Sunday, January 27, 2013


كتاب مفتوح إلى الرئيس نبيه برّي

جورج عبيد

دولة الرئيس،
تجلّت الأدبيات الشيعيّة رفيقة بكلّ شعور يتجلّى في من مسّهم الحرمان والإجحاف، وأبعدهم عن حقيقة الوجود. والرفق هذا ذقناه في فكر الإمام موسى الصدر، الذي ارتكز على الأدبيات المسيحيّة بمقدار ارتكازه على الأدبيات الشيعيّة في معالجة مسألة المحرومين، وقراءة لبنان على أنّه وجه للعدالة والحقّ بالتوازن في الإنماء والعطاء.
يغبطنا يا دولة الرئيس، رفضكم فرض أي مشروع خارج أيّ إجماع. ذلك أنّ تكوّن النظام السياسيّ وتشكّله إن لم يولد من رحم الشراكة الكاملة والحقيقيّة القائمة في الفكر الشيعيّ مع الإمام الصدر وقرأناها مع أئمّة كبار، يبقى معرّضَا للعطب والانكسار. والتجارب التي مررنا بها في لبنان، والتي استحالت حروبًا من أجل الآخرين، اغتذت من العطب والخلل المبتلى بهما الهيكل اللبناني. وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة المبذولة من حكماء كثيرين وأنتم على رأسهم، لم تتحقّق الشراكة الكاملة، ولم يبزغ فجرها، إذ يظلّ شريك كبير ومؤسس للبنان مستولدًا في كنف مذاهب أخرى، كما كتب الرئيس إيلي الفرزلي وصرّح غير مرّة. واستهلكت ثقافة الاستيلاد المسيحيين من دون البحث في أوجاعهم المرّة والالتفات إليها. وقد حلا لبعضهم استبقاء المولوديّة بعد أن استطابها وتبيّن ذلك بأنّ المذاهب الإسلاميّة الثلاثة تأتي بنوابها بنسبة 90%، وتأتي بعدد غير قليل من المسيحيين تحت هيمنتها بنسبة 80%. وما يزعج في الأمر أنّ المسيحيين إذا طالبوا بحقوقهم تقوم الدنيا ولا تقعد.
وما يزيدنا غبطة وسرورًا يا دولة الرئيس، أنّكم متفهّمون للهواجس المسيحيّة، وبخاصّة في ظلّ العواصف الوجوديّة الهابّة في المشرق العربيّ. وحين عرض عليكم مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وما هو سوى أسباب موجبة، أجبتم بعد بحث جديّ، بأنّ هذا الاقتراح هو نتيجة وليس سببًا. هو نتيجة هواجس متراكمة وتجارب سابقة ومسار طائفيّ عام في البلد. وأردفتم: «هذا الاقتراح لا يقال بأننا معه أو ضدّه، بل يجب دراسة الأسباب التي أدّت إلى اقتراحه ومعالجة هذه الأسباب». وأدغمتم كلامكم بأنّكم تحترمون الإجماع المسيحيّ.
دولة الرئيس،
ليس مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وكما تعلمون، هدفًا. بل هو الطريق إلى هدف نبيل وسامٍ، وهو إعادة الاعتبار إلى الكيان اللبناني كوطن له وجوده الكامل، ودوره الخلاّق والمتوازن في المشرق العربيّ، بتجسيد المناصفة الحقيقيّة. والوطن لا يشرق وجهه بانتقاص أيّ حقّ دستوريّ يعود لهذه الطائفة أو تلك. ونقدّر سعيكم في هذه المناسبة لجعل تلك الأسباب الموجبة حائزة إجماعًا وطنيًّا بدءًا بالإجماع المسيحيّ. لكن ما نسعى إليه يا دولة الرئيس، أن تتكرّموا وتأخذوا بالأسباب الموجبة لتصير قانونًا يعبّر عن الحقوق الدستوريّة، والتي هي مسلّمة وطنيّة بكلّ ما للكلمة من معنى. ويقيننا، بأنّ العزف على أوتار الوقت الضائع، يميّع الحقوق الدستوريّة أي المسلّمات الوطنيّة التي هي جوهر الحضور السياسيّ للبنانيين.
والتمييع يأباه عقلكم الراجح. ولكننا نتفهم حرصكم للوصول إلى تفاهم حول مشروع ينال رضى الجميع ويسلّم بالمسلمة الوطنيّة. فلا معنى لهذا الإجماع إذا لم يقم على التسليم بالحقوق الدستوريّة. هذا يعود إلى حكمتكم وحِلمكم وبعد نظركم وحسن نيتكم في التحليل. لكن في المعطى الراهن لمَ يتمّ الطعن بمشروع قادر على البلوغ نحو نظام المواطنة عن طريق معالجة الطائفيّة الفوضويّة والمتلاشية بالطائفيّة المتوازنة والخلاّقة؟
لقد أبرزنا يا دولة الرئيس حججًا دامغة، منطلقين من روح الدستور بموادّه التي تظهر عمق المناصفة وحجمها. فالمادّة 22 منه تتكلّم على إنشاء مجلس للشيوخ يمثّل العائلات الروحيّة. ويبدو أن المشرّع لم يعتبر البتّة أن إنتاج الطائفة لممثليها في مجلس الشيوخ يعتبر من المحرّمات الدستوريّة، بل هي من المسلمات الدستوريّة، ولا تتناقض مع أيّ بند من مقدّمة الدستور.
كما ركّزنا في المادة 24 من الدستور التي تكشف مبدأ المناصفة بصورة جليّة عبر توزيع النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابيّ (64+64). كما تبحّرنا أيضًا في مضمون المادة 27 من الدسـتور التي تقول بأنّ النائب يمثّل الأمّة اللبنانيّة جمعاء. قرأنا هذه المادّة يا دولة الرئيس بمنهجيتين: منهجيّة تحليليّة ترتبط بمضمون مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ حين دمجنا بين الدائرة الواحدة والنسبيّة، وإن تفردنا بأن تنتخب كلّ طائفة ممثليها، فإن التفرد انطلق من المنهجية الثانية أي التاريخيّة والتي تعود بنا إلى سنة 1870، حين احتل بسمارك فرنسا، وتمّ بعد ذلك فصل الألزاس واللورين عن فرنسا وتمّ ضمّهما إلى ألمانيا، وتمثّلت المقاطعتان بستّة نواب... وبعد أن أصبحت المقاطعتان جزءًا من ألمانيا دعا مكماهون هؤلاء النواب وقال لهم أنتم ممثلون للأمّة جمعاء. هذا يعني أن انتخاب المكونات الجغرافية للنواب سواء صغر حجمها أو كبر يسبغ عليهم صفة تمثيل الأمة جمعاء بعد انتخابهم. وتعلمون يا دولة الرئيس أن الدستور اللبنانيّ مقتبس من الجمهورية الفرنسيّة الثالثة. تسويغ التمثيل وإسباغه على النائب، والمكنون في صلب المادة 27 من الدستور لا يرتبط حصرًا بالدائرة أو الطائفة، ولكنّه يمر بهما ويتجاوزهما ليصبح تمثيلاً واسع المدى يتعلّق بنهائية الكيان اللبنانيّ.
دولة الرئيس،
إن نظام لبنان طائفيّ ولا يمكن تجاوزه. نشأ منذ بروتوكول القائمقاميتين سنة 1841، وبلغنا نحو نظام المتصرفيّة سنة 1861، وبعد ذلك جاء تأسيس دولة لبنان الكبير سنة 1920 بالانفصال عن سوريا ليخلق جدلا طائفيًّا متسربلا بالخطاب الإقليمي، أي الخطاب الوحدوي مع سوريا في مقابل خطاب رافض للوحدويّة. ومررنا بعد الاستقلال بقضيّة فلسطين وما رافقها من تداعيات واضحة توشّحت بالغيوم الطائفيّة ولا نزال منذ ذلك الحين نعيش في جوف هذه الغيوم ودوائرها. وحين أطلقنا مشروعنا رمنا إلى إعادة الاعتبار للميثاق الوطنيّ المتفسّخ والمتصدّع بمناصفة فعليّة تعيد اللحمة وهي السبيل الأوحد لإيناعها. ونسمع بعضهم يتكلمون على إنتاج تسوية تقوم على دمج النظام الأكثريّ بالنظام النسبيّ، من دون تفسير واضح لآلية الدمج ومعاييره. يا دولة الرئيس كيف يمكن الدمج بين نظامين مختلفين حتّى العظم؟
أمامكم فرصة واضحة أرجو أن لا تضيّعوها. اطرحوا هذا المشروع على التصويت، وهو السبيل الوحيد لتحقيق المناصفة الموضوعيّة. وإذا ما تحققت نلج عمق المادة 95 من الدستور التي قالت بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفيّة السياسيّة.


([)
ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»





No comments:

Post a Comment