Tuesday, December 25, 2012

ميلاد المسيح في مشرق المشارق

جورج عبيد
ليس سهلاً على المسيحيين أن يقبلوا إلى فرح العيد، والدنيا مغلقة أمامهم، في انسداد الأفق بالمعنى السياسيّ والمعيشيّ. غير أنّهم أبناء الرجاء. والرجاء يدفعهم إلى قراءة حدث الميلاد على أنّه يتم في الزمان الحاضر. «اليوم يولد من البتول الضابط الخليقة بأسرها في قبضته».
المؤامرة مستمرّة على يسوع المسيح منذ مولده، حين راح هيرودس يبحث عنه بين صبية بيت لحم ليقتله. قتل الأطفال بوحشيّة هائلة، فيما الطفل وأبواه انتهوا إلى مصر هربًا من وحشيّته، ومن ثمّ جاء موته على الصليب تتويجًا لها. وعندما قام من بين الأموات وصعد إلى السماوات، استمرّ البحث عنه ليقتل من جديد... ولكنّ قومه استطابوا الشهادة في التزامهم وجهه، لأنّهم آمنوا وكما قال الحلاّج: «ركعتان في العشق لا يسوغ الوضوء بعدها إلاّ بالدم».
هم يجيئون من قول المخلّص لبطرس: «أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها». هم الكنيسة إذا ولدوا من فكر المخلّص: «ليكن فيكم الفكر الذي في المسيح يسوع». بمعنى، أنّ المسيحيين هم لهب السماء بما حباهم الله من طاقات إبداعيّة تتخطّى العدد، لأنّ الله، وكما قال الامام عليّ ابن أبي طالب أمير المؤمنين فوق العدّ وفوق الحدّ. فإذا جاءوا من هذا الفكر عينًا يؤسسون تلك الكنيسة التي لن تقوى عليها الجحيم، ويكملون المسيرة في جعل الكتاب العزيز هو الكلام، وهو البدء والمنتهى.
هذا الكتاب هو انعكاس لتجسّد المسيح بل استمرار لفعل التجسّد المستمرّ في جماعة المؤمنين، والذي توّج بالصليب والقيامة. ذلك أنّ الإنجيل، وكما القرابين، في القداس الإلهيّ، هو جسد يسوع، ووجهه الكائن في الزمان الحاضر. وقد تعودنا في النقد الأدبيّ، أن نقول بأن النصّ هو ذات الكاتب، كما أن القصيدة هي ذات الشاعر، فإنّ الإنجيل هو المسيح الحيّ الذي يضمنّا إلى صدره، فيما نحن اليوم نحيي ميلاده الشريف، ونستمرّ بقوّة الكلمة.
ليس السؤال في حقيقته محصورًا بماهيّة التهديد الذي يعيشه المسيحيون العرب اليوم، وما يستتبعه من أفعال. هم هددوا مرارًا عدة في التاريخ، واستمرّوا، ولم ينفصلوا عن الأرض التي منها ولدوا وإليها يعودون. لكنّه ممدود إلى آفاق تعنى ببقائهم كمكوّن وجوديّ حامل للرؤى الكاملة، وليس فقط كمكوّن تاريخيّ أو سياسيّ. إذ إنّ تكوينهم الوجوديّ والبنيويّ مكتوب بالكلمة الذي هو الجوهر، وهو علّة العلل في مسيرتهم وحضورهم. الكلمة الذي صار جسدًا مخضّبًا بالدم، غدا هو إطار وجودهم وحركتهم وتلاقيهم مع كلّ آخر.
هل أنّ المسيحيين مهددون من الآخرين، أو هم مهددون بالدرجة الأولى من ذاتهم؟
إنّ هذا الأمر هو في غاية الخطورة من حيث التوصيف الواقعيّ للأزمة التي يمرّون بها، وبخاصّة في العالم العربيّ. ذلك أنّ من عاد إلى تاريخهم اكتشف أنّه مليء بالاضطهادات، ما خلا الحقبة التي فيها حملوا السلاح ظنًّا منهم أنّهم به يستبيحون العالم، كما حصل مع الحملات الصليبيّة، أو في الحرب اللبنانيّة... والواقع أنّ شمسهم بدأت بالأفول فعليًّا، حين قرّروا في حقبات عدة من التاريخ حمل السلاح، إذ إنّ حمل السلاح ناجم من الخوف، فكيف يخاف قوم يقولون بالقيامة؟
غير أنّهم في العراق لم يحملوا السلاح فقتلوا، وفي فلسطين حملوا لواء قضيتهم وجاهدوا في سبيلها فسلخوا بصورة شبه كاملة عن وطنهم، وفي سوريّا يعيشون اليوم قلقًا حقيقيًّا فيقتل بعضهم، كما أنّهم في مصر يرتجفون من الخوف والاضطراب، فيما هم مؤسسون لتاريخ مصر المعاصر والحديث، أمّا مسيحيو لبنان فيساورهم القلق حول المصير. وهذه علامات تستدعي القلق وأسئلة سياسيّة ووجوديّة. لكنّ الخطورة في كلّ هذا الاصطفاف، أنّ المسيحيّ متخلّ بصورة شبة نهائيّة عن ذاته النابعة من المسيح.
نعم، ما كان للمسيحيين أن يحملوا تلك الكنية لو لم يكتبوا على اسم يسوع، لو لم يولدوا من كلماته، والتخلّي هذا يدفعهم إلى الانسلاخ عن أرضهم وأوطانهم، والهجرة إلى دول الاغتراب غير آبهين بالدعوة الموجّهة إليهم لكي يبقى حاملو المسيح في مشرق، لبسه جسدًا في ميلاده فغدا هو مشرق المشارق.
لنا أن نطرح أسئلة سياسيّة كثيرة في هذا الزمان، وبخاصّة تلك التي تختصّ بعلاقة المسيحيين بالمسلمين، في وضع متأزّم محتدم، ومتّجه إلى مزيد من الصراع المذهبيّ بين الشيعة والسنّة. أنّ أي مشروع بإمكانه السقوط في جبّ العدم، إذا لم تتوطّد العلاقة بين المسيحيين وكتابهم، فينعكس ذلك على علاقتهم بأرضهم وسواهم. والواقع يقول بأنّهم جزء من المعادلات التاريخيّة المرسومة في دول المشرق العربيّ، فإذا أخرجوا من المعادلات الحديثة فإلى أين يتجّه هذا المشرق؟ وهل يقبلون أن يكونوا لاجئين في أقبية الأمم المظلمة؟
ما تمكن قراءته في الزمان الحاضر، أن التاريخ أظهر غير مرّة أنّ المسيحيين ضحيّة التغييرات الجيوسياسيّة الكبرى. ومن خصوصيّة هؤلاء أن يمزّقوا الله في التاريخ، لأنّ التاريخ يتمزّق إذا تمزّق هو ويموت. وحشر المسيحيين في العدد وسيلة لتمزيق الله أيضًا. لذا وجب على المسيحيين في عيد ميلاد ربّهم، أن يعيدوا قراءتهم لموجوديّتهم، بصفاء وهدوء تامّين. والأهم أن يتصالحوا مع كتابهم ليولدوا منه ويتصالحوا مع كلّ آخر. فإذا تصالحوا تأصّلوا بأرضهم، وجعلوا أزليّة الله محرّكة للتاريخ. فالإنجيل ليس جسد المسيح فقط بل هو جسدهم الواحد الممدود من تلك الأزليّة، والجامع المتفرّقات إلى حال واحد. فمتى لبسوه يولد المسيح في مذود الشرق، ويبقى المسيحيون شهودًا على ذلك.

([) ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»
< المقال السابقرجوعالمقال التالي >
Bookmark and Share
إقرأ للكاتب نفسه

No comments:

Post a Comment