Friday, January 11, 2013

مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، مشروع ميثاقيّ لبنانيّ

جورج عبيد
خلال مناقشة الدستور الذي كتبه ميشال شيحا سنة 1926، قال شبل دمّوس وهو نائب ومشرّع كبير في ذلك الوقت: «أنا أحتقر الطّائفيّة، ولكن يجب التشبّث بها، لأنّني لا أريد أن تتمزّق الوحدة، لا تتجاوزوا الواقع لئلاً تسقطوا». جاءت المناقشة، والتي ثبّتها مشروع اللقاء في متن أسبابه الموجبة، لتؤكّد، أنّ تكوين لبنان مسبوك طائفيًّا ومذهبيًّا، ولا يمكن محوه والخروج عنه حتّى لا تتمزّق الوحدة. ذلك أنّ الوحدة - وهذا ما أثبته التاريخ اللبنانيّ المعاصر والحديث - تنبع من تلاقي الإرادات الحرّة والقويمة واستجماع الرؤى المضيئة، وتؤمنّها المناصفة الموضوعيّة في التوزيع، وهي، تاليًا، جزء لا يتجزّا من الميثاق الوطنيّ، حيث ترسّخ التوازن في القراءة السياسيّة للحالة اللبنانية، ومسيرة الدولة.
وإذا عاد بعضنا إلى الواقع اللبنانيّ في قراءة عميقة، لاكتشف توًّا، أن الخطاب اللاّطّائفيّ كان مجرّد توق، ولم يتجسّد على الأرض في نظام جديد، أو هيكليّة نظام جديد. وهذا معطوف على الحالة العربيّة بصورة عامّة، إذ هي بنيت على الرؤى الدينيّة أو الثيوقراطيّة. وفرادة النظام اللبنانيّ السياسيّ، أنّه حرّر اللبنانيين من الانكماش الثيوقراطيّ إلى المناصفة التي فيها يتوزّع اللبنانيون على الدولة والوظائف العامة بمفرداتها، والمناصفة أمنّت ولو بحدود دنيا وحدة منيعة بوجه التفتيت الذي هيمن على العالم العربيّ في الآونة الأخيرة، والأحداث في سوريّا تثبت ذلك.
ولذلك لا معنى لما يقال أو يعطى من توصيف، لمشروع اللقاء بأنّه كتب من خارج الحدود. في الأساس، إنّ معظم التسويات سواء اتفاق الطائف أو اتفاق الدوحة الذي رسّخ قانون 1960 تمتّ خارج الحدود. والقائلون بذلك نمت رؤاهم السياسية في لبنان من خارج الحدود في حقبة معينة من التاريخ. فالمشروع كتب في مقرّ اللقاء في الأشرفيّة، وجاء نتيجة قراءة معمّقة شاركت فيها شخصيّات كبرى، منها من هم يتبوّأون مراكز كبرى في الدولة. وارتكز المشروع من دون التباس على اتفاق الطائف، والذي أمسى دستور لبنان. وقدّم ذاته بحلّة ميثاقيّة تعيد الاعتبار إلى جوهر العلاقة المسيحيّة - الإسلاميّة، في سياق متحرّر من ثقافة الاستيلاد المذهبيّ، وهو الذي أحدث الخلل الكبير، وبخاصّة حين قاطع المسيحيون الانتخابات في سنتي 1991، و1996...ولمّا عادوا في العام 2000، دخلوا السلطة مهيضي الجناح. وترسّخ الضعف أكثر سنة 2005، عبر التحالف الرباعيّ، فجاء الإطباق على المسيحيين كاملاً بعد خروج السوريين من لبنان، وترادف هذا الأمر في سنة 2009، ممّا أضعف دورهم في إدارة الدولة اللبنانيّة، وضعف وجههم التكويني المضيء للبنان.
يعالج المشروع، الذي يناقش في اللجنة النيابيّة المصغّرة، هذا الخلل عينًا. وهو خلل جوهريّ وغير عابر. وبإمكانه إذا عطف على ما يجري في سوريّا، أن يجعل النظام السياسيّ اللبنانيّ برمتّه تحت دائرة الخطر المتزايد، إذ إنّ العلاقة المسيحيّة-الإسلاميّة هي المؤسسة لهذا النظام. ولذلك دعي النظام اللبناني مركّبًا على أساس متوازن دقيق. وتأسّس ذلك على المادّة 24 من الدستور (رقم 18)، والمعدّل بتاريخ 21-09-1990، «توزّع المقاعد النيابيّة وفقًا للقواعد الآتية:
أ - بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين
ب - نسبيًّا بين طوائف كلّ من الفئتين
ج - نسبيًّا بين المناطــق، وبصـورة اسثنــائيّة ولمرّة واحدة».
والمادة 95 من الدستور عينه، وفي التعديل عينه، انطلقت من المادة 24، حين قالت: «على المجلس النيابي المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفيّة السياسيّة وفق خطّة مرحليّة، وتشكيل هيئة وطنيّة برئاسة رئيس الجمهوريّة...» وكأنّ المشرّع في هذه المادّة ارتأى أنّ شرط إلغاء الطائفيّة السياسيّة في لبنان، الانطلاق من فعل المناصفة ودورها في تأمين حيثيّات هذا الإلغاء في مراحل مقبلة. واستطرادًا، وحين تمّ الكلام سنة 1996 على إلغاء الطائفيّة السياسيّة مقابل مشروع الزواج المدنيّ الاختياري في عهد المغفور له الرئيس الياس الهراوي، ولم تكن المناصفة قد تحققت بعد، سأل البطريرك بشارة الراعي، الذي كان مطرانًا على جبيل في ذلك الوقت، إذا تمّ إلغاء الطّائفيّة السياسيّة فما هو البديل؟ إذ الطائفيّة السياسيّة في لبنان هي جوهر نظامه وتكوينه السياسيّ، من رأسه إلى أخمص قدميه. ويأتي كلام غبطته صدى لشبل دمّوس في سنة 1926.
في الواقع المعيش، وفي عواصف المنطقة الوجوديّة، يجب الإقرار بأن مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ»، إطلالة جديّة على الحالة السياسيّة اللبنانيّة. والإطلالة ترنو إلى إعادة الاعتبار للمادّة 24 من الدستور، والسبيل الوحيد لذلك، الدمج بين النسبيّة ولبنان دائرة واحدة وانتخاب كلّ طائفة لممثليها في المجلس النيابيّ. ذلك أن التمثيل المسيحيّ في اصطفافه السياسيّ والحزبيّ صار هجينًا وعبثيًّا، بعد أن أطبق هذا الاصطفاف الممارس من الطوائف الأخرى على الدور المسيحيّ الاستراتيجيّ في ديمومة لبنان. وقد كان في مراحل تاريخيّة حاميًّا للمسيحيين العرب، بإقرار كبار منهم في سوريا ومصر.
والسؤال الموجّه إلى النواب المسيحيين المستقلين: حين ترفضون مشروعًا كهذا يعيد الاعتبار إلى المسيحيين في لبنان، وإلى العلاقة الجديّة والمتوازنة بين المسيحيين والمسلمين، ويحرّر البلد، بسبب الخلل، من الحروب الطائفيّة والمتمذهبة، فما هو البديل الذي تشاؤونه؟ وكيف هو مشروع يبيح الاحتراب طالما هو مرتكز على الدستور اللبنانيّ؟ ولكم ما قاله الخبير الدستوريّ والسفير جوي تابت في جريدة النهار (امس الاول): «إنّ المناصفة الفعليّة في عدد النواب بين المسيحيين والمسلمين أصبحت حقًّا ميثاقيًّا دستوريًّا مكتسبًا لكلّ من الفريقين لا يمكن مخالفته أو الخروج عنه إلاّ بوضع ميثاق دستوري جديد. كلّ قانون انتخاب يعيد ممارسة الديمقراطيّة العدديّة ويخلّ بمبدأ المناصفة الفعليّة - ولو بنائب واحد - هو مخالف للميثاق الوطنيّ الجديد الذي أقرّ في الطائف، ومخالف للفقرة 2 للمادة 24 من الدستور، ومخالف لميثاق العيش المشترك المكرّس في الفقرة «ي» من مقدّمة الدستور» .
مشروع اللقاء الأرثوذكسي، إحياء للطائف الذي وأده من سعى إلى سلخ المسيحيين عن قرارهم الوجوديّ «بوالديّة»، جعلتهم مستولدين في كنفهم، وفي الوقت نفسه، مهملين ومتلقّين ومهمّشين في الدائرة اللبنانيّة والعربيّة. فاقبلوه حتّى لا تحجبكم لعنة التاريخ. وفرادة لبنان هي بهذا اللقاء المسيحيّ-الإسلاميّ البديع، والمناصفة بداءة الفرادة وقلبها وجوهرها.

< المقال السابقرجوعالمقال التالي >
Bookmark and Share
إقرأ للكاتب نفسه

No comments:

Post a Comment