Tuesday, January 29, 2013


المشروع الانتخابي الأرثوذكسي ليس سيئاً جداً!
بقلم محمد شيا
  •  البطريرك الراعي مجتمعاً مع "اللقاء الأرثوذكسي".
  • استاذ في الجامعة اللبنانية
  • 2013-01-29
المشروع الانتخابي الأرثوذكسي سيىء، نعم. كذلك هي، بشكل أو بآخر، كل القوانين الانتخابية الأخرى في لبنان.
المكمن الحقيقي لكل السوء أو الخلل في كل القوانين الانتخابية اللبنانية، القديمة أو المقترحة، هو التناقض الممسك بالحالة اللبنانية وغير القابل للحلّ – كما يبدو – بين بنية اجتماعية تقليدية من جهة ومحاولات التجديد والتحديث السياسي "التمثيلي" من جهة ثانية.
أهمية المشروع "الأرثوذكسي"، والمغزى العميق فيه، هو الإعلان بشكل غير معلن عن توقف العمل في ورشة تحديث الحياة السياسية اللبنانية. والأكثر خطورة في الإعلان هذا أنه صادر عن الشريحة الاجتماعية التي كانت، حتى الآن، وفي غير مجال، الأكثر حداثة وتحديثية لا في لبنان فقط، وإنما في المنطقة العربية قاطبة – المسيحيين.
لذلك أسباب بعيدة وقريبة. في بعض أسبابه البعيدة أن مشروع التحديث قد تعرّض في الغرب نفسه، المهد الأول للحداثة، لضربات متلاحقة، وبخاصة بعد سقوط النموذج الرأسمالي الليبرالي "الإنساني" – لسقوط منافسه الاشتراكي – والجنوح الشديد من ثمة نحو نمط مغرق في رأسماليته الفجّة، في جانبه الاقتصادي الاجتماعي، ومغرق في مسيحيته/اليهودية، لجهة مرجعيته الدينية، ومغرق في مركزيته الغربية، لجهة سياساته الثقافية. وقد جرى هذا التحول تحت تأثير مفكرين كبار، وعلى رأسهم هنتنجتون وفوكوياما وبرنارد لويس، وقادة أساسيون، من وزن تاتشر وريغان وبوش، وسياسيون رجعيون بامتياز، من مثل ريتشارد بيرل وبول وولفيتز وسائر المحافظين الجدد في أميركا.
وفي بعض أسبابه القريبة، التي تعنينا أكثر، هو تصاعد قوة الموجة الرجعية الإسلاموية، بدءاً من مصدريها، نجاح الإسلاميين السلفيين (السنّة) في طرد السوفيات من أفغانستان وتداعيات ذلك، من جهة أولى، ونجاح النمط الإسلامي الأصولي المرجعي المتشدد (الشيعي) في إيران، في دفنهما معاً أي تفكير في تحديث عربي أو إسلامي وفق الخط الحداثوي الأوروبي – وكما كان اعتقد قبل قرن من الزمان الإمام محمد عبده وأصحاب الفكر الإسلامي التنويري الآخرين.
انعكست تداعيات العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الانهيارين، البعيد والقريب، في نتائج كارثية ناء تحت ثقلها النسيج الديني/الاجتماعي لمجتمعات المنطقة العربية، وانعكست في تصاعد غير مسبوق للأصوات الأكثر رجعية وطائفية في الحركات الإسلامية الإقليمية، عبّر عن نفسه في أسلوب مخيف من أفكار وممارسات العداء الصارخ للآخر، الديني والثقافي وحتى السياسي والاجتماعي، وما أسفر عنه من تهجير طوعي أو قسري للمسيحيين من العراق ومصر وفلسطين، وأخيراً سوريا، الأمر الذي استحضر في المقابل تشدداً مسيحياً غير مسبوق أيضاً – وإن يكُ رمزياً وغير مادي في الغالب.
مع رؤية هذه التحولات التي تسارعت، في العالم وفي منطقتنا، في عقدين أو ثلاثة، وليبلغ السيل زباه في ما يجري في سوريا. وانطلاقاً من القانون الطبيعي، قبل السياسي، في الفعل ورد الفعل في الاتجاه نفسه والقوة نفسها. يمكن فهم الهواجس وبواعث القلق التي خيّمت على منتديات التفكير المسيحي المفتوحة – ومنها اللقاء الأرثوذكسي – وعلى الاجتماعات المسيحية المغلقة، وأهمها في بكركي، والتي قادت في الواقع إلى بلورة "صرخة" مسيحية عامة – أكثر منها أرثوذكسية ضيّقة – للفت النظر، في رأيي، إلى ما هو أهمّ بكثير وأعمّ بكثير من فكرة إنتخاب المسيحيين لنوّابهم وزيادة حصص أحزابهم "العصبوية" في الندوة النيابية.
هذا المنطق "التاريخي-التحليلي" الذي يقرأ المقدمات البعيدة والقريبة العميقة للمشروع الانتخابي الأرثوذكسي، ويجعل تقدمه "المفاجئ" إلى مقدمة المشهد السياسي اللبناني أمراً مفهوماً، بل مبرراً، يطرح هو نفسه على أصحاب المشروع هذا، وعلى المفكرين المشتغلين عليه، محظورين اثنين يخشى أن يؤديا إلى موت المريض الذي كنا نسعى إلى علاجه. المحظوران أو الإشكاليتان الكامنتان في قلب المشروع وتداعياته، هما:
الأولى، إشكالية تقنية، وهي أن قوة النظام السياسي اللبناني منذ ما بعد ثورة 1958، إنما كانت في مرونته. أي نجاحه، ورغم ما يبدو عليه خطأ من ضعف، في الاحتفاظ بقابلية تكيّف لافتة سمحت له عملياً، وكي لا نكون نظريين، بأن يكون في أوقات مختلفة متعاقبة ناصرياً، سورياً، فلسطينياً، مسيحياً، سنياً، شيعياً، ثم أن يتخلص بسرعة ومن دون أثمان مستحيلة من "لبوس" كل مرحلة سابقة وليدخل في "لبوس" مرحلة جديدة، وهكذا دواليك. بعض سرّ المرونة تلك هي قوانينه الانتخابية "المتكيّفة" باستمرار مع الموجة المهيمنة، فتعبّر مرة عن صعود هذا التيّار ومرة أخرى عن تراجعه وصعود سواه. لذلك تأتي التيارات أو تذهب، ترتفع الأمواج المؤثرة أو تضعف، والنظام السياسي اللبناني في الحالين باق. ما نخشاه، عملياً، هو أن هذا القانون الانتخابي الأرثوذكسي، وقد ذهب بالسرّ اللبناني المحلّي إلى أقصاه، لا يسمح بالعودة السهلة – حين تكون العودة ربما ضرورية غداً أو بعد غد.
باختصار، وفي ما خص النقطة الأولى، يبدو ’التشدد’ الذي يظهره القانون الأرثوذكسي العتيد، وأن يك مبرراً، نقيضاً لطبيعة القوانين الانتخابية اللبنانية المتعاقبة، ولطبيعة النظام السياسي اللبناني نفسه، الذي أثبت في أكثر من نصف قرن أنه أكثر استقراراً واستمراراً من سائر الأنظمة المحيطة – وبسبب من مرونته.
الثانية، إشكالية سياسية، ربما تكون أكثر خطورة. إن أحد أشد الحسابات خطأ لبعض السياسيين والسياسات اللبنانية، غير مرّة، وفي معزل عن صحتها أو عدم صحتها، هو رهانها – وقد تبيّن خطأ ذلك – على قدرتها على تحقيق خرق سياسي أو اجتماعي كبير في لبنان في معزل عن المنطقة العربية المحيطة، وخصوصاً إذا كان مغايراً بقوة لها. ولنا مثالان قويان على ذلك: تجربة كميل شمعون السياسية في الخمسينات، وتجربة كمال جنبلاط والمشروع التحديثي للحركة الوطنية اللبنانية سنة 1976.
في المثالين أعلاه، لم يسقط المشروع السياسي اللبناني بسبب من طبيعته أو نوعيته أو صحته أو خطئه، وإنما ببساطة بسبب من "محليته" الزائدة، أي عدم أخذه خصوصية العلاقة اللبنانية بمحيطه بما هي عليه من أهمية وقوة وربما الكلمة الفصل في كل شيء. تلك هي الإشكالية السياسية الكبيرة التي يغفل عنها المتحمسون للقانون الأرثوذكسي الانتخابي، وبخاصة الشباب منهم.
وأحسب أن أحد معاني اجتماع السياسيين "الأكبر سنّاً" وبالتالي خبرة في منزل النائب بطرس حرب هو لفتهم نظر المسيحيين الآخرين، وبخاصة الموارنة الشباب، لاهوتيين وعلمانيين، إلى "الحقيقة اللبنانية" الراسخة أعلاه والمستندة إلى محددات جيو – سياسية صارمة ترتقي ربما إلى حد الحتميات التي لا تحتاج إلى موافقتنا، أو رأينا، ليكون لها في الغالب الأرجح من الحالات – حتى لا نقول دائماً – الكلمة الأخيرة. وهذا هو "مكر" الحتمية كما يقول هيغل.
في ترجمة عملية مباشرة للإشكالية الثانية، نقول باختصار شديد، أنه من أجل الفوز بالمقاعد المسيحية في مجلس النواب وربما التحكم بالسياسة اللبنانية كذلك، يجب أولاً أن يبقى لبنان. إذ لا معنى، مثلاً، لامتلاكك الورقة الرابحة للجائزة الكبرى في اليانصيب، إذا لم يعد هناك من أرصدة لليانصيب أو لم يعد هناك من وجود لليانصيب نفسه.
للسببين أعلاه، يجب التروّي في مقاربة القانون الأرثوذكسي الانتخابي، ومن باب المصلحة العليا للبنانيين كافة، مسيحيين وغير مسيحيين.
نكرر القول أن أحد أهم إنجازات القانون الأرثوذكسي، تحقق أم لم يتحقق، هو أنه طرح الأسئلة "المسيحية" الصحيحة والمحقة والمبررة. ويبقى أن الإجابة على هذه الأسئلة ليست وقفاً على المسيحيين وحدهم، بل على شركائهم المسلمين كذلك، كما سائر المكوّنات الاجتماعية والدينية للوطن اللبناني – إذا أردنا أن يبقى لنا وطن!

No comments:

Post a Comment