Monday, April 15, 2013

«حرب السنتين» في الأرشيف الفرنسي(3/3هكذا غطى الأميركيون التدخل العسكري السوري في لبنان


13 نيسان ذكرى حرب ثقبت الذاكرة
«حرب السنتين» في الأرشيف الفرنسي(3/3هكذا غطى الأميركيون التدخل العسكري السوري في لبنان

رفض حافظ الأسد تدويل الأزمة اللبنانية
لم يكن كيسينجر يريد أن تحقق سوريا سيطرة كاملة على لبنان
نبيل الياس الخوري

لم تنجح كل محاولات إخماد حريق طوافة الحرب اللبنانية المشتعلة. في أواسط آذار 1976، وصلت هذه الطوافة إلى منطقة الفنادق، ثم حلقت فوق الجبل، فاحترقت بيروت واشتعل الجبل، وأوشك التحالف الفلسطيني اللبناني أن يحسم الصراع مع خصومه. سارعت واشنطن إلى إرسال المبعـــوث دين براون، في حين أرسلت باريس جورج غورس.
رأينا في الحلقتين الأولى (السبت) والثانية (الاثنين) أن باريس وضعت تصوراً لحل أمني دولي من أجل وقف الصراع، لكنها لم تصرّح عنه خلال مهمة موريس كوف دو مورفيل السابقة. ورأينا أن واشنطن كانت دعت دمشق إلى تنفيذ «حل متوازن»، من خلال «جيش التحرير الفلسطيني»، ودعمت الحل السياسي السوري، أي «الوثيقة الدستورية» التي سرعان ما سقطت.
تأزم الوضع الآن. وجّه السوريون رسائل إلى باريس وواشنطن، مطالبين بضمانات حول عدم حصول ردة فعل إسرائيلية إذا أقدمت سوريا على التدخل العسكري في لبنان... رعى الأميركيون ولادة «اتفاق الخطوط الحمر»، ثم أوفدوا براون ليشرف على تنفيذه...
فيما كان المبعوث الأميركي يواصل جولاته ومهماته، فاجأ المبعوث الفرنسي العالم بإعلانه عن الجانب الأمني للمبادرة الفرنسية. فماذا جرى؟ ولماذا انتظرت فرنسا كل هذه الأشهر لكي تصرح علناً عن الوجه الأمني لمبادرتها؟

«
كونسورتيوم» بروان:
اقتصادي وعسكري

يكشف روبيرت ويلسون ستوكي (Robert Wilson Stookey) في مساهمته في كتاب Lebanon in crisis: participants and issues، أن براون اقترح تشكيل «كونسورتيوم دولي» للمساعدة على إعادة إعمار لبنان بعد استعادة السلم الداخلي.
يشير الأرشيف الفرنسي إلى أن براون كشف لغورس (في 11 نيسان 1976) عن وجود مشروع أميركي حول إنشاء الكونسورتيوم، مضيفاً أن المشروع قد يتضمن «جانباً عسكرياً»، من دون الإفصاح عن المزيد من التفاصيل أمام المبعوث الفرنسي.
بعد إصرار وزارة الخارجية الفرنسية على معرفة النوايا الأميركية في هذا الشأن، تم الحصول على معلومات تشير إلى أن براون طرح أمام المسؤولين الذين أجرى محادثات معهم، فكرة الكونسورتيوم الدولي، على شكل إطار تعاون بين دول عربية وغربية، كما ورد في أحد التقارير الفرنسية، الذي ينقل عن الرئيس سليمان فرنجية قوله إن «بإمكان هذا الكونسورتيوم أن يتضمن، كذلك، إقامة نظام أمني، يمكن أن تشارك فيه الولايات المتحدة، دول أوروبية، سوريا، الأردن والسعودية».
تثير هذه المعلومات تساؤلين:
1-
هل يتعلق الأمر بمناورة أميركية تهدف إلى محاولة إيجاد إطار ما لعملية تدخل غربي عربي عسكري مشترك في لبنان ابان «حرب السنتين»؟
التصريحات العلنية الأميركية اللاحقة، وبعض المداولات الدبلوماسية السرية لا تتضمن أية إشارة في هذا الاتجاه. لكن المواقف التي أطلقها الاتحاد السوفياتي في ربيع 1976، محذراً من مغبة أي تدخل غربي، تغذي استنتاجا كهذا، خصوصاً وأن البوارج الحربية الأميركية والسوفياتية ازدحمت بكثافة في شرق البحر المتوسط في تلك الآونة... بيد أن تسلسل الأحداث، لاحقاً، يشير إلى أن واشنطن حصرت اهتمامها بتغطية التدخل العسكري السوري دون سواه.
2-
ألا يشبه هذا الطرح الأميركي مضمون المبادرة الفرنسية (التي وردت في الحلقة الأولى)؟ الخارجية الفرنسية كانت بحثت بتشكيل صندوق دولي من أجل المساعدة على إعادة الإعمار. فهل يتعلق الأمر بتقاطع فرنسي أميركي عفوي؟
الأرشيف الفرنسي يكشف أيضاً أن أحد معاوني الرئيس فرنجية، لوسيان دحداح، هو من اقترح، بين كانون الثاني وشباط 1976، فكرة إنشاء كونسورتيوم دولي لمساعدة لبنان وتنسيق عملية إعادة الإعمار، داعياً فرنسا إلى ترؤس الكونسورتيوم.

تكتم أميركي وانزعاج فرنسي

التصرف الأميركي في بيروت لم يطمئن باريس. هي لم تنزعج من مضمون مشروع براون، ذلك أنه يتقاطع مع مشروعها إن لم يكن نسخة طبق الأصل عنه، لكنها استاءت من التكتم الذي مارسه الأميركيون تجاهها. لم يكن الأمر يتعلق فقط بتكتم أميركي، بل بحذر تجاه الكي دورسيه والسياسة الديغولية التي تتمسك بها الدبلوماسية الفرنسية. هذا ما تكشفه وثائق أرشيف الخارجية الأميركية (على موقعها الالكتروني).
ردت باريس على التكتم الأميركي بإطلاق تصريح علني مفاجئ. فقد سارع غورس إلى الإعلان، في 15 نيسان، عن استعداد بلاده للمشاركة في نظام للمراقبة الأمنية، في حال كانت هناك إمكانية لإقامة نظام كهذا.
يستند الباحثون إلى هذا التصريح في تحليلهم للدور الفرنسي في لبنان في ربيع 1976. كما أن السياق الذي ورد فيه، يسمح بالاستنتاج بأن المبادرة الفرنسية هي مبادرة أميركية أو أميركية فرنسية. لكن الوثائق التي تم الاطلاع عليها في الأرشيف الدبلوماسي، تفيد بأن فرنسا كانت سبّاقة في طرح هذا التوجه، وكانت تبلغ جميع المعنيين أن مبادرتها تتعلق بـ «نظام (أمني) مصغّر» يتضمن «فريق مراقبين من مختلف البلدان»، يتولى مهمة الفصل بين المتحاربين والإشراف على تنفيذ اتفاق إطلاق النار. كذلك، أبدت باريس انفتاحها على المشروع الأميركي إذا كان يتضمن أي جديد، لكنها كانت تشكو، باستمرار، من عدم تزويدها بالإيضاحات الكافية في شأنه من جانب الأميركيين.
يتبين لاحقاً أن سبب هذا التكتم الأميركي مع الفرنسيين يكمن في أن مهمة براون سعت، في المحصلة، إلى رعاية اتفاق الخطوط الحمر بين سوريا وإسرائيل، والتمهيد للتدخل العسكري السوري، وانتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية. فهل كان الفرنسيون يجهلون كل هذه الأمور؟
الوثائق الديبلوماسية الفرنسية التي تم كشفها في أرشيف الكي دورسيه، تسمح بالاستنتاج بأن الديبلوماسيين الفرنسيين لم يكونوا على دراية كافية بحقيقة أهداف واشنطن وخطواتها آنذاك. على أية حال، ثبت أن براون قام بتضليل كمال جنبلاط حين أوهمه أن واشنطن لا توافق على تدخل قوي لسوريا، وحاول، بتعليمات من هنري كيسينجر، إحداث شرخ بين «منظمة التحرير» وجنبلاط (الحركة الوطنية). ثبت أيضاً أن براون كان ميّالاً، منذ البداية، إلى دعم عملية التدخل العسكري السوري، وكان يتذمر من تردد إدارته، التي لم تسمح إلا بتدخل جزئي اعتباراً من 11 نيسان 1976، قبل أن توافق لاحقاً وبشكل ضمني على تدخل ضخم اعتباراً من مطلع حزيران 1976.

باريس تدرس جميع الاحتمالات

في ضوء التصعيد العسكري في لبنان، قامت فرنسا منذ 15 نيسان، أي قبل بدء ردود الفعل الأميركية والعربية والفلسطينية واللبنانية على تصريحات غورس (...) بربط مشاركتها بنظام أمني للفصل بين المتنازعين، بتوافر شرطين أساسيين: الأول، يتعلق بموافقة جميع الأطراف، خصوصاً جنبلاط وعرفات. الثاني، يتمثل في الحصول على ضمانات بأن مهمة هذا النظام الأمني تقتصر على مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار وتعزيزه، وليس فرضه بالقوة. بمعنى آخر، كانت باريس تعارض تدخلاً خارجياً يهدف إلى فرض الحل بالقوة.
بعد تحديد الشروط، بدأت فرنسا تجري حسابات سياسية دقيقة لاحتمال مشاركتها. تبيّن لها، بحسب إحدى برقيات الخارجية الفرنسية، أنه من المفضل مشاركة عدد واسع من الدول في هذا الحل الأمني التوافقي وعدم اقتصار المشاركة على الفرنسيين والسوريين فقط، كي لا يقوم البعض، في الساحة العربية والدولية، بتأويل المشاركة العسكرية الفرنسية وكأنها تشكل ضمانة فرنسية للتدخل السوري، خصوصاً وأن الديبلوماسية الفرنسية بدأت ترصد عجز الوساطة السورية عن البدء في تنفيذ الحل السياسي المطلوب. فضلاً عن ذلك، تخشى فرنسا أن يؤدي الفشل المحتمل لهذا الحل إلى مضاعفات سلبية على موقع فرنسا في لبنان والشرق الأوسط.
لكن حسابات فرنسا أظهرت، في المقابل، أن من شأن مشاركتها أن توفّر فرصة للأطراف اللبنانية والفلسطينية والعربية التي ترفض التدخل الحصري والثقيل جداً للقوات السورية. يمكن للوجود الفرنسي أن يبدد التحفظات المصرية، وأن يشكل «ضمانة جدية» لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، لأنها ستساهم في خلق توازن مع النفوذ السوري، خصوصاً وأن باريس أرادت إقناع «منظمة التحرير» بأن «النوايا (الفرنسية) العميقة» لا يمكن أن تكون موضع «شبهات».
بعد يوم على تصريحه الشهير، أوصى المبعوث الفرنسي بضرورة ألا تأتي المشاركة الفرنسية إلا بعد التدخل السوري، وأن تهدف إلى وضع حدود زمنية لعملية التدخل السوري وإلى الحد من نطاقها، إضافة إلى ضرورة أن تعطي للبنانيين ضمانة حول حسن غايات فرنسا.
وفيما واجهت المبادرة الفرنسية رفضاً محلياً وإقليمياً شاملاً، نقلت الصحف الفرنسية في 22 و23 نيسان معلومات تؤكد عدم تأييد الولايات المتحدة لها، وتصريحاً مقتضباً لبراون يتسم بالسلبية المطلقة حيالها. كذلك، دلت المواقف الرسمية الأميركية على غياب الوضوح في شأن سبل وقف إطلاق النار في لبنان وسبل مراقبته. لكن في 23 نيسان، صرح كيسنجر للمرة الأولى بأن هناك ضرورة لإنشاء قوة أمنية من أجل وضعها في تصرف الحكومة اللبنانية، على أن توكل إليها مهمة الفصل بين المتحاربين. إلا أن وزير الخارجية الأميركي عاد وأكد على وجوب أن تتألف هذه القوة بكاملها من عناصر لبنانية، مضيفا أن هناك إمكانية في أن تضم هذه القوة عناصر منتمية إلى المجموعات المتحاربة بعد أن تعطي الأطراف كافة موافقتها على تشكيلها.

باريس وتناقض الموقف الأميركي

هذا الموقف الأميركي العلني يتناقض مع مضمون مباحثات جرت بين ديبلوماسيين فرنسيين وبريطانيين في واشنطن. أراد الفرنسيون، في 30 نيسان، أن يطلعوا على حقيقة النوايا الأميركية ومعرفة ما إذا كانت واشنطن ما تزال منفتحة على مشاركة أطراف خارجية في القوة الأمنية. أبلغهم الديبلوماسيون البريطانيون في سفارة لندن في واشنطن، أن وزارة الخارجية الأميركية تعتبر أن السعودية وتونس هما البلدان العربيان الوحيدان اللذان بإمكانهما أن يرسلا قواتهما، دون أية مشكلة سياسية، للمشاركة في هذه القوة إضافة إلى الوحدات العسكرية اللبنانية. في ما يتعلق بالدول الغربية، أفاد البريطانيون أن واشنطن تنظر، بشكل لا بأس فيه، إلى مشاركة فرنسية، وتستبعد فكرة مشاركة أطراف غربية أخرى.
لم تأخذ باريس أي حق أو باطل جرّاء هذا الكلام المنقول عن الأميركيين. وازداد الغموض عندما سمع الديبلوماسيون الفرنسيون كلاماً جديداً نقله إليهم أيضا ديبلوماسيون بريطانيون في لندن في 14 أيار 1976، مفاده أن الولايات المتحدة تتطلع إلى إعادة تشكيل قوات أمن، مكونة بشكل أساسي من اللبنانيين، وتهدف إلى المساعدة على إعادة بناء الجيش اللبناني. لكن البريطانيين أحاطوا الفرنسيين علماً بأن وزارة الخارجية الأميركية باتت تهتم بشكل أساسي في فكرة تشكيل الكونسورتيوم الدولي من أجل المساعدة الاقتصادية على إعادة إعمار لبنان، أكثر من اهتمامها في جانبه الأمني. بادرت واشنطن، لهذه الغاية، إلى الإعلان في مطلع أيار عن تقديم 20 مليون دولار في إطار خطة للمساعدة على إعادة إعمار لبنان.
سبب هذا الغموض يتمثل في أن قناعة واشنطن رست على ضرورة ترك الجيش السوري يتولى وحده عملية التدخل الخارجي، دون مساهمة أي طرف آخر. هنا وصلت واشنطن وباريس على مفترق طرق. ذلك أن تصريحات المسؤولين الفرنسيين (الرئيس جيسكار ديستان خلال وجوده في الولايات المتحدة في 20 أيار، وسوفانيارغ في 24 أيار) لم تتوقف عن إبداء استعداد باريس لإرسال قوات في إطار «قبعات زرق» للمساهمة في مراقبة وقف إطلاق النار، إذا طلبت الحكومة اللبنانية رسمياً ذلك، وإذا وافقت جميع الأطراف على هذا الأمر.
في المقابل، رفض كيسنجر مسعى باريس بأسلوب ديبلوماسي لبق. قال إن واشنطن لن تعارض التحرك الفرنسي إذا حظي بموافقة جميع الأطراف. كان هذا الشرط أكثر من مستحيل في ظروف تعج بالتناقضات الدولية والإقليمية والمحلية. لكن هذا الأمر لم يمنع سوفانيارغ من القول (في نهاية أيار) إن فرنسا «وقعت في فخ نصبه الأميركيون في هذه المسألة».
في المحصلة، كانت واشنطن تترقب بإيجابية عملية التدخل السوري وكانت مدركة أن هذا التدخل لن يكون فاعلاً ما لم يكن كبيراً وقوياً. في المقابل، كانت باريس تتفرج عاجزة عن فرض مبادرتها التي أرادت إدراجها في إطار الأمم المتحدة، أو على الأقل تنفيذها في ظل موافقة المنظمة الدولية.

تبرير التدخل السوري بعد حصره

مع بداية التدخل السوري الهائل في مطلع حزيران 1976، حرصت واشنطن على ضرورة التزام دمشق بما نص عليه اتفاق الخطوط الحمر، منعاً لإثارة ردة فعل إسرائيلية. عندما اضطرت القوات السورية الى استخدام أسلحة ثقيلة لكي تتمكن من حسم المعارك مع القوى الفلسطينية اللبنانية التي قاومت بشكل فاجأت فيه الجيش السوري، أعربت واشنطن عن قلقها، لكنها ظلت مقتنعة بأن دمشق تتصرف بمسؤولية، أي أن تدخلها لن يتجاوز اتفاق الخطوط الحمر.
التأييد الضمني للتدخل السوري ترافق مع قلق أميركي على مصير نظام حافظ الأسد بعد العملية العسكرية التي شنها ضد الفلسطينيين وحلفائهم في «الحركة الوطنية». الحديث عن هذا القلق الأميركي ورد في صحيفة «لوموند» (18 حزيران 1976)، وفي محضر اجتماع بين الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان ووزير الخارجية الأميركي كيسنجر (21 حزيران ـ باريس). خشي كيسنجير أن يحصل انقلاب ضد الأسد، يقوم به «المتطرفون العرب»، خصوصاً وأن كيسنجر كان يرى أن «الأسد قد يواجه صعوبة في إقناع الرأي العام السوري في عملية عسكرية موجهة ضد الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين، وهادفة لحماية المسيحيين».
لذلك، يكشف كيسنجر أن الخوف من تغيير النظام في سوريا عقب التدخل العسكري، دفع مهندس السياسة الخارجية الأميركية إلى الاتفاق مع الأسد على حصر العملية العسكرية ضمن نطاق جغرافي محدد، يحول من جهة دون استفزاز إسرائيل، ويبقي من جهة ثانية، على مناطق واسعة تحت سيطرة «حزب الكتائب» وحلفائه، أي المناطق المسيحية.
لم يكن كيسنجر يريد أن تحقق سوريا سيطرة كاملة على لبنان. تغيير النظام السوري ووصول حاكم جديد أكثر «تطرفاً» من الأسد، سيؤدي إلى تحقيق نتائج عكسية. سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء. سيتحول لبنان عندئذ إلى منطقة نفوذ لسوريا الحليفة للفلسطينيين والداعمة لـ«الحركة الوطنية»، وذلك على حساب القوى المسيحية. لا يهدد هذا الأمر المصالح الأميركية في لبنان فحسب، بل سيؤدي حتماً إلى تدخل إسرائيلي مباشر وبالتالي إلى حرب إقليمية، تبذل واشنطن كل ما بوسعها لتجنبها ولتجنب انهيار عملية السلام المصرية الإسرائيلية معها. في مذكراته، لا يشير كيسنجر إلى هذه المعلومات، لكنه يعترف أنه كان لا يريد سيطرة سورية كاملة على لبنان، الأمر الذي دفعه إلى عدم منع إسرائيل من تسليح القوى المسيحية، لأنه كان يدرك مسبقاً أن عزم الرئيس المصري أنور السادات على توقيع اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل سيؤدي إلى نهاية التحالف «المؤقت» السوري الأميركي في لبنان. سيعود الأسد للتحالف مع «منظمة التحرير» و«الحركة الوطنية». وستغدو منطقة النفوذ الكتائبي المسيحي معقلاً مناوئاً للهيمنة السورية. وهو ما بدأ يتكرّس فعلياً اعتباراً من العام 1978.

باريس لا تتنازل
وواشنطن لا تتراجع

أما باريس فراحت تدرك تدريجياً أن فرص إرسالها قواتها إلى لبنان باتت شبه معدومة، لكنها لم تتنازل. جيسكار ديستان عاد وكرر العرض الفرنسي خلال اجتماعه في 21 حزيران بكيسنجر، الذي كرر رفضه بلباقة وبشكل ضمني. في الواقع، أراد الرئيس الفرنسي، بعد أيام على زيارة الرئيس الأسد إلى باريس، وبعد ثلاثة أسابيع على بدء التدخل السوري، أن يقول أن بلاده مازالت لا تؤيد حصول عملية تدخل عسكري قبل توصل الأطراف المتحاربة إلى اتفاق وقف إطلاق النار. هذا يعني رفضا ضمنياً للحل السوري الذي انتهى بمواجهات عنيفة مع الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين. كذلك، حرصت باريس على توجيه رسالة بأنها تعارض أي مشروع يهدف إلى فرض هيمنة سورية على لبنان، وترفض أي محاولة لتعليق السيادة اللبنانية.
خلال زيارة قام بها إلى باريس في 17 حزيران، لم يسمع الأسد كلاماً واضحاً من الفرنسيين حول تأييدهم المطلق لتحركه على الجبهة اللبنانية. بالطبع، لم تصدر أية إدانة فرنسية، ولم يصدر أي اعتراض ولو حتى خفيفاً. لكن حاولت الديبلوماسية الفرنسية بدهاء أن تدعو إلى الإسراع في عقد مؤتمر مصالحة وطنية بين اللبنانيين، وأعربت عن استعدادها لرعاية طاولة حوار وطني لبناني. وهو ما اعترض عليه حافظ الأسد بطريقة ضمنية، تحت ذريعة رفض تدويل الازمة اللبنانية وحصر الحل في الإطار العربي. بمعنى آخر، كانت باريس مستعجلة لدفع اللبنانيين إلى التوافق وعدم العودة إلى الاقتتال، وكانت تريد أن تستدرج سوريا إلى تحديد جدول زمني لموعد انسحابها من لبنان بعد إعادة بسط الأمن والاستقرار وبعد المصالحة الوطنية. لكن الأسد غادر باريس من دون أن يعطي ديستان أي التزام ملموس في شأن الانسحاب...
لم تؤد «حرب السنتين» في لبنان إلى إثارة أزمة حادة في العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة. شكّل ملف لبنان آنذاك محور اهتمامهما المشترك. كانت لديهما خشية من اندلاع حرب إقليمية. أرادا تجنبها. لكنهما افترقا على وسيلة تجنبها. دار كباش غير معلن بين باريس وواشنطن حول كيفية وقف الحرب في لبنان بين عامي 1975 و1976. في السياسة، كانتا متفقتين على أن صيغة النظام السياسي الذي كان قائماً آنذاك لم تعد قابلة للحياة. كانتا تؤيدان الحل السياسي السوري، الذي لم يرض آنذاك لا القوى المسيحية ولا «الحركة الوطنية». لكن فيما كانت باريس تتطلع إلى حل أمني برعاية الأمم المتحدة، يتم تنفيذه في إطار توافقي بعيداً عن أي منحى تصادمي، كانت واشنطن تستبعد كلياً أي دور للمنظمة الدولية، وراحت تشجع حلاً عسكرياً سورياً، تدريجياً، يهدف في نهاية المطاف إلى استخدام القوة لوقف الحرب، وهو ما رأت فيه باريس أنه لن يوقف الحرب. وحين طرحت واشنطن أفكاراً مطابقة لما ورد في أدبيات الديبلوماسية الفرنسية في هذا الشأن، لم يكن طرحها جدياً، ولم تتعاون مع فرنسا من أجل وضعه موضع تطبيق. موقف واشنطن وفّر في الواقع تغطية للتدخل السوري، في حين تشبثت باريس حتى النهاية في مبادرتها السياسية العسكرية ولم تتنازل عنها.


([)
لبناني مقيم في باريس ويعدّ أطروحة دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة باريس ــ ديكارت، تحت إشراف مدير «معهد الدراسات الجيوسياسية» الدكتور شارل سان برو.

No comments:

Post a Comment