Tuesday, January 29, 2013


المشروع الانتخابي الأرثوذكسي ليس سيئاً جداً!
بقلم محمد شيا
  •  البطريرك الراعي مجتمعاً مع "اللقاء الأرثوذكسي".
  • استاذ في الجامعة اللبنانية
  • 2013-01-29
المشروع الانتخابي الأرثوذكسي سيىء، نعم. كذلك هي، بشكل أو بآخر، كل القوانين الانتخابية الأخرى في لبنان.
المكمن الحقيقي لكل السوء أو الخلل في كل القوانين الانتخابية اللبنانية، القديمة أو المقترحة، هو التناقض الممسك بالحالة اللبنانية وغير القابل للحلّ – كما يبدو – بين بنية اجتماعية تقليدية من جهة ومحاولات التجديد والتحديث السياسي "التمثيلي" من جهة ثانية.
أهمية المشروع "الأرثوذكسي"، والمغزى العميق فيه، هو الإعلان بشكل غير معلن عن توقف العمل في ورشة تحديث الحياة السياسية اللبنانية. والأكثر خطورة في الإعلان هذا أنه صادر عن الشريحة الاجتماعية التي كانت، حتى الآن، وفي غير مجال، الأكثر حداثة وتحديثية لا في لبنان فقط، وإنما في المنطقة العربية قاطبة – المسيحيين.
لذلك أسباب بعيدة وقريبة. في بعض أسبابه البعيدة أن مشروع التحديث قد تعرّض في الغرب نفسه، المهد الأول للحداثة، لضربات متلاحقة، وبخاصة بعد سقوط النموذج الرأسمالي الليبرالي "الإنساني" – لسقوط منافسه الاشتراكي – والجنوح الشديد من ثمة نحو نمط مغرق في رأسماليته الفجّة، في جانبه الاقتصادي الاجتماعي، ومغرق في مسيحيته/اليهودية، لجهة مرجعيته الدينية، ومغرق في مركزيته الغربية، لجهة سياساته الثقافية. وقد جرى هذا التحول تحت تأثير مفكرين كبار، وعلى رأسهم هنتنجتون وفوكوياما وبرنارد لويس، وقادة أساسيون، من وزن تاتشر وريغان وبوش، وسياسيون رجعيون بامتياز، من مثل ريتشارد بيرل وبول وولفيتز وسائر المحافظين الجدد في أميركا.
وفي بعض أسبابه القريبة، التي تعنينا أكثر، هو تصاعد قوة الموجة الرجعية الإسلاموية، بدءاً من مصدريها، نجاح الإسلاميين السلفيين (السنّة) في طرد السوفيات من أفغانستان وتداعيات ذلك، من جهة أولى، ونجاح النمط الإسلامي الأصولي المرجعي المتشدد (الشيعي) في إيران، في دفنهما معاً أي تفكير في تحديث عربي أو إسلامي وفق الخط الحداثوي الأوروبي – وكما كان اعتقد قبل قرن من الزمان الإمام محمد عبده وأصحاب الفكر الإسلامي التنويري الآخرين.
انعكست تداعيات العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الانهيارين، البعيد والقريب، في نتائج كارثية ناء تحت ثقلها النسيج الديني/الاجتماعي لمجتمعات المنطقة العربية، وانعكست في تصاعد غير مسبوق للأصوات الأكثر رجعية وطائفية في الحركات الإسلامية الإقليمية، عبّر عن نفسه في أسلوب مخيف من أفكار وممارسات العداء الصارخ للآخر، الديني والثقافي وحتى السياسي والاجتماعي، وما أسفر عنه من تهجير طوعي أو قسري للمسيحيين من العراق ومصر وفلسطين، وأخيراً سوريا، الأمر الذي استحضر في المقابل تشدداً مسيحياً غير مسبوق أيضاً – وإن يكُ رمزياً وغير مادي في الغالب.
مع رؤية هذه التحولات التي تسارعت، في العالم وفي منطقتنا، في عقدين أو ثلاثة، وليبلغ السيل زباه في ما يجري في سوريا. وانطلاقاً من القانون الطبيعي، قبل السياسي، في الفعل ورد الفعل في الاتجاه نفسه والقوة نفسها. يمكن فهم الهواجس وبواعث القلق التي خيّمت على منتديات التفكير المسيحي المفتوحة – ومنها اللقاء الأرثوذكسي – وعلى الاجتماعات المسيحية المغلقة، وأهمها في بكركي، والتي قادت في الواقع إلى بلورة "صرخة" مسيحية عامة – أكثر منها أرثوذكسية ضيّقة – للفت النظر، في رأيي، إلى ما هو أهمّ بكثير وأعمّ بكثير من فكرة إنتخاب المسيحيين لنوّابهم وزيادة حصص أحزابهم "العصبوية" في الندوة النيابية.
هذا المنطق "التاريخي-التحليلي" الذي يقرأ المقدمات البعيدة والقريبة العميقة للمشروع الانتخابي الأرثوذكسي، ويجعل تقدمه "المفاجئ" إلى مقدمة المشهد السياسي اللبناني أمراً مفهوماً، بل مبرراً، يطرح هو نفسه على أصحاب المشروع هذا، وعلى المفكرين المشتغلين عليه، محظورين اثنين يخشى أن يؤديا إلى موت المريض الذي كنا نسعى إلى علاجه. المحظوران أو الإشكاليتان الكامنتان في قلب المشروع وتداعياته، هما:
الأولى، إشكالية تقنية، وهي أن قوة النظام السياسي اللبناني منذ ما بعد ثورة 1958، إنما كانت في مرونته. أي نجاحه، ورغم ما يبدو عليه خطأ من ضعف، في الاحتفاظ بقابلية تكيّف لافتة سمحت له عملياً، وكي لا نكون نظريين، بأن يكون في أوقات مختلفة متعاقبة ناصرياً، سورياً، فلسطينياً، مسيحياً، سنياً، شيعياً، ثم أن يتخلص بسرعة ومن دون أثمان مستحيلة من "لبوس" كل مرحلة سابقة وليدخل في "لبوس" مرحلة جديدة، وهكذا دواليك. بعض سرّ المرونة تلك هي قوانينه الانتخابية "المتكيّفة" باستمرار مع الموجة المهيمنة، فتعبّر مرة عن صعود هذا التيّار ومرة أخرى عن تراجعه وصعود سواه. لذلك تأتي التيارات أو تذهب، ترتفع الأمواج المؤثرة أو تضعف، والنظام السياسي اللبناني في الحالين باق. ما نخشاه، عملياً، هو أن هذا القانون الانتخابي الأرثوذكسي، وقد ذهب بالسرّ اللبناني المحلّي إلى أقصاه، لا يسمح بالعودة السهلة – حين تكون العودة ربما ضرورية غداً أو بعد غد.
باختصار، وفي ما خص النقطة الأولى، يبدو ’التشدد’ الذي يظهره القانون الأرثوذكسي العتيد، وأن يك مبرراً، نقيضاً لطبيعة القوانين الانتخابية اللبنانية المتعاقبة، ولطبيعة النظام السياسي اللبناني نفسه، الذي أثبت في أكثر من نصف قرن أنه أكثر استقراراً واستمراراً من سائر الأنظمة المحيطة – وبسبب من مرونته.
الثانية، إشكالية سياسية، ربما تكون أكثر خطورة. إن أحد أشد الحسابات خطأ لبعض السياسيين والسياسات اللبنانية، غير مرّة، وفي معزل عن صحتها أو عدم صحتها، هو رهانها – وقد تبيّن خطأ ذلك – على قدرتها على تحقيق خرق سياسي أو اجتماعي كبير في لبنان في معزل عن المنطقة العربية المحيطة، وخصوصاً إذا كان مغايراً بقوة لها. ولنا مثالان قويان على ذلك: تجربة كميل شمعون السياسية في الخمسينات، وتجربة كمال جنبلاط والمشروع التحديثي للحركة الوطنية اللبنانية سنة 1976.
في المثالين أعلاه، لم يسقط المشروع السياسي اللبناني بسبب من طبيعته أو نوعيته أو صحته أو خطئه، وإنما ببساطة بسبب من "محليته" الزائدة، أي عدم أخذه خصوصية العلاقة اللبنانية بمحيطه بما هي عليه من أهمية وقوة وربما الكلمة الفصل في كل شيء. تلك هي الإشكالية السياسية الكبيرة التي يغفل عنها المتحمسون للقانون الأرثوذكسي الانتخابي، وبخاصة الشباب منهم.
وأحسب أن أحد معاني اجتماع السياسيين "الأكبر سنّاً" وبالتالي خبرة في منزل النائب بطرس حرب هو لفتهم نظر المسيحيين الآخرين، وبخاصة الموارنة الشباب، لاهوتيين وعلمانيين، إلى "الحقيقة اللبنانية" الراسخة أعلاه والمستندة إلى محددات جيو – سياسية صارمة ترتقي ربما إلى حد الحتميات التي لا تحتاج إلى موافقتنا، أو رأينا، ليكون لها في الغالب الأرجح من الحالات – حتى لا نقول دائماً – الكلمة الأخيرة. وهذا هو "مكر" الحتمية كما يقول هيغل.
في ترجمة عملية مباشرة للإشكالية الثانية، نقول باختصار شديد، أنه من أجل الفوز بالمقاعد المسيحية في مجلس النواب وربما التحكم بالسياسة اللبنانية كذلك، يجب أولاً أن يبقى لبنان. إذ لا معنى، مثلاً، لامتلاكك الورقة الرابحة للجائزة الكبرى في اليانصيب، إذا لم يعد هناك من أرصدة لليانصيب أو لم يعد هناك من وجود لليانصيب نفسه.
للسببين أعلاه، يجب التروّي في مقاربة القانون الأرثوذكسي الانتخابي، ومن باب المصلحة العليا للبنانيين كافة، مسيحيين وغير مسيحيين.
نكرر القول أن أحد أهم إنجازات القانون الأرثوذكسي، تحقق أم لم يتحقق، هو أنه طرح الأسئلة "المسيحية" الصحيحة والمحقة والمبررة. ويبقى أن الإجابة على هذه الأسئلة ليست وقفاً على المسيحيين وحدهم، بل على شركائهم المسلمين كذلك، كما سائر المكوّنات الاجتماعية والدينية للوطن اللبناني – إذا أردنا أن يبقى لنا وطن!

Sunday, January 27, 2013


مرجع روحي مسيحي: كلام تاريخي للسيّد نصرالله
Sunday, January 27, 2013 - 09:58 PM
مفيد سرحال

عن هواجس المسيحيين.. وننتظر موقفاً مُماثلاً للشيخ سعد

مفيد سرحال
سواء دفن القانون الارثوذكسي، قانون الستين على حد تعبير الرئيس نبيه بري، ام ابقاه في حالة موت سريري ريثما تتم مراسم الصلاة والتشييع او بالحد الادنى بعث الحياة فيه منقحاً، فان القانون الارثوذكسي سواء غُيب في غياهب الرفض في وطن «الجنة العلمانية»!! او اقر ايضا معدلاً فان جوهر هذا القانون اي المناصفة الحقيقية بعيداً عن «تفقيس النواب» تحت اجنحة ديوك الطوائف الاخرى سيطغى على ما عداه. بمعنى ان ملائكة الارثوذكسي ستبقى جاهزة تفرض نفسها مهما كان شكل القانون وتفصيلاته المناطقية وذلك بقوة الالتفاف المسيحي حول الفكرة القائلة بالمناصفة وباصوات المسيحيين وبالتالي فان المسمى الفعلي لاي قانون سيبقى الارثوذكسي اللهم اذا كان اشتغاله يؤمن التوازنات المطلوبة للمسيحيين.
في هذا المجال، علّق مرجع ديني مسيحي كبير للديار على النشاط المحموم للقوى السياسية لاجتراح قانون انتخابي عبر اللجنة النيابية الفرعية الباحثة عن وطن في كومة قش طائفية سريعة الاشتعال، او عبر لقاءات الكواليس ومما قاله المرجع المسيحي الروحي: ان يجتمع القادة المسيحيون ومعهم بكركي على رأي واحد حول قانون الانتخاب المشتهى وتحديداً الارثوذكسي بالرغم من التباينات التاريخية المثقلة بالدم والاحتراب والاحقاد والفرز الشارعي العميق!! لهو امر يستدعي التوقف عنده ملياً لاهميته في لحظة تاريخية يكتب فيهامستقبل المنطقة برمتها لا سيما وان الربيع العربي قابله خريف مسيحي وجودي مشحون بعواصف ورياح التهجير وسط مناخات التغيير!؟
يتابع المرجع: نعم انها لحظة تاريخية مفصلية لا حل وسط فيها: اما البقاء واما الخروج من هذا الشرق تحت وطأة مصالح وتقاطعات اقليمية ودولية لاتقيم وزنا لتاريخ وتراث المسيحيين وحضارة انسانية روحية وسمت المنطقة باسرها بقيم الحق والخير والسلام والتواصل الانساني والتلاقي والتلاقح الحضاري...
ويتابع المرجع: في لبنان يخوض المسيحيون اخر معاركهم الوجودية من خلال التفاعل مع الآخر وحفظ الانا من استباحة الآخر للحقوق والمواقع والدور بعد سلسلة تراجعات ذاتية وموضوعية...
في فلسطين اليهود يسعون لاقتلاع بيت لحم وابتلاع الاديرة والكنائس بالترهيب والترغيب ولم يبق سوى 1% من مسيحيي فلسطين المحتلة يستحثون الخطى للالتحاق بمن سبقهم وفي العالم العربي من مصر الى العراق وسوريا يرتسم درب الجلجلة لجماعة المؤمنين آلاماً وتهجيراً وهجرة.
ويتساءل البعض امام كل هذا المشهد الكارثي كيف لقانون انتخاب ان يحفظ الوجود المسيحي أليس من السذاجة مجرد التفكير بان آلية انتخابية ستكشح عن المسيحيين غمامة اليأس والاحباط والشعور بالدونية والهامشية ويحميهم من عواصف التهجير والطلاق الرضائي مع وطن الارز..
يتابع المرجع: ردا على هذا التساؤل اقول نعم وبكل رضى وقناعة وفهم عقلاني لانه بالرغم من حرصنا على الشراكة الوطنية وميثاقية العيش الواحد بين مختلف العائلات اللبنانية الروحية الا ان حالة الاستتباع الفظ تارة خوفا وتملقا وطورا لمصالح مادية ومعنوية على حساب الكرامة والوجود الحر امور اشعرت المسيحيين انهم دون مستوى الندية اللائقة ودون مستوى الشراكة الفعلية في القرار الوطني ولعل التطبيق العبثي والاستنسابي والمزاجي لاتفاق الطائف زاد الطين بلة بالرغم من تلبية المسيحيين لشروط هذا الاتفاق الذي جاء وبعد حرب طاحنة بين فرقاء مسيحيين افضت الى واقع حرمهم من تلك الحالة المتميزة في النظام.
ويتابع المرجع الروحي المسيحي: نعم ان قانون الانتخاب يعيد للمسيحيين ثقتهم بالنظام والدولة التي ينتمون اليها بالرغم من فقدانهم لمواقع سلطوية اساسية على مستوى اخذ القرار تحت تأثير عوامل سياسية ومجتمعية وديمغرافية وهم اقروا بذلك عندما قبلوا بالطائف شريطة ان يطبق بكليته لا على اساس ربع طائف ونصف طائف..
ويقول المرجع: وحده القانون الارثوذكسي ولنقل صراحة قانون دولة الرئيس ايلي الفرزلي، مع احترامنا وتقديرنا لاعضاء اللقاء وفيه شخصيات مسيحية ارثوذكسية محترمة ومرموقة كآل التويني وحبيب وفرح وفريجة ونعيمة وبدر وشاهين وبدران والخوري وغيرهم..
وحده هذا القانون يستطيع نقل المسيحيين الى الموقع الذي يحفظ الكرامة والهيبة ووقار النيابة، وهذا القانون ليس قانون الارثوذكس بالرغم من ان جميع المؤشرات تدل على ان 80% من الارثوذكس يؤيديونه ولكنه قانون ارثوذكسي بامتياز ووحده ايلي الفرزلي براءة ذمة ارثوذكسية للناس ومن عائلته خرج مفكرون وقادة رأي ومطارنة ونواب ورموز تيارات قومية على مستوى الوطن العربي...
ويتابع المرجع في هذا المجال: ان كلام سماحة السيد حسن نصرالله في خطابه في ذكرى المولد النبوي الشريف ينبغي ان يسجل باحرف من نور في السجل المسيحي في هذا البلد عندما دعا صراحة الى السير باي قانون انتخابي يجمع عليه المسيحيون ويزيل هواجسهم ويبدد مخاوفهم وهذا الكلام برأينا كمرجعيات دينية كلام تاريخي ويؤسس لشراكة وطنية حقيقية ويرسخ العيش المشترك ويعطي الصورة الحقيقية عن رسالية لبنان ودوره التأسيسي في طور الحضارات والديانات.
ويتابع المرجع: بناء على هذا الموقف الجلي والواضح للسيد نصرالله بالتوازي مع موقف دولة الرئيس بري الصريح والمتفهم لهواجس المسيحية نطلقها دعوة الى رموز وقادة الطائفة السنية الكريمة وعلى رأسهم دولة الرئيس سعد الحريري للسير كما اجمع اخواننا الشيعة بالمشروع الارثوذكسي وتأييده ولنا ملء الثقة بدور آل الحريري في تكريس الاعتدال وتلبية حاجة المسيحيين للاطمئنان بدلا من الانكفاء والقبول بما يرتضونه حرصا على خصوصيتهم ووجودهم ومكانتهم في النسيج اللبناني بعد شعورهم المتراكم بانهم هامشيو الدور ومجرد ديكور في كتل طائفية ومذهبية تطعم بهم اللوائح ليقال ان هناك شراكة وعمليا هناك الحاق لا تمثيل حقيقي... فكما ادرك اخواننا الشيعة اهمية الحضور المسيحي ربطا مع مجريات الاحداث المقلقة وجوديا للمسيحيين في المنطقة فان قاعدة التفهم والتفاهم التي ارساها المغفور له دولة الرئيس صائب سلام صالحة في هذا الظرف لنبني وطن التفهم المتبادل ونصوغ تفاهمات ندية لا فوقية واضحة لا زغل فيها ولا تشاطر او باطنية فنؤسس لمستقبلنا معاً في وطن نهائي لكل بنيه
كونوا أرثوذكسَ»..
وخذوا ما يدهش العالم

هذا هو لبنان.. من لم يكتشفه بعد هو في غيبوبة، أو هو مهاجر عنه، مقتنع بما يكتب فيه، من مأثور القول «الوطني»، المتمتع بدرجة التفوق في الكذب.
هذا هو لبنان.. من أحداثه تعرفونه. هو لا يُعَرَّف بدستوره، فجُلُّه حبر على ورق، ولا تدل عليه قوانينه، فهذه تصلح للزينة اللفظية في استعراضات الفولكلور السياسي المبتذل.. لا يُعرَّف لبنان بمبدعيه وكتّابه ومثقفيه وفنانيه، فهذه سلالة منقرضة، تستعمل «مانوكان» في السوق الدعائي.. ولا عادت الأساطير مفيدة في تقديم صورة «حضارية» عن لبنان. «الفينيقية» غير قابلة للاستدعاء. ولى زمنها. «الوجه العربي» المستبدل بـ«العروبة الحضارية» ليست مؤهلة للإقامة في بيئة متدينة، بمذهبية متدنية. حكاية «ملتقى الشرق والغرب» و«جسر العبور» لم تعد تروى في لبنان، بعدما انتقل الغرب كله إلى الخليج العربي، وزحف الشرق بمعظمه ليضع مصائره في يد الغرب. فلا أسطورة تنقذ لبنان، بما فيها تعويذة «العيش المشترك» الذي يعاش في الخنادق، ولا «الوحدة الوطنية» التي هجرت البلد بعد انتشار الكمائن الطائفية والمذهبية على مساحة الـ 10452كلم2.
لا يُعّرف لبنان إلا بأحداثه. أسبوع واحد من حياته، كان كافيا لرسم صورة حقيقية تشبه لبنان: السلطة اللبنانية، المؤسسات الرسمية، المجالس العليا، الحكومة والبرلمان، القوى الأمنية والعسكرية، «الهيبة» القضائية، بدت عارية تماماً، أمام بوابات سجن رومية.
هذا هو لبنان بالتمام والكمال، بالتئام عجزه وفراغه.
حفنة من المعتقلين «الإسلاميين»، تأسر السلطات اللبنانية في الفزع. سلطة لا تتجرأ على الاقتراب من بوابات الزنازين المشرعة على سلطة الأمر الواقع في داخل السجن.. ولا سلطة فوقها.
هذا هو لبنان.
في أمكنة أخرى من شوارعه وأزقته وحاراته وطرقاته العامة، يمارس أمراء الشوارع سلطتهم بلا مواربة. تؤهلهم مرجعياتهم الطائفية، المذهبية، العائلية، العشائرية لممارسة سلطتهم بكل ما أوتوا من قوة وبسالة. من دون أي احتساب لمسؤولية أو توقع لعقوبة.. يحاولون اغتيال الوزير فيصل كرامي، نتداعى لتهنئته بالسلامة، ونكبر عائلته التي نزعت الفتيل، ثم، نمارس «العمى» الأمني والقضائي، كي لا يقع ما لا يحمد عقباه.. لا حساب على ارتكاب. لا عقاب لجريمة، لا محاكمة لانتهاك، لا ولا... حتى إذا وقع القتيل.. يحدث ذلك في لبنان، يمارس العجز سياسة، لغاية في نفس «يعقوب الطوائفي». أي حساب لأي مرتكب مدعوم، يمس السلم الأهلي. «حافظوا على السلم الأهلي، بالتغاضي عن قتل أهله».
هذا هو لبنان. لا يبحث عنه في تصريحات المسؤولين وبياناتهم التي لا تزن مثقال غبار في بناء الدولة وتدعيم «السلم الأهلي» المؤجر لقوى الأمر الواقع، بكامل تجهيزاتها الميدانية والعقائدية وشبكة أمانها الطوائفية... لبنان يشبه ما حدث بين لاسا وحراجل: خلاف على أفضلية مرور، قتل فيه أب وابنه. القاتل هنا، لا يعرف بجريمته، بل بدينه، والمقتولان، لا يعرفان بموتهما، بل بمذهبهما. والنتيجة: إقفال طرق، خطب تهديد. نفوس هائجة. ثأر كامن.. لبنان يشبه الاحتفالات الرسمية التي رافقت زيارة «الحج إلى الثلج» في كفرذبيان، حيث للثلوج حرمة طائفية، ويمنع «الطواف» التزلجي عليها لمن ليسوا من أركان المنطقة.
غرفة عناية سياسية وأمنية وطائفية انعقدت على الهواء مباشرة لتأمين السلامة الوطنية، عبر تأمين سلامة الموكب السياحي إلى «مزار» الثلج، لإقامة «صلاة» الترفيه في «البيت الحرام».
لا دهشة في ما يحدث. حصل من قبل نزول آل المقداد إلى الشوارع. حصل إقفال طريق صيدا لأسابيع، ولم يتجرأ أحد على... غيروا السير عن مستديرة الأسير. هذه أشياء طبيعية، تحدث في بلد غير طبيعي. شذوذه يكمن في كونه طائفيا ودولة معاً، وهذا خبل سياسي. لا طائفية مع الدولة. فإما دولة وإما طائفية. زواج الدولة والطائفية، يُنتج ما جاء أعلاه، وما حدث من قبل، وما تحارب عليه اللبنانيون من قبل 15 عاماً، وما سيحدث من بعد، وما سيعجز عنه نوابه ووزراؤه وزعماؤه ومن لفَّ لفّهم، قبيل الاستحقاق المسمى انتخابيا، فيما هو استحقاق اصطفائي، عنصري، إلحاقي، مدفوع الثمن والأجر.
لا عجب في أن يحدث ما حدث وان يحصل غداً الأسوأ. انما العجب يكمن في تغييب الفاعل وفي تجهيل المسؤولين عن ذلك وفي اعتبار ان ما يجري في لبنان، هو «مؤامرة» وهو «حروب الآخرين» وهو من صنع الغرباء، سوريين وفلسطينيين وإسرائيليين وأميركيين... وأتراك.
المسؤولون عما وصل إليه لبنان، هم قادة لبنان الراهنون، الحاكمون فعليا في طوائفهم ومذاهبهم، والمتحكمون بالدولة، كل الدولة، رئاسة ووزارة وأمنا وقضاء وتنمية وتشريعا، بحمولة شعبية مؤيدة لتوجهاتهم المبرمة. والذين نذروا حياتهم لتكون طوائفهم ومذاهبهم أملاكا سياسية خاصة، غير مسموح لأحد مسها.
هؤلاء المسؤولون، مسؤولون عن عدم تجرؤ الدولة على محاكمة الإسلاميين، لإنصاف الأبرياء منهم، وإقامة «الحد القانوني المدني» على المرتكبين... ليس ما حصل بالأمس، هو الأول، ولن يكون الأخير. السجناء بحاجة إلى من ينصفهم أو يعاقبهم. لكن، من يتجرأ على ذلك؟ فهؤلاء، لهم حماية مذهبية، وحاضنة سياسية، وقيادات انتهازية، ساهرة على التوظيف، إذا كان الربح مضمونا شعبياً على الأقل، وغافلة، إذا كانت الخسارة محققة.
تجاهل سجناء رومية، تجارة رابحة حتى الآن، ولو خسرت العدالة وظلم الأبرياء. السجناء في سجن رومية أقوى من الدولة، وقوتهم من قوة تيار إسلامي حاضن لهم. الطائفية سياج يحمي المرتكبين ويمنع العدالة عن الأبرياء. والطائفية محروسة ومصانة من قبل زعماء لبنان الراهنين، الذين يعملون علناً وسراً، على عدم المساس بالمشاعات الطائفية، حيث يعيش «المرابعون» من المواطنين، بحبوحة التعصب ويشحذون أسلحة الثأر دفاعاً عمن استعبدهم.
سجناء رومية أسرى ويأسرون الدولة لأسباب كثيرة: أولاً: من يجرؤ، ودماء القضاة الأربعة لم تجف بعد؟ ثانيا: من يتحمل مسؤولية أحكام توازي الجرم المرتكب؟ ماذا سيكون وقع الأحكام على الشارع المستيقظ والمستنفر؟ كان الحل الأمثل، هو التناسي والتغاضي والتعامل مع السجناء كنزلاء، يحق لهم، ما لا يحق لغيرهم.
إن الكشف عن التفاصيل يوماً ما، سيؤكد ما جاء أعلاه. كما تأكدت قبل ذلك، الحمايات السياسية الطائفية، لأعظم الارتكابات المالية، وأفدح الارتكابات العقارية، وأقسى الاحتلالات للشواطئ اللبنانية.
لو أن للبنانيين ذاكرة، لا تشبه ذاكرة العصافير، لأدركوا أن لبنانهم هذا، الواقف دائما على الشفير، هو صناعة لبنانية، بأيدٍ طائفية ومذهبية لبنانية.
هل يتذكرون مصادرة الجامعة اللبنانية وتفريعها وتفريغها؟ هل يتذكرون الديون الطائلة المليارية التي على لبنان، وقد غابت عن القول والسمع والبصر، بنسيان مقصود. يتذكرون «سوليدير» ومالكيها الحقيقيين من قبل، ومن استملكوها بعد حرب، لم يشترك فيها أصحاب الحقوق؟ هل يتذكرون الفساد ومن يحميه، وحقوق المعلمين والموظفين ومن يهدرها؟ هل وهل ألف مرة لألف قضية؟
إن اللبنانيين يستحقون هذا البلد الذي يشبه عقوبة دائمة لهم. وعليه، فلا وصية يمكن تقديمها لهذه الجحافل الانتخابية سوى: «كونوا أرثوذكس»، وخذوا وطناً يدهش العالم، بانحطاطه، كائنا ما كان قانون الانتخاب العتيد.

nsayegh@assafir.com
< المقال السابقرجوع
Bookmark and Share
إقرأ للكاتب نفسه

كتاب مفتوح إلى الرئيس نبيه برّي

جورج عبيد

دولة الرئيس،
تجلّت الأدبيات الشيعيّة رفيقة بكلّ شعور يتجلّى في من مسّهم الحرمان والإجحاف، وأبعدهم عن حقيقة الوجود. والرفق هذا ذقناه في فكر الإمام موسى الصدر، الذي ارتكز على الأدبيات المسيحيّة بمقدار ارتكازه على الأدبيات الشيعيّة في معالجة مسألة المحرومين، وقراءة لبنان على أنّه وجه للعدالة والحقّ بالتوازن في الإنماء والعطاء.
يغبطنا يا دولة الرئيس، رفضكم فرض أي مشروع خارج أيّ إجماع. ذلك أنّ تكوّن النظام السياسيّ وتشكّله إن لم يولد من رحم الشراكة الكاملة والحقيقيّة القائمة في الفكر الشيعيّ مع الإمام الصدر وقرأناها مع أئمّة كبار، يبقى معرّضَا للعطب والانكسار. والتجارب التي مررنا بها في لبنان، والتي استحالت حروبًا من أجل الآخرين، اغتذت من العطب والخلل المبتلى بهما الهيكل اللبناني. وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة المبذولة من حكماء كثيرين وأنتم على رأسهم، لم تتحقّق الشراكة الكاملة، ولم يبزغ فجرها، إذ يظلّ شريك كبير ومؤسس للبنان مستولدًا في كنف مذاهب أخرى، كما كتب الرئيس إيلي الفرزلي وصرّح غير مرّة. واستهلكت ثقافة الاستيلاد المسيحيين من دون البحث في أوجاعهم المرّة والالتفات إليها. وقد حلا لبعضهم استبقاء المولوديّة بعد أن استطابها وتبيّن ذلك بأنّ المذاهب الإسلاميّة الثلاثة تأتي بنوابها بنسبة 90%، وتأتي بعدد غير قليل من المسيحيين تحت هيمنتها بنسبة 80%. وما يزعج في الأمر أنّ المسيحيين إذا طالبوا بحقوقهم تقوم الدنيا ولا تقعد.
وما يزيدنا غبطة وسرورًا يا دولة الرئيس، أنّكم متفهّمون للهواجس المسيحيّة، وبخاصّة في ظلّ العواصف الوجوديّة الهابّة في المشرق العربيّ. وحين عرض عليكم مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وما هو سوى أسباب موجبة، أجبتم بعد بحث جديّ، بأنّ هذا الاقتراح هو نتيجة وليس سببًا. هو نتيجة هواجس متراكمة وتجارب سابقة ومسار طائفيّ عام في البلد. وأردفتم: «هذا الاقتراح لا يقال بأننا معه أو ضدّه، بل يجب دراسة الأسباب التي أدّت إلى اقتراحه ومعالجة هذه الأسباب». وأدغمتم كلامكم بأنّكم تحترمون الإجماع المسيحيّ.
دولة الرئيس،
ليس مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وكما تعلمون، هدفًا. بل هو الطريق إلى هدف نبيل وسامٍ، وهو إعادة الاعتبار إلى الكيان اللبناني كوطن له وجوده الكامل، ودوره الخلاّق والمتوازن في المشرق العربيّ، بتجسيد المناصفة الحقيقيّة. والوطن لا يشرق وجهه بانتقاص أيّ حقّ دستوريّ يعود لهذه الطائفة أو تلك. ونقدّر سعيكم في هذه المناسبة لجعل تلك الأسباب الموجبة حائزة إجماعًا وطنيًّا بدءًا بالإجماع المسيحيّ. لكن ما نسعى إليه يا دولة الرئيس، أن تتكرّموا وتأخذوا بالأسباب الموجبة لتصير قانونًا يعبّر عن الحقوق الدستوريّة، والتي هي مسلّمة وطنيّة بكلّ ما للكلمة من معنى. ويقيننا، بأنّ العزف على أوتار الوقت الضائع، يميّع الحقوق الدستوريّة أي المسلّمات الوطنيّة التي هي جوهر الحضور السياسيّ للبنانيين.
والتمييع يأباه عقلكم الراجح. ولكننا نتفهم حرصكم للوصول إلى تفاهم حول مشروع ينال رضى الجميع ويسلّم بالمسلمة الوطنيّة. فلا معنى لهذا الإجماع إذا لم يقم على التسليم بالحقوق الدستوريّة. هذا يعود إلى حكمتكم وحِلمكم وبعد نظركم وحسن نيتكم في التحليل. لكن في المعطى الراهن لمَ يتمّ الطعن بمشروع قادر على البلوغ نحو نظام المواطنة عن طريق معالجة الطائفيّة الفوضويّة والمتلاشية بالطائفيّة المتوازنة والخلاّقة؟
لقد أبرزنا يا دولة الرئيس حججًا دامغة، منطلقين من روح الدستور بموادّه التي تظهر عمق المناصفة وحجمها. فالمادّة 22 منه تتكلّم على إنشاء مجلس للشيوخ يمثّل العائلات الروحيّة. ويبدو أن المشرّع لم يعتبر البتّة أن إنتاج الطائفة لممثليها في مجلس الشيوخ يعتبر من المحرّمات الدستوريّة، بل هي من المسلمات الدستوريّة، ولا تتناقض مع أيّ بند من مقدّمة الدستور.
كما ركّزنا في المادة 24 من الدستور التي تكشف مبدأ المناصفة بصورة جليّة عبر توزيع النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين في المجلس النيابيّ (64+64). كما تبحّرنا أيضًا في مضمون المادة 27 من الدسـتور التي تقول بأنّ النائب يمثّل الأمّة اللبنانيّة جمعاء. قرأنا هذه المادّة يا دولة الرئيس بمنهجيتين: منهجيّة تحليليّة ترتبط بمضمون مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ حين دمجنا بين الدائرة الواحدة والنسبيّة، وإن تفردنا بأن تنتخب كلّ طائفة ممثليها، فإن التفرد انطلق من المنهجية الثانية أي التاريخيّة والتي تعود بنا إلى سنة 1870، حين احتل بسمارك فرنسا، وتمّ بعد ذلك فصل الألزاس واللورين عن فرنسا وتمّ ضمّهما إلى ألمانيا، وتمثّلت المقاطعتان بستّة نواب... وبعد أن أصبحت المقاطعتان جزءًا من ألمانيا دعا مكماهون هؤلاء النواب وقال لهم أنتم ممثلون للأمّة جمعاء. هذا يعني أن انتخاب المكونات الجغرافية للنواب سواء صغر حجمها أو كبر يسبغ عليهم صفة تمثيل الأمة جمعاء بعد انتخابهم. وتعلمون يا دولة الرئيس أن الدستور اللبنانيّ مقتبس من الجمهورية الفرنسيّة الثالثة. تسويغ التمثيل وإسباغه على النائب، والمكنون في صلب المادة 27 من الدستور لا يرتبط حصرًا بالدائرة أو الطائفة، ولكنّه يمر بهما ويتجاوزهما ليصبح تمثيلاً واسع المدى يتعلّق بنهائية الكيان اللبنانيّ.
دولة الرئيس،
إن نظام لبنان طائفيّ ولا يمكن تجاوزه. نشأ منذ بروتوكول القائمقاميتين سنة 1841، وبلغنا نحو نظام المتصرفيّة سنة 1861، وبعد ذلك جاء تأسيس دولة لبنان الكبير سنة 1920 بالانفصال عن سوريا ليخلق جدلا طائفيًّا متسربلا بالخطاب الإقليمي، أي الخطاب الوحدوي مع سوريا في مقابل خطاب رافض للوحدويّة. ومررنا بعد الاستقلال بقضيّة فلسطين وما رافقها من تداعيات واضحة توشّحت بالغيوم الطائفيّة ولا نزال منذ ذلك الحين نعيش في جوف هذه الغيوم ودوائرها. وحين أطلقنا مشروعنا رمنا إلى إعادة الاعتبار للميثاق الوطنيّ المتفسّخ والمتصدّع بمناصفة فعليّة تعيد اللحمة وهي السبيل الأوحد لإيناعها. ونسمع بعضهم يتكلمون على إنتاج تسوية تقوم على دمج النظام الأكثريّ بالنظام النسبيّ، من دون تفسير واضح لآلية الدمج ومعاييره. يا دولة الرئيس كيف يمكن الدمج بين نظامين مختلفين حتّى العظم؟
أمامكم فرصة واضحة أرجو أن لا تضيّعوها. اطرحوا هذا المشروع على التصويت، وهو السبيل الوحيد لتحقيق المناصفة الموضوعيّة. وإذا ما تحققت نلج عمق المادة 95 من الدستور التي قالت بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفيّة السياسيّة.


([)
ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»





Saturday, January 26, 2013


منظر عام للفاتيكان
  •  
  • الاستاذ انطوان مسرة
  •  
  • عضو المجلس الدستوري استاذ في جامعة القديس يوسف
  • 2013-01-27
تُشكل الندوة الدراسية التي عقدها معهد الدراسات الاسلامية والمسيحية في جامعة القديس يوسف (8/12/2012) حول موضوع: "العلاقات الاسلامية والمسيحية في السياسات الدولية" منطلقًا في سبيل تحديد دور الاديان في العلاقات الدولية اليوم.

شارك في الندوة باحثون وفاعلون ميدانيون واكثر من اربعين من الطلاب والمهتمين. واعد للندوة ملف في جزئين يتضمن وثائق مختارة وحديثة حول الموضوع.
تمحورت الابحاث والمناقشات حول ثلاث قضايا: تحول الاديان ايديولوجيات مُستجدة في العلاقات الدولية، ونماذج للدور المعنوي للاديان، ومجالات العمل.
(1)
تحوّل الاديان
ايديولوجيات سياسية
هل نحن مقبلون على "كوارث دينية" (وجيه قانصوه) في حال عدم حصول يقظة عامة تجاه تحول الاديان، بعد زوال الايديولوجيات التقليدية، ايديولوجيات مُستجدة في التعبئة السياسية في العلاقات الدولية؟ تحولت الاديان ايديولوجيات في السياسات الدولية من خلال اربعة عوامل:
أ- اليهودية الصهيونية: بُوشر بشكل استراتيجي في تحويل الدين ايديولوجيا من خلال اليهودية الصهيونية التي حولّت الله بائعاً ومضارباً عقارياً. خضع العالم الغربي للابتزاز ولا يزال بعد اكثر من نصف قرن بالرغم من التحول الصارخ للضحية جلاداً.
ب- الانظمة العربية المستبدة: عممّت أنظمة عربية مستبدة مقولة الحماية من التعصب والارهاب واوهمت الناس ان البديل منها سيكون الارهاب باسم الدين. وتعمّم هذا الادراك عالميًا، وكذلك الابتزاز، ما جعل الغرب متواطئًا لعقود مع انظمة مُستبدة تدعي الحماية من الارهاب "الاسلامي".
يعيش تاليًا عالم اليوم مع اديان مخيفة او اسلاموفوبيا عمّمتها انظمة توتاليتارية. ويعيش ايضًا مع اديان خائفة، غالبًا لدى مجموعات مسيحية، تدجّنت على غريزة الحماية في ظل انظمة توتاليتارية. يعيش العالم "تنظيرًا للخوف" (ديانا ملاعب). ولماذا تحصل ثورات في زمن تاريخي محدد دون غيره؟ زمنية التحولات العربية مرتبطة بثلاثة عناصر في علم النفس التاريخي: لحظة انهيار جدار الخوف، وضخامة تراكم الكبت، وحصول وعي جماعي شامل.
ج- الصراع بين الانسان والله: يعود السبب الثاني لتحول الاديان ايديولوجيات الى مسار الحضارة الانسانية المتأرجحة بين "تملك الذات وتملك الله" (انطوان قربان). جاء في احدى المداخلات: "انتصار الفرد كان ضروريًا، ولكن كلفته باهظة لفترة زمنية حيث حُكم الله لم يترك مجالاً للانسان. تتطلب الانسنة الشاملة والكاملة مصالحة بين الفرد والله. هل تتحقق هذه المصالحة في الثقافات الدينية؟" (انطوان قربان).
د- تعميم الجهل الديني والايماني: الحوار غير ممكن في حالات من الجهل (ديانا ملاعب). يظهر غالبًا الجهل في انتشار مقولات اهل الناموس في حين ان النص هو "متغير ونسبي". جاء في احدى المداخلات: "الزمن يلقي بكل ثقله على النص".
(2)
القوة المعنوية للمؤسسات الدينية
يُستخلص من الندوة دور المؤسسات الدينية في ارساء السلام العالمي حيث ان هذه المؤسسات "تتحمل مسوؤلية خاصة في صنع السلام في ارتقائها الى رحابة الايمان" (عزيز حلاق). ذُكر اللقاء العالمي الاول في اسيسي Assisi سنة 1986 وما حصل من "ابداعات ايمانية ريادية" (وجيه قانصوه). يُذكر في هذا السياق ثلاثة توجهات ريادية:
أ- المجمع الفاتيكاني الثاني: دعا اليه البابا يوحنا الثالث والعشرين في سبيل "مصالحة الكنيسة مع نفسها ومع العالم ومع الاديان الاخرى" (محمد السماك). انعقد في الثاني من تشرين الاول 1962 بمشاركة 2800 اسقف من 116 دولة واصدر 16 وثيقة دينية. عنوان المجمع: الحياة الكهنوتية والعلاقات الاجتماعية: الكنيسة والعالم المعاصر. سبقه 20 مجمعًا. توفي يوحنا الثالث والعشرين في 3/6/1963، اي قبل انتهاء المجمع. حصلت "معارضة قوية لهذا التحول. اعتبرت الخلافات مع المسلمين خطيئة للايمان بالله الواحد ووُصف المسلمون بالاخوة. وسُمح للكنائس في العالم ان تُقام قداديس باللغات المحلية، حيث ان ثلثي المسيحيين يعيشون في آسيا وافريقيا... وبُني مسجد في روما... لا يوجد دين ارهابي، بل ارهابيون في كل دين. كانت دعوة للتعارف ليس على اساس تسامحي بل ايماني... ثم انشأت المؤسسة الدولية للحوار بين الاديان في فيينا. التداخل الديموغرافي يغيّر صورة العالم وقد يُشكل خطرًا على السلام العالمي اذا لم نعمل بروح المجمع الفاتيكاني الثاني. لم يأخذ هذا العمل الفاتيكاني حقه في سلم الاهتمامات الاسلامية" (محمد السماك).
ما الذي عوّق الاستمرارية؟ ذُكر في هذا السياق حرب حزيران 1967 واحتلال القدس وحرب 1973 (محمد السماك). من يحمل تاليًا رسالة المجمع الفاتيكاني الثاني الى العالم العربي والاسلامي؟ لبنان مؤهل ومدعو. لكن حصلت حروب 1975 في لبنان (محمد السمّاك). ذكرت حالات عديدة في الولايات المتحدة الاميركية دعمًا للحقوق العربية من قبل الشعب الاميركي، ولكن لم تصدر "كلمة شكر عربية" (محمد السمّاك). لماذا لا نطرق ابواب الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة؟ (محمد السمّاك). وذكر قول لاحد الاميركيين بعد ان سمع شهادة ذاتية خلال محاضرة: "اعتذر عما كنت اعتبره اسلامًا قبل الآن" (محمد السمّاك)!
ب- ديبلوماسية الفاتيكان: تشكل ديبلوماسية الفاتيكان نموذجًا في ارساء السلام العالمي. جاء في احدى المداخلات: "عشنا مواسم فاتيكانية متلاحقة معبّرة عن عمق العلاقة مع الكرسي الرسولي. مساحة الفاتيكان لا تتعدى 44، 0 كم 2 ولكن له علاقة مع 179 دولة في العالم ويُشكل الكاثوليك مليار و300 مليون نسمة. انها مملكة بلا حدود. لها ثلاث وسائل للعمل: من خلال الكنائس الكاثوليكة، والديبلوماسيين، والاعلام. التراتبية غير موجودة في كنائس اخرى. مرجعية البروتستانت الكتاب المقدس. يُعين الفاتيكان سفراء. يُعين البابا كاردينال نيويورك. في الولايات المتحدة 77 مليون كاثوليكي... رفضت الصين صلاحية تأتي من الحبر الاعظم وتمارس محليًا كسلطة عابرة للحدود. في القضايا الاجتماعية الفاتيكان هو من أكثر الدول التي فيها حضور فاتيكاني. تبحث الكنيسة عن الحقيقة أكثر مما تبحث عن الحداثة. وتأخذ احيانًا مواقف لا تجاري الرأي العام. ما هي ديبلوماسية الفاتيكان؟ انها ديبلوماسية بدون مصلحة وتختلف عن ديبلوماسيات سائر الدول. لم تلتقِ المصالح الخارجية لانهاء الحروب في لبنان. وهذا ينطبق اليوم على سوريا. تألم البابا يوحنا بولس الثاني من الوضع اللبناني، اذ طوال سنوات من حروب لبنان لم يستطع وضع حد لها. وسائل عمل الفاتيكان محدودة وامكاناته في المعايير السياسية السائدة معدومة. قال ستالين: كم فرقة لدى الفاتيكان؟ للفاتيكان قيمة معنوية. قد ينظم سينودس من أجل لبنان... ينتمي ديبلوماسيو الفاتيكان الى مدرسة راقية. أمر الفاتيكان سفيره بالعودة الى بغداد وبقي السفير كل مدة الحرب في العراق" (داود الصايغ).
ج- دور الأزهر: أي فقه سلام نريد؟ (محمد النقري). جوابًا على السؤال عُرضت مساهمات الأزهر الأخيرة في سبيل بناء "فقه اسلامي تجديدي دعمًا للسلام العالمي وفي انسجام مع لاهوت المجمع الفاتيكاني الثاني" (محمد النقري).
(3)
ما العمل؟
طرحت احدى المشاركات السؤال: "عندما أعود الى مصر ماذا أفعل؟" (رضوى صالح). يُستخلص من الأوراق والمناقشات ثلاثة توجهات رئيسة:
أ- الاستدامة: طُرح السؤال على أثر عرض "الابداعات الايمانية": "لماذا لا نكمل وأين؟ لماذا لاهوت السلام لا يصل الى مكانه ولا تصل الرسالة؟ تكرار المحاولة هو بحد ذاته نتيجة وجزء من النجاح وليس لدينا خيار آخر. يجب ان نرى للفكر انعكاسات سلوكية فينزل الى المجتمع بكل اوحاله حيث لا تكفي الموعظة" (وجيه قانصوه).
ب- الفاعلون: "من يحمل رسالة الفاتيكان الثاني؟" (محمد السماك). الحاجة الى الرجوع الدائم الى "القيم الايمانية" اذ لا يحتكر أي دين كل الايمان. المبادئ الانسانية عالمية وعابرة للحدود في سبيل "انسانية شاملة وكاملة" (انطوان قربان). جاء في احدى المداخلات: "هل نختصر المواطن في انتمائه الجماعي؟ هناك ثقافة سلام ميزتها الفرد ومصالحته مع ذاته. انه فرد وحيد في مواجهة مع الذات الالهية. يحترم فضاء الحيز العام كرامة الانسان وهذا عنوان مجد الله على الأرض. عندما نحترم شرعة حقوق الانسان نعلن مجد الله على الأرض" (انطوان قربان).
ج- هوية متداخلة وجامعة: يظهر من خلال مداخلة في تاريخ العلاقات الاسلامية والمسيحية وتاريخ العائلات كيف ان "العائلة اللبنانية واحدة في طوائف متعددة، اذ أكثر من نصف اللبنانيين هم من جذور واحدة" (حسان حلاق). ويظهر أيضًا ان النبي محمد "كان له علاقة مع المسيحيين في العلاقات الانسانية اليومية وفي التجارة...، ما يحمل على ضرورة ان "نتفقه تمامًا" (حسان حلاق).