Wednesday, March 13, 2013

هل تعلّمنا من حروبنا؟

جورج عبيد
برهنت التجارب التي مررنا بها ضعفنا الشديد على استثمار التنوّع الطائفي والمذهبيّ، في وحدة ميثاقيّة حيّة. ذلك أنّنا نجيء من أعداد طاغية وأعداد صاغرة، ولا يمكن للطغيان إذا استبدّ أن يبني السلام، ويؤمّن الوئام. فكلّ طغيان طائفيًّا كان أو مذهبيًّا أو حزبيًّا مبعث لحروب تتنقّل وتنفجر تباعًا.
بهذا التوصيف، نحن أمام أزمة لبنانيّة وجوديّة. والأزمة ليست حديثة العهد حتّى نخاف. بل عتيقة، مكتوبة في لحم التاريخ وبطنه وجوفه. والتاريخ أبدًا مرتجف ومخضوض، وفي كلّ ارتجافة له، يجترّ تلك الأزمة ويتقيّأها، فتجبل بتراب الأرض، وتتداخل في باطن الأيّام وظاهرها، فنستعيد الحروب التي تزهق فيها أرواح الأبرياء وتسفك الدماء بلا رحمة.
لم نفهم نحن اللبنانيين، أنّ ثمّة صيغة تأسيسيّة مدعوون نحن إليها لنكتب لأنفسنا وجودًا جديدًا. فقد قال بعضنا بأن استعادة الصيغة الهادئة والمتوازنة، تنبذ من مفهومها كلّ استيلاد مقيت. وفهمنا أن الاستيلاد استكبار وتعالٍ. والبشر في ذهننا ليسوا أعدادًا أو قطعاناً تتراصف، بل هم الفكر إذا سموا إلى حقيقة الوجود، ولم يغرقوا في الوحول المتحرّكة.
هذا الأمر دعا بعضنا لكيّ يولّف صيغة تستنبط الوجود بتوازن حيّ ومتحرّك. فإذا جاءت أطروحة وقالت بأن تنتخب كلّ طائفة ممثليها، فهذا لا يعتبر خروجًا عن الأصل أو الأصول. بل هو حتمًا ترسيخ للأصل المبتور بثقافة الاستيلاد. وقد دلّت التجربة على أنّ الحلّ يقوم على جعل المناصفة محور البناء، لأنّها وجه للعدالة بل للحق. والسؤال المطروح بإلحاح: ألم تدل تجربة الحروب في لبنان أنّ الاختلال في التوازن، والخروج عنه نحو منطق الاستئثار والاحتكار والاستبداد أحيانًا، أسباب تبيح الاحتراب، وهي جراح يجب مداواتها حتّى تتحقّق المواطنة الكاملة؟
لكنّ الخلل بلغ مبلغًا أكبر مما يمكن لامرئ استيعابه. فقد دل الواقع المعيوش بتداعياته الرهيبة على أنّ المذاهب في لبنان، خرجت عن مفهوم الحياد والنأي بالنفس بفعل التورّط في العاصفة السوريّة وبما هو أبعد منها. والخروج بحد ذاته إبطال للشراكة ومركزيّتها في بناء لبنان والمشرق العربيّ بصورة أعمّ. الصراع ليس في سوريا وعليها، بل هو على سوريا ولبنان معًا، وسيأخذ الصراع بجريرته فلسطين والأردن وقد اجتاح العراق قبلاً ومن دون أن ينفصم عنه. ولبنان الهشّ والمعطوب والمهتزّ الكيان، هو المستوعب الدائم لاستجرار الحروب واستدراجها واستثمارها.
ويسوغ القول بأنّ استدخال الساحتين اللبنانية والسورية في صراع وجوديّ واحد، وبواسطة قوى تكفيريّة حروفيّة تجعل من الدين حرفة وفزّاعة هو أخطر ما يمكن بلوغه، بل هو أخطر من حقبة الحرب الأهلية اللبنانيّة سنة 1975. هذه القوى تبدو كالمقت في سمائنا والدمل في أجسادنا. ولا يمكن لهذا السرطان أن يعالج وللدمل أن تفقأ وللمقت أن يتبدد، إلا بإعادة الاعتبار لمفهوم التوازن والمناصفة والشراكة الفعليّة، الذي من شأنه أن يمأسس الدولة ويمركزها أي يحقّق مركزيتها الجوهريّة والتنفيذيّة.
مركزيّة الدولة المولودة من رحم التوازن، والمؤسّسة على المناصفة، هي الهدف في مشروع «اللقاء الأرثوذكسيّ» الانتخابيّ، بل في كلّ مشروع عادل يتطلّع إلى غد مشرق. قوّة المناصفة أنّها تؤكّد الشراكة المتوازنة والفاعلة، وتبطل التطرّف والتكفير بقوّة الميثاق الرابط بين مكونات البلد. فإذا ما فقدت غدونا أقرب ما نكون إلى الحروب المتنقّلة، والعواصف المزدحمة.
خطورة الأمر أنّنا لم نتعلّم من التجارب الطائفيّة منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولاً إلى الحروب الأخيرة في المدى اللبنانيّ. خطورة المسألة أنّنا لم نتعلّم أنّ ثقافة الاحتواء والاستئثار والاستتباع التي تبيح استبداد طائفة على أخرى سبيل أسود وداكن نحو الحرب، والتي تستحيل حروبًا من أجل الآخرين كما كتب الراحل غسان تويني. حين استبدّت المارونيّة السياسيّة في لبنان على الطوائف الأخرى، انتفضت الأخيرة بوجه الاستتباع والاستبداد. والتاريخ يعيد نفسه بإصرار فريقين أكثريّين في الطائفتين السنيّة والدرزيّة الكريمتين، على استبقاء المسيحيين في كنفهم، بعدما أبدت الطائفة الشيعيّة مرونة واضحة في هذا السياق، من خلال خطاب السيد حسن نصرالله. كلّ استبداد طريق إلى التمرّد والعنف والحرب، ويكفي أنّ المطالب الاجتماعيّة والمعيشيّة تذكرنا بمقدمات حرب العام 1975.
«تعالوا إلى كلمة سواء». آية قرآنيّة كريمة لا بدّ من تفعيلها فيما نحن نبحث عن وجودنا في تلك الأزمة الوجوديّة والكيانيّة. ولا بد من التوقّف عند كلام قاله العلاّمة السيد هاني فحص، بعد العدوان الإسرائيليّ على لبنان سنة 2006، «إنّي أريد نقدًا طائفيًّا لكلّ طائفة». المسيحيون يحتاجون لهذا النقد كما السنة والشيعة والدروز، وبخاصّة في ظلّ العواصف الشديدة الهابّة في الجوار والمتداخلة بنا. القراءة العاقلة تقود الجميع إلى الشراكة الحيّة والفاعلة، ونكون قد تعلمنا من تجارب الحرب وتحررنا من أتونها الذي قرّب انفجاره على أرضنا. وإن شاء الله يتغلّب العقل على الغريزة ليسودنا السلام.
([) ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي»

No comments:

Post a Comment