Sunday, January 27, 2013

كونوا أرثوذكسَ»..
وخذوا ما يدهش العالم

هذا هو لبنان.. من لم يكتشفه بعد هو في غيبوبة، أو هو مهاجر عنه، مقتنع بما يكتب فيه، من مأثور القول «الوطني»، المتمتع بدرجة التفوق في الكذب.
هذا هو لبنان.. من أحداثه تعرفونه. هو لا يُعَرَّف بدستوره، فجُلُّه حبر على ورق، ولا تدل عليه قوانينه، فهذه تصلح للزينة اللفظية في استعراضات الفولكلور السياسي المبتذل.. لا يُعرَّف لبنان بمبدعيه وكتّابه ومثقفيه وفنانيه، فهذه سلالة منقرضة، تستعمل «مانوكان» في السوق الدعائي.. ولا عادت الأساطير مفيدة في تقديم صورة «حضارية» عن لبنان. «الفينيقية» غير قابلة للاستدعاء. ولى زمنها. «الوجه العربي» المستبدل بـ«العروبة الحضارية» ليست مؤهلة للإقامة في بيئة متدينة، بمذهبية متدنية. حكاية «ملتقى الشرق والغرب» و«جسر العبور» لم تعد تروى في لبنان، بعدما انتقل الغرب كله إلى الخليج العربي، وزحف الشرق بمعظمه ليضع مصائره في يد الغرب. فلا أسطورة تنقذ لبنان، بما فيها تعويذة «العيش المشترك» الذي يعاش في الخنادق، ولا «الوحدة الوطنية» التي هجرت البلد بعد انتشار الكمائن الطائفية والمذهبية على مساحة الـ 10452كلم2.
لا يُعّرف لبنان إلا بأحداثه. أسبوع واحد من حياته، كان كافيا لرسم صورة حقيقية تشبه لبنان: السلطة اللبنانية، المؤسسات الرسمية، المجالس العليا، الحكومة والبرلمان، القوى الأمنية والعسكرية، «الهيبة» القضائية، بدت عارية تماماً، أمام بوابات سجن رومية.
هذا هو لبنان بالتمام والكمال، بالتئام عجزه وفراغه.
حفنة من المعتقلين «الإسلاميين»، تأسر السلطات اللبنانية في الفزع. سلطة لا تتجرأ على الاقتراب من بوابات الزنازين المشرعة على سلطة الأمر الواقع في داخل السجن.. ولا سلطة فوقها.
هذا هو لبنان.
في أمكنة أخرى من شوارعه وأزقته وحاراته وطرقاته العامة، يمارس أمراء الشوارع سلطتهم بلا مواربة. تؤهلهم مرجعياتهم الطائفية، المذهبية، العائلية، العشائرية لممارسة سلطتهم بكل ما أوتوا من قوة وبسالة. من دون أي احتساب لمسؤولية أو توقع لعقوبة.. يحاولون اغتيال الوزير فيصل كرامي، نتداعى لتهنئته بالسلامة، ونكبر عائلته التي نزعت الفتيل، ثم، نمارس «العمى» الأمني والقضائي، كي لا يقع ما لا يحمد عقباه.. لا حساب على ارتكاب. لا عقاب لجريمة، لا محاكمة لانتهاك، لا ولا... حتى إذا وقع القتيل.. يحدث ذلك في لبنان، يمارس العجز سياسة، لغاية في نفس «يعقوب الطوائفي». أي حساب لأي مرتكب مدعوم، يمس السلم الأهلي. «حافظوا على السلم الأهلي، بالتغاضي عن قتل أهله».
هذا هو لبنان. لا يبحث عنه في تصريحات المسؤولين وبياناتهم التي لا تزن مثقال غبار في بناء الدولة وتدعيم «السلم الأهلي» المؤجر لقوى الأمر الواقع، بكامل تجهيزاتها الميدانية والعقائدية وشبكة أمانها الطوائفية... لبنان يشبه ما حدث بين لاسا وحراجل: خلاف على أفضلية مرور، قتل فيه أب وابنه. القاتل هنا، لا يعرف بجريمته، بل بدينه، والمقتولان، لا يعرفان بموتهما، بل بمذهبهما. والنتيجة: إقفال طرق، خطب تهديد. نفوس هائجة. ثأر كامن.. لبنان يشبه الاحتفالات الرسمية التي رافقت زيارة «الحج إلى الثلج» في كفرذبيان، حيث للثلوج حرمة طائفية، ويمنع «الطواف» التزلجي عليها لمن ليسوا من أركان المنطقة.
غرفة عناية سياسية وأمنية وطائفية انعقدت على الهواء مباشرة لتأمين السلامة الوطنية، عبر تأمين سلامة الموكب السياحي إلى «مزار» الثلج، لإقامة «صلاة» الترفيه في «البيت الحرام».
لا دهشة في ما يحدث. حصل من قبل نزول آل المقداد إلى الشوارع. حصل إقفال طريق صيدا لأسابيع، ولم يتجرأ أحد على... غيروا السير عن مستديرة الأسير. هذه أشياء طبيعية، تحدث في بلد غير طبيعي. شذوذه يكمن في كونه طائفيا ودولة معاً، وهذا خبل سياسي. لا طائفية مع الدولة. فإما دولة وإما طائفية. زواج الدولة والطائفية، يُنتج ما جاء أعلاه، وما حدث من قبل، وما تحارب عليه اللبنانيون من قبل 15 عاماً، وما سيحدث من بعد، وما سيعجز عنه نوابه ووزراؤه وزعماؤه ومن لفَّ لفّهم، قبيل الاستحقاق المسمى انتخابيا، فيما هو استحقاق اصطفائي، عنصري، إلحاقي، مدفوع الثمن والأجر.
لا عجب في أن يحدث ما حدث وان يحصل غداً الأسوأ. انما العجب يكمن في تغييب الفاعل وفي تجهيل المسؤولين عن ذلك وفي اعتبار ان ما يجري في لبنان، هو «مؤامرة» وهو «حروب الآخرين» وهو من صنع الغرباء، سوريين وفلسطينيين وإسرائيليين وأميركيين... وأتراك.
المسؤولون عما وصل إليه لبنان، هم قادة لبنان الراهنون، الحاكمون فعليا في طوائفهم ومذاهبهم، والمتحكمون بالدولة، كل الدولة، رئاسة ووزارة وأمنا وقضاء وتنمية وتشريعا، بحمولة شعبية مؤيدة لتوجهاتهم المبرمة. والذين نذروا حياتهم لتكون طوائفهم ومذاهبهم أملاكا سياسية خاصة، غير مسموح لأحد مسها.
هؤلاء المسؤولون، مسؤولون عن عدم تجرؤ الدولة على محاكمة الإسلاميين، لإنصاف الأبرياء منهم، وإقامة «الحد القانوني المدني» على المرتكبين... ليس ما حصل بالأمس، هو الأول، ولن يكون الأخير. السجناء بحاجة إلى من ينصفهم أو يعاقبهم. لكن، من يتجرأ على ذلك؟ فهؤلاء، لهم حماية مذهبية، وحاضنة سياسية، وقيادات انتهازية، ساهرة على التوظيف، إذا كان الربح مضمونا شعبياً على الأقل، وغافلة، إذا كانت الخسارة محققة.
تجاهل سجناء رومية، تجارة رابحة حتى الآن، ولو خسرت العدالة وظلم الأبرياء. السجناء في سجن رومية أقوى من الدولة، وقوتهم من قوة تيار إسلامي حاضن لهم. الطائفية سياج يحمي المرتكبين ويمنع العدالة عن الأبرياء. والطائفية محروسة ومصانة من قبل زعماء لبنان الراهنين، الذين يعملون علناً وسراً، على عدم المساس بالمشاعات الطائفية، حيث يعيش «المرابعون» من المواطنين، بحبوحة التعصب ويشحذون أسلحة الثأر دفاعاً عمن استعبدهم.
سجناء رومية أسرى ويأسرون الدولة لأسباب كثيرة: أولاً: من يجرؤ، ودماء القضاة الأربعة لم تجف بعد؟ ثانيا: من يتحمل مسؤولية أحكام توازي الجرم المرتكب؟ ماذا سيكون وقع الأحكام على الشارع المستيقظ والمستنفر؟ كان الحل الأمثل، هو التناسي والتغاضي والتعامل مع السجناء كنزلاء، يحق لهم، ما لا يحق لغيرهم.
إن الكشف عن التفاصيل يوماً ما، سيؤكد ما جاء أعلاه. كما تأكدت قبل ذلك، الحمايات السياسية الطائفية، لأعظم الارتكابات المالية، وأفدح الارتكابات العقارية، وأقسى الاحتلالات للشواطئ اللبنانية.
لو أن للبنانيين ذاكرة، لا تشبه ذاكرة العصافير، لأدركوا أن لبنانهم هذا، الواقف دائما على الشفير، هو صناعة لبنانية، بأيدٍ طائفية ومذهبية لبنانية.
هل يتذكرون مصادرة الجامعة اللبنانية وتفريعها وتفريغها؟ هل يتذكرون الديون الطائلة المليارية التي على لبنان، وقد غابت عن القول والسمع والبصر، بنسيان مقصود. يتذكرون «سوليدير» ومالكيها الحقيقيين من قبل، ومن استملكوها بعد حرب، لم يشترك فيها أصحاب الحقوق؟ هل يتذكرون الفساد ومن يحميه، وحقوق المعلمين والموظفين ومن يهدرها؟ هل وهل ألف مرة لألف قضية؟
إن اللبنانيين يستحقون هذا البلد الذي يشبه عقوبة دائمة لهم. وعليه، فلا وصية يمكن تقديمها لهذه الجحافل الانتخابية سوى: «كونوا أرثوذكس»، وخذوا وطناً يدهش العالم، بانحطاطه، كائنا ما كان قانون الانتخاب العتيد.

nsayegh@assafir.com
< المقال السابقرجوع
Bookmark and Share
إقرأ للكاتب نفسه

No comments:

Post a Comment