Sunday, December 23, 2012


مسيحيو سوريا ينتظرون حُكم النظـام الجـديد عليهـم:
فــي الميــلاد الــديــانــة تمــوت فــي مهــدهــا

مادونا سمعان

بين البلدات والقرى المسيحية في جبل لبنان «تختبئ» عائلات سورية مسيحية نازحة هربت من القتل ومسلسل الدمار. حُكم عليها بإقامة جبرية لا تعرف متى تنتهي وإلى ماذا ستؤول، لكن ما تدركه تلك العائلات وما تعيه أنها باتت «الآخر» المرفوض. منها من شهد على أعمال قتل وحشية وفقد قريباً أو صديقاً، ومنها من أنهكه الخوف فهرب من الوطن إلى الدين. وهي تشعر اليوم بأن الاثنين يلفظانها لأنها «الآخر» الذي يُخلّ بالتوازن أينما حلّ. بقي أهلها في لبنان، أو من يشبهها في المعتقد والطائفة، خشبة الخلاص الوحيدة، وهي تعيش اليوم جلجلة، ولا أمل لها في قيامة إلّا في بلاد غربية بعيدة. والبلاد تلك ما زالت ترفض جواز سفر أبناء تلك العائلات أو تقفل أبوابها في وجه هويتهم السورية.
تتشابه قصص نزوح تلك العائلات في الخوف على الوطن وعلى المستقبل، وفي العيش على إيقاع يومي يحكمه المجهول. وهم ليلة العيد يفتقدون لقاء العائلة الكبيرة والبيت والمدرسة والعمل، يفتقدون تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة والتافهة... وهم يتوافقون على أن المسيحية بدأت تحتضر في مهدها، بدأوا ينعونها ويهزأون من الاطمئنان الذي يعيشه المسيحي اللبناني و«الذي مهما اختلفت الوسائل المؤدية إلى هجرته، فهو حتماً سيهاجر»، وفقهم.
تخاف العائلات المسيحية السورية النازحة الكلام في السياسة، فهي بدأت تدفع ثمنه باهظاً. والأكثر جرأة من بين أبنائها يعلّل سبب تأييده للنظام قبل ذكره أنه مؤيد له. وإذا ما ألقى اللوم عليه في الأحداث الأخيرة، فاللوم حتماً لا يأتي لا من باب التأييد للمعارضة ولا من باب الحرص على النظام.
من بين تلك العائلات معارضون «فاتحون خط معارضة على حسابنا» كما يقول أحدهم، وهم يندمون على عدم محاولة الهجرة منذ زمن بعيد، وتحديداً منذ انقلاب الرئيس الأب حافظ الأسد.
يأتي العيد اليوم ليزيد تلك العائلات قلقاً على المصير وخوفاً من المجهول، وقد أصرّت على تزيين شجرة وإقامة مغارة رمزية تشبّثاً بالأرض «التي هي مسيحية كما هي مسلمة» على ما يشير عدد من أبنائها. وغالبيتهم تنشد العودة إلى سوريا مع أنهم يشعرون بأن مستقبلهم لن يُشرق إلّا من الغرب.

لا نريد قتلنا مرتين

حين كتبت ريتا، ابنة الست سنوات والنازحة من سوريا رسالتها إلى بابا نويل هذه السنة، أشارت إلى لعبة إلكترونية جديدة وطالبته بأن يأتي لها بألعابها القديمة من بيتها في حلب. وإذا كان من خيار واحد فهي تفضّل ألعابها التي تركتها منذ أكثر من شهر في البيت الذي تريد أن تعود إليه بشدّة.
نزحت عائلة ريتا إلى بلدة الصفرا في كسروان بسبب الأحداث في سوريا، وهرعت إلى منزل ابنة خالة الأب أنطون بعد مقتل صديق عمره «على أيدي الثوار». مع العائلة المؤلفة من أربعة أشخاص (أب، وأم، وابنة، وابن) نزحت زوجة الصديق وابنها.
تنام العائلتان اليوم في شاليه مؤلف من غرفة نوم وصالون، قدمته لهما قريبة الأب. تمضيان فيه معظم الوقت لأن الأولاد لم يسجّلوا في مدرسة، ولا الأب وجد عملاً بعد.
يقول أنطون انه حتى الساعة، ما زال يشعر بأن إقامته موقتة في لبنان ولن تزيد عن الشهر. والموضوع مدار بحث وسجال بينه وبين زوجته التي تطالبه بإيجاد عمل «لأنه لا يلوح في الأفق حتى الآن، سوى حلّ البقاء في لبنان». هو يفضّل العمل بجديّة على موضوع الهجرة إلى بلد غربي. حاول لدى السفارة الفرنسية كما حاول لدى النروجية، لكن طلبه رفض.
يريد أنطون أن تهدأ الأحوال وأن يعود إلى سوريا، لكنّه يضع شرطاً أساسياً لعودته «أن لا يكون النظام الذي سيتولى حكم البلاد إسلامياً». يقول انه ليس مع بقاء نظام بشار الأسد «لأنه ليس ديموقراطياً» ثم يستدرك «الرئيس لم يخطئ تجاه المسيحيين وأشعرهم بالامان لكنه حتماً لم يقدم الصورة الأمثل للدولة». يجزم أنطون أن غالبية المسيحيين من مؤيدي النظام «قد لا يكون محبة بالأسد بل لأنهم ضدّ تسلّم طرف إسلامي متطرّف قيادة الدولة».
يقول ان المسيحيين بدأوا يدفعون ثمن تأييدهم للنظام، وأن صديقه واحد منهم وقد ترك خلفه زوجة لم تتجاوز سن الثلاثين وابنا في الخامسة من عمره.
كانت تلك الزوجة تجلس مختبئة في غرفة النوم، خائفة. تروي زوجة أنطون أنها لا تنام في الليل وتبكي باستمرار وتخاف السير في الشوارع وتمنع ابنها من اللعب مع أولاد آخرين، وتصاب بهستيريا كلما سمعت بموضوع السلاح والتسليح.
لم تستطع تلك المرأة أن تتعرف إلى جثة زوجها المشوّهة الا من خلال ساعة يده، وقد قطعت أطرافه وشوّه وجهه بعنف. هي لا تريد العودة إلى سوريا بل الهجرة إلى أي بلد بعيد وغير ناطق بلغة الضاد، وتردد «لا أريد أن نقتل مرتين». في ذلك الشاليه الصغير يبدو الحديث عن العيد كسقوط مخلوق من كوكب آخر. فهنا لا أمل ولا فرح ولا رجاء ولا لقاء يجمع العائلة. أليست هذه من مرادفات العيد؟

«
ندفع ثمن الدين والهوية»

حاول نزار، وهو ربّ أسرة مسيحية نازحة من سوريا، أن «يضرب الحديد وهو حام» ولجأ إلى أحد الرهبان وإلى أحد النواب المجاهرين بمسيحيته مطالباً بإيجاد صيغة معينة لمساعدة النازحين السوريين المسيحيين، «لأنهم في معظمهم يفضلون الإقامة في منطقة جبل لبنان حيث الخطر أقلّ من المعارضين السوريين» وفق ما يقول.
أتى ردّ الرهبان بأن الكنيسة عاجزة عن إيجاد صيغة عامة، وتفضّل المساعدة بحسب الإمكانات المتوفرة وبحسب متطلبات كل أسرة. بينما «نأى النائب بنفسه»، معتبراً أن مساعدة المسيحيين دون غيرهم «فعل تقسيمي» يخالف مبادئ خطّه وخطّ زعيمه السياسي.
يرى نزار أن لبنان سيشهد نزوحاً مسيحياً سورياً شديداً في الأيام القادمة «لأن التقارير الغربية تشير إلى السقوط الوشيك للنظام». ويعلّل توقعه بأن لا مكان للمسيحي السوري يذهب إليه ويشعره بالاطمئان داخل سوريا ولا في أي دولة مجاورة أخرى إلّا لبنان. ويؤكد أن الهجرة ما زالت ممنوعة عليهم، بينما هي مفتوحة أمام الأقباط المصريين.
قصد نزار وعائلته المؤلفة من أم وثلاثة صبيان لبنان منذ أكثر من شهرين، ولقي له عملا في معمل للمفروشات، وقد عيّن مشرفاً على العمال لكونه مهندسا داخليا، عمل في اختصاصه أكثر من عشر سنوات.
تعيش العائلة «كل يوم بيومه» وفق ما يقول، وهو ينتظر نهاية السنة الدراسية لترتيب أموره خارج سوريا «إن استلمت المعارضة الإسلامية الحكم، أو العودة إليها إن كان النظام الجديد يحترم جميع الطوائف ويصونها».
اللافت قوله انه «لا مجال اليوم للحنين إلى لقاءات العائلة الكبيرة في العيد، بل إن القلق على المصير يتفوّق على كل شعور آخر. ولعلّ الميلاد مناسبة للصلاة لنجاة سوريا والسوريين من هذا الكابوس».

بانتظار الحكم

بالنسبة لبشارة العيد في مكان بعيد عن بلدان الشرق الأوسط، وتحديداً العربية. «هنا لا أعياد ولا ميلاد حقيقيا. هنا جلجلة لا قيامة لها». يضيف ان مسيحيي سوريا ينتظرون إصدار الحكم عليهم، وسيصدر بحقهم حكم توافقي بين النظام السوري الجديد والدول الغربية النافذة والكنيسة، ولعلّهم في تلك المعادلة سوف يفتقدون حرية تقرير المصير. وإذا ما بقيت المنطقة على حالها، «فلا شكّ في أن مسيحيي لبنان سيدخلون في المجهول معهم».
يعيش بشارة وأمه في بيروت، ويجهد لتأمين عمل أفضل من عمله الحالي لاستضافة شقيقته وولديها في المنزل الصغير الذي استأجره. يعتبر سوريا «حلما بعيدا» ويجزم أن العودة إليها لن تكون الا سيراً على الجثث والدماء «لأن المسيحيين احتموا بنظام قاتل بدلا من قول الحقيقة التي ينشدها دينهم ويدفعهم للموت من أجلها».

«
الكنيسة خاطئة، خاطئة، خاطئة»

يؤكد الأب الدكتور ميشال السبع أن ما يقوله بشارة صحيح، وبرأيه يدفع المسيحيون ثمن الماضي و«المُتوقّع أبشع مما نشهده بكثير». ويلفت إلى أن المنطقة ستشهد خلال الأسبوعين القادمين مذابح إن دخل الثوار منطق حماه ووادي النصارى. ويؤكد أيضاً أن ما من حلول يقترحها حتى الساعة بل يوصف الوضع بأنه كارثي. أولاً لأن الدول الغربية تضع فيتو على جواز السفر السوري، وهي تمنع بالتالي سفر السوريين إليها سواء لفترة موقتة أم طلباً للهجرة.
وثانياً «لأن الإرشاد الرسولي الذي أوصى به الفاتيكان لا قيمة له على أرض الواقع وهو نوع من «التخبيص الخطير بحق المسيحيين. فهو يريدهم أن يبقوا لكن من دون تأمين حماية لهم، وها هم يُذبحون يومياً».
من هنا يقول ان «الكنيسة خاطئة خاطئة خاطئة». ويعيب على المسؤولين اتّباعهم نهج النأي بالنفس عوضا عن وضع خطة لإنقاذ السوريين. ويشير إلى أن «حزب الله طلب من النواب المسيحيين إقفال أبواب الإقامة والاستقبال للمسيحيين السوريين، لأنه باستقبالهم يُفتح باب استقبال السوريين السنّة». وهذا بدل إقامة خطة طوارئ لإنقاذ المسيحي السوري، «وقريباً المسيحي الأردني».
إلى هذا يعتبر السبع أنه يجب التأسيس لحزب مسيحي إقليمي على غرار «حزب الله» و«الإخوان المسلمين» وعدم الاتكال على الحلول التي يقدّمها الفاتيكان، مشيراً إلى أن خطة الغرب هي استقبال مسيحيي الشرق كلّهم «لأن لديهم مشكلة ديموغرافيا وهم يريدون استيراد أرحام تلد».



No comments:

Post a Comment