أكثر من أنصاره.
بهذا المعنى، أضرّت بنا عصور الزهوّ. لم نستطع أن نستعير منها سوى الألقاب. لاحظ الأسماء الحركية الشائعة اليوم. لاحظ الفارق. لاحظ اليأس. لاحظ الهوان. الجريدة الضوئية في "روكفلر سنتر" هنا في نيويورك، تعلن مساء الثلثاء أن عدد القتلى العرب في غزة 165 وعدد الإسرائيليين خمسة ويسمي العرب ذلك انتصاراً. لماذا؟ لأن لا قيمة للإنسان العربي الذي يقطن الآن خيام تركيا الموحلة وخيام الأردن الصحراوية القارسة القاسية الجرداء.
وضع الراحل العزيز رفيق المعلوف، الركن الضائع في الصحافة اللبنانية، سَفراً نفيساً بعنوان "النفس العربية". أما كان ليندم لو رأى الفظاظة التي حلّت بها؟ العزة للعرب، مشرّدين جائعين بردانين خائفين، أو "مذلين مهانين" كما في رواية دوستويفسكي؟ فظيع الحاكم العربي. شجرة ومقطوعة. كل ما ومن سبقه "عهد بائد". أراد القذافي حتى أن يغيّر التاريخ وفق السنة الهجرية، أو السنة الهلالية، كما كان يسميها نهضويو مصر. وعندما اغتال عبد الكريم قاسم العائلة المالكة في العراق، لم يُبقِ أحداً، كما فعل البلاشفة في آل رومانوف. لا قبل ولا بعد. فقط أنا، ومَن حولي. أولاً وأخيراً. ولمدافن الشهداء أكاليل في تذكار الموتى أو في بداية الحملة الانتخابية. على رؤوس الشهداء لا على رؤوس الأشهاد.
لامني كثيرون إذ أبديت حذري من الربيع العربي. خيِّل إليهم أن في ذلك دفاعاً مضمراً عن النظام العربي الفاقع والصلف وعادم الحريات. أنا كنت أعرف من مشاهداتي أن الربيع لا يُصنع في الشارع. يصنعه المتنورون والمشغوفون بالحرية وسعد زغلول وأحمد شوقي. نزلت مصر برمتها الى ميدان التحرير تطالب بسقوط مبارك ومسعى التوريث. كان "الإخوان" في الانتظار. لمّا استوت... قطفوها.
رفض الله تعالى عرض النبي إبرهيم بأن يذبح له ابنه. الحاكم العربي يرفع يده بالتحية للذين يطلقون الهتاف المريض، بالروح بالدم. أليس هو أغلى من بلده؟ أليس الشعب إلا شارعاً هتّافاً وجماعة عاطلة عن العمل هاجسها قُوت النهار ورعب الشرطي. كل رئيس مصري أرسل معارضيه الى السجون. الكاتب صلاح عيسى فَرِحَ عندما رأى في السجن الى جانبه، شمس بدران. كان بدران هو من أرسله الى القاووش نفسه في المرة الأولى. أرسل عبد الناصر مصطفى أمين الى ليمان طره ثم ارسل السادات محمد حسنين هيكل. الملك فؤاد كان ينفي الشعراء الى باريس والأندلس. وكذلك الاستعمار البريطاني.
كانت مصر تنتظر خروج مبارك ووصول خَلَفه كي تخرج من صدأ النظام وقبضته واستعباطه لـ"أم الدنيا" هو وزوجته وأبناؤه. لقد سئمت مدن المقابر حول القاهرة. وبلغت أثمان الفساد والترهّل 170 ملياراً في عجز الموازنة وتريليون جنيه من الدين الداخلي. فيما يعيش نصف شعب مصر على مستوى الفقر كما قال عمرو موسى لغسان شربل في "الحياة". حان وقت مُنقذ يخرج من صفوف الناس وصَدِّيقي مصر فإذا المنقذ هو الخاطف. هو وكيل العزة الإلهية ووصيّ الأمة.
ابتهجت مصر (والعرب) بما جرى: انتخابات أولى بلا مساخر، ورئيس مدني أول من دون أرقام هزلية. ولكن قبل مضي نصف سنة على فوزه كان المدني الأول يعتمر قبعة عسكرية فوق اللحية الدينية. الأرض والسماء وما بينهما وما إليهما. وما بعدهما الخلود وهرم يُبنى خصيصاً. استعداداً للعودة.
مخلّد الحاكم العربي ومعصوم "لا يطعن على قراره". وما يحدث لغيره لا يحدث له. هكذا اعتقد زين العابدين بن علي ومعمر القذافي وحسني مبارك، الذي حُمل الى المحكمة على نقالة طبية. لا يتعلم الحاكم العربي الأمثولة المكررة: هذا الشارع يضحك منك عندما يهتف "بالروح بالدم". لأنك أخذت رغيفه ورئته وارتضيت منه الحنجرة فأعطاك إياها. وغداً يعطيها لسواك ويهتف فرحاً لخروجك. أيها السيد الرئيس، تذكّر شيئاً واحدا: هذه مصر.

No comments:

Post a Comment