Tuesday, January 8, 2013

الانتخابات.. والمناصفة

جورج عبيد
يدشن الإجماع السياسي المسيحيّ الأول من نوعه حول مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» مرحلة سياسية جديدة، ويعود الفضل في ذلك للرؤى التي أبداها البطريرك بشارة الراعي، فيما العاصفة الوجوديّة والكيانيّة الهابّة في سوريّا، تهدد بالمزيد من التمزّق والتبعثر المذهبيّ.
تلك الرؤى المولودة من قراءة البطريرك الماروني للمرحلة الجديدة والرافضة لقانون الستين، تنبع في جوهرها من الأسباب الموجبة التي طرحها «اللقاء الأرثوذكسيّ» في مشروعه. وليست بكليّتها محصورة بمسيحيي لبنان، بل تثب نحو المسيحيين العرب، إنطلاقًا من معالجة مسألة الحضور المسيحيّ في لبنان عن طريق استعادة قرارهم الذاتيّ، وتوظيف هذا القرار، في رفعة لبنان. والرفعة يكتبها التوازن الوطنيّ والميثاقيّ. ذلك أنّ تحرير المسيحيين من ثقافة الاستيلاد يحرّر المسلمين بدورهم من تاريخ شكوا منه غير مرّة، وهو تاريخ المارونيّة السياسيّة التي اتهمت بالتفرّد بالسياسة اللبنانيّة.
ومن الواضح أنّ الكيان اللبنانيّ بني في جوهره على اللقاء المسيحيّ-الإسلاميّ، المؤسّس على روحيّة الميثاق. غير أنّ التجسيد مني بكثير من العطب والتفسّخ، إلى أن بلغنا مرحلة الصراع المذهبيّ بين المسلمين أنفسهم، الأمر الذي أخذ المدى اللبنانيّ إلى المزيد من التراكم السلبيّ، وجعل المسيحيين منقسمين بنيويًّا في هذا الصراع. ان أهميّة المشروع المقدّم من «اللقاء الأرثوذكسيّ»، أنّه لا يحرّر المسيحيين من هذا الصراع المذهبيّ، بل يحرّر السنّة والشيعة من التصادم على أرض لبنان، ويجذب الصراع إلى داخل كلّ طائفة ومذهب بامتداده السياسيّ-الانتخابيّ، حتّى تولد منه كتل وطنيّة جديدة تقود المدى اللبنانيّ إلى الصراع السياسيّ الوطنيّ، بمسرى ديمقراطيّ ينفض عن كاهله المعايير الديموغرافيّة صعودا ونزولا. إذ ذاك فقط يتحرّر اللبنانيون من هاجس الصراع الطائفيّ والمذهبيّ الذي امتدّ لسنوات طوال، تارّة بين المسيحيين والمسلمين، وتارّة أخرى بين السنّة والشيعة، لينحصر بالطائفة الواحدة، مبيحًا التنوّع السياسيّ، الذي حتمًا سيقود إلى تسوية وطنيّة كبرى تدني اللبنانيين إلى مرحلة تأسيسيّة جديدة للكيان اللبنانيّ بمفردات تحفظ له حضوره بين الأمم، وتبقي المسيحيين ذاك الجزء المكوّن الذي يحتاج إليه المسلمون جميعًا، وتعيد إليهم ريادتهم في العالم العربيّ.
إن الإجماع المسيحيّ بعامّة والمارونيّ بخاصّة على مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ»، لا يمكن أن يكون امتحانًا للمسلمين فحسب، بقدر ما هو امتحان لمعنى حضورهم السياسيّ في لبنان، ذلك أنّ الشيعة والسنّة والدروز، يوظّفون قراءاتهم السياسيّة في سبيل الحفاظ على ريادتهم الكاملة للدولة اللبنانيّة، ويتجلّى ذلك في تموضع عدد من فرقائهم في أحلاف ولقاءات تبقيهم ذلك النبض المحيي ليس للبنان أو الوسطيّة السياسيّة فيه، بل ذلك النبض المذهبيّ الذي لا غنى عنه، وهو بدوره نبض جوهري وتاريخيّ من دون أدنى شكّ.
لكن السؤال المطروح، بعد إجماع المسيحيين على مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ»، وفي ظلّ التفاوض عليه، والنتيجة التي سيؤول إليها التفاوض، أين وكيف يمكن أن نوظّف قراءتنا السياسيّة المحافظة على كياننا في ظلّ اشتداد العواصف من حولنا، وانشدادنا نحو ربيع الخوف؟
لا أحد ينتظر انصهارًا سياسيًّا سريعًا بين الأحزاب المسيحيّة الكبرى، فالخلاف عموديّ في قراءة الأحداث الجارية في سوريّا. لكنّ الواقع السياسيّ يستدعي ويتطلّب من المتشدّدين في عدائهم لسوريّا، بقراءة نقديّة ليس لنظام رأوه «يتهاوى» ولم يتهاوَ بعد، ولكن لحالة إذا هيمنت على سوريّا كما هيمنت على مصر، ستفقد هؤلاء مبرّر وجودهم بالمعنى السياسيّ في لبنان. وتقيم البلد، تاليًا، في خلل وعطب كبيرين، أنّى له أن يتحرر منهما؟
ان الانكباب على المناصفة هو الغاية. وشرط الوصول إليها أن نحافظ على مكاسبنا في لبنان كمكوّن تاريخيّ له. والدفاع أثناء التفاوض، وبتناغم فريد، عن المشروع المقدّم من «اللقاء الأرثوذكسيّ»، يعيد إلى المسيحيين بهاء الوجود، وهذا هو المرتجى لنبلغ إلى استعادة دورنا كحماة للمسيحيين العرب، وحماة لعلاقة مسيحيّة-إسلاميّة تنقض المسلمين من أمواج وأنواء التشدّد المتمدّد، وثقافة الحروف المغلقة التي تمزّق الله في التاريخ، كما تمزّق الكون بصراع مكتوب من دوائر لا تطلب سوى السيادة لذاتها، وتحقّق التوازن لتلك العلاقة إنطلاقًا من قبول الجميع بالمناصفة التي هي جوهر الميثاق وديمومته.

([) ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»

No comments:

Post a Comment