Friday, January 18, 2013


مثل الحساسية السودانية-المصرية، الحساسية الكويتية-العراقية، الحساسية الباكستانية-الهندية، وُلِدت الحساسية اللبنانية- السورية من لحظة ولادة الكيانين السوري واللبناني حتى قبل استقلالهما باستثناء الحالة في شبه القارة الهندية لأن الانفصال الدامي هناك عام 1947 جَمَع بين الولادة والاستقلال لكل من الدولتين الهندية والباكستانية في لحظة واحدة.
قادت المسيحية السياسية تحت راية النخبة المارونية ما سيتحوّل على مدى عقود، حتى انهيار الوضع السوري بالشكل الذي آل إليه في نهاية العام الأول من الثورة-الحرب الأهلية، ما سيتحوّل إلى حساسية سلبية من الكيانية اللبنانية تجاه ما اعتقدته طويلا أنه "نوايا" أو مشاريع النخب السورية المتعاقبة على الحكم في دمشق بضم أجزاء من لبنان كانت اقتُطِعت من سوريا أو بضم لبنان كلّه. لقد وصلت هذه الحساسية إلى ذروتها التأزمية مع ظهور الصيغة الفريدة فعلا لاستتباع لبنان السياسي والأمني القسري مع احتفاظه بكامل "الاستقلال" الشكلي. كانت تلك صيغة عهد حافظ الأسد التي لم يقاتِلْها فعليا سوى الكنيسة المارونية - كمسؤولة تاريخيا عن الكيان اللبناني- ومعها أحزاب "المسيحية المقاتلة" بينما عموما انخرطت النخب المسلمة في مشروعها بسهولة نسبية حتى عام 2005.
في واحدة من النتائج المذهلة للوضع السوري الراهن الذي نكتشف تباعا أهمياته الفائقة الدولية والإقليمية، قد نكون اليوم أمام تحوّلٍ لا مثيل له في لبنان منذ ولادة الكيان اللبناني. فمن كان يتصوّر ان سوريا هي على الحدود "المباشرة"السياسية والأمنية والديموغرافية والدينية لروسيا والصين، وهذه ليست استعارة مجازية، مثلما هي على الحدود المباشرة لتركيا والعراق والأردن وفلسطين ولبنان! ومن كان يتصوّر أننا سنشهد في لبنان بسبب التحولات السورية الزلزالية تغييرا عميقا – ولو لم يكتمل بعد- في معنى ومسار النظرة الكيانية اللبنانية إلى سوريا للمرة الأولى منذ 1920؟
ما هو هذا التغيير اللبناني؟
تَحلّلُ سوريا، "أعاد" عناصرَها إلى مرحلة ما قبل 1920. ومعه نشأت نظرة جديدة لدى الكنيسة المارو نية "أجَّلت" مفهومها الكياني للعلاقة مع سوريا . والتطور الجديد الذي يصنع هذا التحول في النظرة المسيحية اللبنانية هو "الالتحام" السياسي الموضوعي بين مسيحيي المنطقة الذين أصبحوا اليوم ليس فقط تحت القيادة السياسية لمسيحيي لبنان بل تحت قيادتهم "الوجودية".
إنه بوضوح "تعليق" الاتجاه السابق والتقليدي والتأسيسي لـ"الوطنية الكيانية اللبنانية"ضد الكيانية السورية لسبب جوهري هو أن سوريا نفسها بالشكل الذي عرفناها فيه منذ توحيدها في كيان واحد في الثلاثينات "غير موجودة" سياسيا في المرحلة الانتقالية الراهنة.
سوريا "معلَّقة" او على الأقل "مؤجَّلة"... بالتالي لبنان أيضا بمعنى ما، هو مؤجَّلٌ قياساً إلى حجم انخراط قواه السنية الشيعية في الحرب السورية، مباشرة أو غير مباشرةٍ، تحت الطاولة (القوى الشيعية) فوق الطاولة (القوى السنية)... ومعه متغيّرات موقع مسيحيي لبنان.
ما أظهره "المشروع الأرثوذكسي" للانتخابات النيابية والقائم على اقتراح فريد هو حصر تصويت كل لبناني له حق الاقتراع بالمرشّحين من مذهبه، أن الكنيسة والأحزاب المسيحية الأساسية عادت إلى طرح نوع من الصيغة الفدرالية ولكن المداوِرة للبنان. صحيح أن هذا المشروع غير ممكن التنفيذ بسبب الخلاف "الميثاقي" عليه لكن حضوره بهذه القوة في النقاش العام هو أحد تعبيرات الوضع السوري الجديد ونوع نظرة المسيحيين اللبنانيين الجديدة إلى موقعهم "السوري".
المفارقة الصارخة، ولو أنها لم تتضح بعد، هي أن الصراع في سوريا قد يكون ليس فقط أكثر عنفا وضراوة من الحرب الأهلية اللبنانية الضارية، بل أيضا قد يكون على الأرجح أكثر خطورة بنيوية على المنطقة، منطقة المشرق. فسيتقرّر في سوريا مرة أخرى، مثل ما بعد 1920، ولكن بصيغة عنفية هائلة، ما إذا كان يمكن أن يلتئم "نِصاب" دول منطقة المشرق العربي وربما بعض غير العربي . فحتى المعلِّقون الأتراك، في "دولة-أمة" قوية كتركيا، بدأوا يطرحون أسئلة جادة حول احتمالات "الانفصال " الكردي عن الجمهورية التركية على ضوء الوضع السوري... فكيف بالنسبة لبلد ضعيف كلبنان هو في قلب الجغرافيا والديموغرافيا السورية وليس على أطرافها؟
علينا أن نقبل فكرة المخاطر الهائلة على بنية الوضع اللبناني الناتجة عن الأزمة السورية حتى لا تفاجئنا التطورات. والإشارة المسيحية الجديدة في هذا الاتجاه كانت سبّاقةً... ليس أقل من ذلك، أي بما يتجاوز كثيرا جدل المشروع الأرثوذكسي بذاته الذي لا مستقبل له عمليا. ولكن الذي ينبِئ بنهاية حقبة وبدء أخرى مختلفة.
إنه لبنان داخل تحَلُّلِ المكوّنات السورية... ومنها إعادة النظر بنوع الحساسية الكيانية التقليدية في لبنان، بل جبل لبنان، تجاه الوضع السوري.
لبنان الذي يُمسكه الآن قرار دولي إقليمي بالاستقرار... فقط لا غير.

No comments:

Post a Comment