Sunday, December 23, 2012



النص الكامل :
اتفاقية لافروف - كيري
لا يزال الشرق الأوسط منذ قرن من الزمان يعيش تحت ظلال إتفاقية وزيري خارجية فرنسا وبريطانيا المسماة بإسميهما سايكس - بيكو منذ العام 1916 ، و التي لم تنطلق حينها كما افترض كثير من العرب من دعم الفرنسيين لمجموعة قيادات لبنانية ، لم يبق أحد منها على قيد الحياة بينما بقيت سايكس بيكو حية ، وافترض آخرون انها لدعم الملكية في مصر اوالعراق او لتتويج حركة الشريف حسين عبر سلالتها على مملكة عربية موحدة كما ظن كثيرون ، واليوم عندما يتطلع المؤرخون والسياسيون لما تعنيه سايكس بيكو لن يخطر ببال أحدهم شيئ مما رافقها في زمن ولادتها ، فقد بقي من سايكس بيكو ما كان في زمن ولادتها أصل ولادتها و سببا لولادتها ، ومختصره أمران : - رسم قواعد الجغرافيا السياسيا في الشرق الأوسط من جهة و - توزيع دوائر النفوذ والمرجعيات الحاكمة لهذه الجغرافيا بين الدول العظمى من جهة أخرى .
عندما جاءت الحرب العالمية الثانية وعقدت قمة يالطا بين زعيمي الدولتين العظميين الجديدتين السوفياتي خروتشوف والأميركي ايزنهاور قبل ان تنعقد قمة التكريس الثلاثية التي ضمت ستالين وتشرشل ورزفلت وكان صانعا " سايكس بيكو" في حال تراجع العظمة بقيت صيغتهما في شق الجغرافيا السياسية بلا تعديل خصوصا لجهة نفوذ بريطاني على النفط وبلدانه ونفوذ فرنسي على المتوسط وتجارته وبلدانه ، وبقي لهما توزيع النفوذ كتعويض عن خسائر الحرب للحليفين البريطاني والفرنسي و لحداثة معرفة الحاكمين الجديدين للعالم بخفايا العالم القديم وأسرار حكمه وإدارته .
لم تتح التغييرات التي لحقت بالتكوينات السياسية الحاكمة وخصوصا ثورة جمال عبد الناصر وانقلابات سوريا و العراق وانتصار ثورة الجزائر وسائر دول سايكس بيكو في زمن الحرب الباردة منذ الخمسينات حتى التسعينات ، الحاق تغيير جذري بجغرافيا كيانات سايكس بيكو، رغم نجاح اللاعبين الكبيرين الصانعين لقمة يالطا بالتسلل لوراثة صانعي سايكس بيكو او مقاسمتهما على النفوذ وبقيت سايكس بيكو لأن تعديلها يحتاج نصرا حاسما لقوة دولية صاعدة ترسم وحدها العالم الجديد وهذا ما حاولته وفشلت فيه الولايات المتحدة الاميركية في ولايتي جورج بوش او تفاهما دوليا بين معسكرين كبيرين متقابيلن في حرب تحدد موازين القوى ودوائر النفوذ وهذا ما لم تنته فصوله بعد منذ حرب أفغانستان عام 2001 .
الواضح أننا ما بين تفكك الاتحاد السوفياتي 1991 ونهاية الانسحاب الاميركي من العراق 2011 كنا امام حرب عالمية ثالثة شنتها الولايات المتحدة الاميركية لفرض جغرافيا سياسية جديدة وقواعد نفوذ جديدة ، وقد نجحت بذلك في شرقي اوروبا الذي تغيرت هويته عن ما بعد يالطا و أعلنت سقوطها كليا بانضمام دول حلف وارصو السوفياتي الى حلف الناتو والى الاتحاد الاوروبي بدلا من المنظومة الاشتراكية ، وبالتالي عمليا سقطت يالطا مع تقسيم يوغوسلافيا بعدما تمزقت اوراقها بوحدة المانيا ، اللتان قسمت يالطا احداهما ووحدت الاخرى بالعكس تمام لما جرى مع نهايتها ، وتابعت واشنطن في المدى الحيوي لروسيا والصين في جورجيا واوكرانيا واليابان والهند وصولا الى اكتشاف الحاجة لترتيب الشرق الاوسط قبل رسم قواعد اللعبة الجديدة ، فكانت حرب افغانستان بداية الحملة الامبراطورية التي توجت بحرب العراق وبعدهما حرب لبنان وحرب غزة وظهور التوازنات الجديدة التي تقول ان مثلث روسيا الصين ايران اللاعب الجديد في اسيا ليس الرجل المريض الذي تنهيه حرب عالمية ثالثة ، ليكون الربيع العربي وثوراته وما كشفته من تفاهم مع الاسلام السياسي ممثلا بالاخوان المسلمين وصولا لاستباحة التعاون مع تنظيم القاعدة ، الحلقة الحاسمة في هذه الحرب وتأتي حرب سوريا لتقدم الفرصة لتكون أحد مشهدين في هذه الحرب " استسلام اليابان " او "صمود ستالينغراد " ويبنى عليها ما تبقى من مقتضيات المعادلة الجديدة .
جنيف تبدو عنوانا لمكان التفاهم الجديد الذي ترتسم معالمه وجون كيري وسيرجي لافروف يبدوان رمزان لاسمين يدخلان تاريخ السياسة الدولية من بابها الواسع لترصيع توقيعهما على وثيقة ستحكم العالم ربما لقرن من الزمان .
كثيرون يرغبون برؤية العالم يدور حولهم ويرتسم من خلالهم كما كان الحال في مرحلة ولادة سايكس بيكو فيقول بعض هواة الرغبة بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد أن لا مكان للتفاهم الدولي بخلفية ما يرغبون وليس بقراءة المشهد الكبير الجديد الذي يرتسم ويقول بعض عقلائهم كما كتب وليد شقير في الحياة لكن ببعض الرغبة الدفينة المحكومة بعقدة الأسد ومرة اخرى بعيدا عن القراءة الحقيقية لما يجري "ان روسيا تتغير لحساب التخلي عن الاسد " لكن كله بعيدا عن الحسابات الحقيقية لمصالح الكبار .
المشهد واضح ، فواشنطن قد إستنفدت ما هو إيجابي في الربيع العربي وهو آخر حروبها وأنجحها ، وبدأت مرحلة الإنحدار في ما ولده من أزمات ومخاوف ومصادر للقلق ، و الضغوط الإقتصادية صار مردودها تفاعليا بالإتجاهين على صاحب العقوبات ومتلقيها في عالم ينكمش ويقع أركانه تحت ضربات الإختناق وتتهدد كيانات وليدة وعملة وليدة كالإتحاد الأوروبي واليورو بالتفكك والتلاشي ، والقدرات العسكرية تتقابل بأقوى مفرداتها في الحرب السورية من صواريخ الاسكندر والبارتيوت الى قوات النخبة الأطلسية في القدرة على بذل الدماء تمثلها القاعدة في مقابل قوات النخبة السورية ، وتتبلور توازنات حاكمة وخطوط حمر لا يمكن تخطيها ، وعلى ضفة مقابلة اقتصاد صيني ينمو ومدى روسي يتوسع وقدرة ايرانية تتعزز .
زمن التقدم يترنح أميركيا وزمن العد التنازلي يبدأ رغم الوعود الكثيرة والمواعيد الكثيرة ، سقط الأمل بسقوط سوريا كمفصل اخير لرسم التوازنات ، وبالمقابل رغك تبلور حلف آسيا الجديدة ، لا يملك هذا الحلف خطة وتصور ومشروع لحسم في سوريا أو في غيرها ، ويفضل مواصلة الصمود للوصول الى طاولة التفاوض ، رغم ان بين يديه امكانية التفكير بحلف عراقي ايراني سوري يبيح ادخال قوات على طريقة درع الجزيرة التي دخلت الى البحرين، وبامكانه نشر صواريخ تعادل نشر البارتيوت على حدود تركيا مذيلة بتوجيه انذار بسحب الباتريوت واعتباره تهديدا بحال الحرب ، وربما كانت بيده فرصة حرب على اسرائيل تغير التوازنات .
يبدو الكل مهيئا للذهاب لطاولة التفاوض وقد نضجت المعادلات وقد استهلك الرهان على الوقت وبدأ مفعوله عكسيا .
في هذا السياق اعيد انتخاب باراك اوباما رئيسا لولاية ثانية ولكون العلملية انتخابية فيها الكثير من الداخلي الاميركي يجيئ تعيين جون كيري وزيرا للخارجية الاميركية قطعا للشك باليقين خصوصا انه جاء بترشيح جمهوري وتكريس ديمقراطي كحاصل اجماع وطني اميركي .
كيري صانع لعبة الاخوان المسلمين في المنطقة لمن لا يعرف ومسوقها في الكواليس الاميركية وكيري صانع الحوار مع الرئيس الأسد ومسوق هذا الحوار في واشنطن وكيري الخصم العنيد للتعاون الاستخباري مع القاعدة او الاحتواء المزدوج كما يجعلون الاسم اجمل واقل وطأة ، وكيري داعية تقاسم هادئ وتفاوض ناعم مع بكين وموسكو وطهران لرسم شرق أوسط جديد غير الذي بشرت به غونداليسا رايس ، وفي قلب هذه المعادلة سلام عربي اسرائيلي ، وهو يتباهى بكون ثمرته الناضجة من حلف الاخوان كانت امن اسرائيل بتموضع حماس في حضن اخوان مصر كما كان يتوقع ويشرح لزملائه في لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس .
لافروف رجل الجغرافيا السياسية الاول في العالم وصاحب نظريتها التي حاول داوود اوغلو سرقة لقبها بكتابه الذي خان وصيته المعروفة بالعداوات صفر مع الجيران لتنتهي بالجيران صفر ، وهو المفاوض الصلب صانع المصطلحات المدروسة بمثل ربط رفض التفاوض على الرئاسة السورية بمبدأ عدم المس بالسيادة ، وربط التدخل الدولي بمعادلة تهيئة الشروط لحوار فانتخابات .
سيجلس الرجلان ومن ورائهما أخطر خبيرين بشؤون المنطقة وليم بيرنز وميخائيل بوغدانوف واماهما حقائق اهمها ان لا احد منهما يملك حلا سحريا في سوريا وان لا حل لخرائط العالم بلا سوريا ، وان شرط الحل هو التفاوض مع الاسد ، وان لا احد يملك قراره منهما بل يملكان صداقة من جهة وعداوة من جهة مقابلة ، والصداقة الروسية تعرف حجم المصالح المتبادلة لكنها تعرف القدرة المحدودة على طلب اكثر من قبول احتكام سوري لانتخابات حرة تعرف ان الاسد سيفوز بها ، والعداوة الاميركية تعرف مدى محدودية اي جديد سيضاف لحلف الحرب كما تعرف ان دولة متوازنة وفيها جيش قوي ورئيس قادر على تنفيذ الالتزامات شروط ضرورية لعلملية السلام التي تريدها واشنطن بقوة هذه المرة .
سيتفاوض الرجلان طويلا وسيمزقان الكثير من الخرائط لكن الواضح من الآن أن معادلات أربع ستسمى اتفاقية لافروف كيري لقرن قادم :
- المدى الجغرافي الممتد من الصين الى افغانستان وايران والعراق وسوريا وشمالا حتى القطب المتجمد هو مدى روسي فيه مصالح اميركية اما جنوبا فهو مدى اميركي فيه مصالح روسية صينية ايرانية ، السوادن جنوبا مقابل تركيا شمالا وهكذا .
- عملية طويلة ومتدحرجة لتبريد الصراع الفلسطيني الاسرائيلي لا تحرج اطرافها بتنازلات قاتلة امام جمهورهما المتفجر والمرتبط بشعارات يصعب هدم بنائها بسرعة وعزل هذا البعد عن المحيط العربي والاسلامي لحلف الشمال وخصوصا سوريا ولبنان وايران لتركه يهدأ في حضن مصر وتركيا وقطر والسعودية .
- خطوط النفط والغاز وتجارتهما وامنهما مصلحة اميركية استراتيجية امنية واقتصادية ومالية لكنها في عهدة روسية صينية ايرانية من المتوسط الى الخليج وكازاخستان وفي قلب هذه التقاطعات مكانة حساسة لسوريا تستحق تمويلا يعيد لها الاستقرار ويلبي حاجات اعادة البناء .
- التغييرات السياسية نحو صيغ الحكومات المنتخبة تتقاسم السلطة مع رؤوساء وملوك وامراء ستشمل كل دول المنطقة بما فيها ممالك وامارات الخليج لكن بهدوء وسيكون للمعارضات في الخليج ومصر وتونس وليبيا ما يوازن ما ستحصل عليه المعارضة السورية والعراقية مع خط احمر يمنع ممثلي ومناصري القاعدة من دخول لعبة السلطة من افغانستان الى المتوسط والاطلسي .
في الربيع سيصل كيري ولافروف الى بلورة تفاصيل هذه المفكرة وسيكون كيري قد صار جاهزا لزيارة سوريا

No comments:

Post a Comment