Sunday, February 9, 2014

بحث في آليّة وأُسُس تشكيل الحكومة بعد إتفاق الطائف

بحث في آليّة وأُسُس تشكيل الحكومة بعد إتفاق الطائف


– 1 –

إنّ لبنان وطن تعدّدي مبنيّ على ميثاق وطني قائم على العيش المشترك والمشاركة العادلة المتوازنة بين مكوّنَيْه، بتلاوينهما كافة، في إدارته.

– 2 –

إنّ تشكيل الحكومات في لبنان لا بدّ من أن ينطلق من هذا الميثاق التكويني التأسيسي الذي هو بمثابة الدستور غير المكتوب، بل الدستور الحقيقي الأساس الذي لم يأتِ الدستور المكتوب إلا تكريساً لمبادئه.

– 3 –

لقد نصّ دستور لبنان  :

-      على أنّ لبنان "جمهوريّة ديموقراطيّة برلمانيّة" (مقدّمة الدستور).
-      وعلى أنّ المقاعد النيابيّة "توزّع بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين طوائف كل من الفئتين" (المادّة 24 منه).
-      وعلى أنّ "طوائفه تُمثّل بصورة عادلة في تشكيل الوزارة" (المادّة 95).
-      وعلى أنّه "على الحكومة أن تتقدّم من مجلس النوّاب ببيانها الوزاري لنَيل الثقة".

ينتج عمّا تقدّم :

أنّ النظام اللبناني، وبحكم أحكام الدستور ذاتها، فضلاً عن ميثاقه الوطني، هو نظام ديموقراطي برلماني مختلط يزاوج  :

-         بين النظام الديموقراطي البرلماني الفدرالي التشريعي الطوائفي (وليس الطائفي) – ديموقراطيّة الجماعات – طالما أنّه يشترط توزيع المقاعد النيابيّة بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين الطوائف، وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
-         وبين النظام الأكثري التنافسي طالما أنّه لا يشترط أن تنال الحكومة ثقة الأكثريّة داخل كل مكوّن من مكوّني المجلس بل يكتفي باشتراط نيلها ثقة الأكثريّة من مجموع الأعضاء المكوّن منهم المجلس دون النظر إلى الإنتماءات الطائفيّة لمانحيها الثقة.

– 4 –

بموجب الفقرة 4 من المادّة 53 يُصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

إلاّ إنه ينصّ في الفقرة 2 من المادّة 64 أنّ الحكومة لا تمارس صلاحيّاتها كاملة، بالرّغم من صدور مرسوم تشكيلها، إلا بعد نيلها ثقة مجلس النوّاب.

بمعنى أنّه إذا كان لا حكومة بدون صدور مرسوم بتشكيلها، فإنّه لا حكومة مكتملة الصلاحيّة إلا إذا نالت ثقة مجلس النوّاب.

ينتج عمّا تقدّم،

أنّ إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، لكي يكون منتجاً لمفاعيله الدستوريّة، يقتضي أن يكون محققاً، فعليّاً، لا تسميةً، الإنتقال من حالة الحكومة المستقيلة المنقوصة الصلاحيّة إلى حالة الحكومة الكاملة الصلاحيّة؛ الأمر الذي يستوجب، لتحققه، أن تأتي التشكيلة التي يُخرجها مرسوم التشكيل مُعَبِّرةً عن التوجهات والمطالب التي أظهرتها الإستشارات النيابيّة التي أجراها رئيس الحكومة المكلف لكي تتمكّن من نيل ثقة الأكثريّة في مجلس النوّاب بحيث يُحقق إصدار مرسوم التشكيل وظيفته ومفاعيله كاملة.

– 5 –

بموجب المادتين 17 و65 تُناطُ السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء يتولاها وفقاً لأحكام الدستور.

وتهيُّباً للصلاحيّات الهامّة والأساسيّة المناطة به، وعلى رأسها "وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات"، وإنصياعاً لمقتضيات الميثاق الوطني والعيش المشترك وما تفرضه من مشاركة فعليّة فاعلة ومتعادلة في إدارة شؤون البلاد.

فقد إشترطت المادّة 95 بأن تتمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، بحيث أنّ مجلس الوزراء يكون قد أضحى، بموجب الدستور المرعي الإجراء، بمثابة "المجلس التمثيلي للطوائف" في السلطة الإجرائيّة.




ينتج عمّا تقدّم،

‌أ.          وجوب أن يكون تمثيل الطائفة (المجتمع) في مجلس الوزراء تمثيلاً صحيحاً بواسطة ممثليها الفعليين.

‌ب.     وأن يكون هذا التمثيل فاعلاً بحيث يكون الممثل مؤهّلاً للقيام بمهمّة "وضع السياسة العامّة للدولة في جمسع المجالات" ... وهو عمل سياسي بامتياز يُفترض بمن يتولاه أن يكون متعاطياً في الشأن العام متمرّساً في العمل السياسي كي يتمكن من أداء مهامه عن علم وإطلاع وخبرة.

‌ج.      وأن يتمّ إنتقاء الوزير بالأفضليّة  :

-      إمّا من بين النوّاب أي من بين الذين إختارهم أبناء طائفتهم بنتيجة عمليّة إنتخابيّة ديموقراطيّة عبر الإنتخابات التشريعيّة كممثلين عنهم في مجلس النوّاب، كي يكون مسؤولاً تجاههم عن أدائه الوزاري، وخاضعاً، لاحقاً، لمحاسبتهم المباشرة، وهو ما لا يكون متحققاً في شخص الوزير غير النائب وغير المشارك في الحياة السياسيّة العمليّة وفي المنافسة الإنتخابيّة الديموقراطيّة.
-      وإمّا من بين الذين يرشّحهم الحزب، أو التكتل النيابي، بحيث يكون ملتزماً بتوجهات هذا الحزب أو هذا التكتل ومسؤولاً أمامه.

على أنّ ذلك لا يعني إستبعاد ما أجازه الدستور من إنتقاء وزراء من خارج مجلس النوّاب ضمن حدود معيّنة، أو الإستبعاد، بالمطلق، تشكيل حكومة ممّا يسمّى بـ "التكنوقراط" في ظروف إستثنائيّة وعند الضرورة.

أمّا إعتماد مبدأ فصل الوزارة عن النيابة، المعتمد في الأنظمة الرئاسيّة أو نصف الرئاسيّة حيث يكون الوزير تابعاً لرئيس الدولة ومعاوناً له ومسؤولاً تجاهه، فإنّه لا يجد ما يُبرّره أو يجيز إعتماده في ظل نظام ديموقراطي برلماني حصر دستوره ممارسة السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء مجتمعاً واضعاً بين يديه تقرير وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ما لم يصبح العمل السياسي قائماً على أساس حزبي منظّم بالإستناد إلى قانون حديث للأحزاب، حيث يضحى المرشّح غير النائب للمنصب الوزاري من قبل حزبه، مختاراً بصفته الحزبيّة وليس بصفته الشخصيّة المجرّدة، ومتمتعاً بصفة تمثيليّة، وخاضعاً لتوجيهات الحزب الذي رشّحه وملزماً بتنفيذ برامجه سياسته، وخاضعاً بالتالي لمراقبته ومحاسبته، علماً أنّ الحزب لم يكن ليرشّحه اصلاً، لولا اختباره له وتيقّنه من خبرته ومن تمرّسه في الشأن السياسي والعام من خلال عمله ونشاطه داخل الحزب.



أمّا بالنسبة للسبب الموجب الفعلي لاشتراط المادة 95 تمثيل الطوائف في تشكيل الوزارة بصورة عادلة، فلا يقتضي إعتباره سبباً "طائفيّاً" بالمعنى السلبي المُدان لمفهوم "الطائفيّة"، – وإن أوحى النص بعكس ذلك بقوله أنّه "لمرحلة إنتقاليّة" – لأنّ المقصود بالطوائف ليس هو سوى المجتمعات أو المكوّنات المؤلف منها شعب الوطن الواحد : ذلك أنّ الطائفة، في المجتمع الشرقي، تتقمّص في المجتمع الذي يعتنقها، ثقافة وتقاليد وممارسات ونمط عيش وفلسفة حياة، فتضحى متأصّلة في جذوره التاريخيّة والجغرافيّة والإنسانيّة بحيث تتعدّى آثارها فيه حدود الشكل إلى الجوهر الحياتي للفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، ممّا يوجب مشاركتها، "كمجتمعات" لا "كطوائف" في السلطة الإجرائيّة المناط بها إدارة شؤون البلاد.

– 6 –

بموجب الفقرة 2 من المادة 64 يُجري رئيس مجلس الوزراء الإستشارات النيابيّة لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهوريّة مرسوم تشكيلها.

إنّ المهمّة الموكولة إلى الرّئيس المكلف تشكيل الحكومة هي مهمّة محوريّة وهامّة، بقدر ما هي دقيقة، في بلد لا يقوم فيه العمل السياسي على أساس حزبي، بل تتشتّت فيه القوى السياسيّة بين أطراف سياسيّة متعدّدة غير واضحة وغير مستقرّة في مواقفها السياسيّة؛ ففي الوقت الذي يملك سلطة توقيع مرسوم تشكيل الحكومة مع رئيس الجمهوريّة، فإنّه يبقى عليه ضمان نيل حكومته ثقة مجلس النوّاب، ممّا يجعل من سلطته بإصدار المرسوم محدودة، عمليّاً، ومحكومة بمدى نجاحه بتحقيق التوافق حول حكومة تضمن، من جهة، نيل ثقة المجلس، ومن جهة ثانية المحافظة على الوفاق الوطني – أساس قيام الوطن – ضماناً لاستقرار هذا الوطن ووحدته وتعدّديته.

إنّ إلتقاء الكتل النيابيّة على شخص الرّئيس المكلف، وإن عبّر عن ثقة هذه الكتل بشخصه وشكّل تفويضاً له بالسعي لتشكيل الحكومة، إلا أنّ مصالحها المتضاربة، في عملية التشكيل، تجعل تكتل هذه العمليّة مرتهنة بإمكانيّة التوفيق بين تلك المصالح، وهي مهمّة يستحيل تحقيقها من دون تعاونها، مهما سمت قدراته الشخصيّة، وذلك بالرّغم من إمتلاكه سلاح التوقيع، طالما أنّ سلطة منح الثقة تبقى بيدها.








– 7 –

بموجب الفقرة 4 من المادة 53، يصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

بالرّغم من أنّ صياغة هذه المادّة قد جاءت بشكلٍ يوحي بأنّ ما تنيطه برئيس الجمهوريّة من مهمّة يتّسم بطابع "الإلزام" أكثر ممّا يتّسم بطابق الصلاحيّة" أو "السلطة" باستعمالها كلمة "يُصدر"، فإنّه يبقى أنّ مهمّة إصداره مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء تكاد تكون آخر الصلاحيّات المناطة به – بالإضافة إلى حقه برئاسة مجلس الوزارء دون أن يُشارك في التصويت – (باعتبار أنّ سائر صلاحيّاته الأخرى فهي إمّا تتّسم بطابع الإلزام، وإمّا هي متعلقة بأمور تفصيليّة لا علاقة لها بسياسة البلاد، وإمّا متّسمة بطابع بروتوكولي).

فبالرّغم من أنّ رئيس الجمهوريّة، بموجب المادّة 53، مكلف دستوريّاً بموجب إصدار مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، إلا أنّه يبقى له، بل عليه، الإمتناع عن توقيعه طالما أنّه، بتقديره، كرئيس للدولة، يعتبر أنّه لا تتوافر فيه الشروط الدستوريّة والميثاقيّة والواقعيّة المفروض عليه إحترامها تحت طائلة إعتباره مسؤولاً عن خرق الدستور :

فهو رئيس الدّولة

أي رئيس الدولة بسلطاتها ومؤسّساتها وأجهزتها كافة، الدستوريّة منها والسياسيّة والمدنيّة والعسكريّة.

وعلى رئيس الدّولة واجب المراقبة والتوجيه والتصويب، والمحافظة على القواعد والأسس التي تقوم عليها الدولة التي يرأسها وعلى وحدتها وتماسكها وسلامتها وأمنها واستقرارها على الأصعدة كافة، وذلك عبر السهر على تطبيق أحكام دستورها وميثاقها الوطني.

وهو رئيس الدّولة الموكول إليه
السهر على إحترام الدستور،

وإنّ دستور الدولة الموكول إليه واجب السهر على إحترامه ينصّ على أنّه لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وعلى أنّ الطوائف تُمثَّّل بصورة عادلة في تشكيل الحكومة، وعلى أنّ مجلس الوزراء، المفروض تمثيل الطوائف فيه بصورة عادلة، هو الذي يقوم بتولي السلطة الإجرائيّة وفقاً لأحكام الدستور وبوضع وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات.


وإنّ سهر رئيس الدولة على الدستور يعني سهره على أن تكون أحكام هذا الدستور محترمة، بكافة بنودها، في مضمون المرسوم الموكول إليه إصداره، أي في "التشكيلة" الحكوميّة المعروضة عليه، طالما أنّ هذه التشكيلة ستتولى سلطة دستوريّة محوريّة وموجبات دستوريّة أساسيّة ومتعدّدة مكلف بالسهر على إحترامها، وإنّ أداءها لموجباتها الدستوريّة هذه تبقى مرتبطة بشكلٍ مباشرٍ "بالتشكيلة الوزاريّة"، أشخاصاً وتوجهات، ممّا يوليه واجب وحق التدخل في تفاصيلها إنطلاقاً من واجبه وحقه بالسهر على إحترام الدستور : ذلك أنّ واجب إحترام الدستور يتضمّن واجب السهر على تطبيقه، وأنّ السهر على تطبيقه يفترض السهر على أن تكون "التشكيلة الحكوميّة" ملائمة، في تشكيلتها، لحسن تطبيقه، ليس فقط ببنوده المكتوبة، بل أيضاً ولا سيّما، في بنوده غير المكتوبة المتمثلة ببنود الميثاق الوطني ومقتضيات العيش المشترك الذي لا شرعيّة لأي سلطة تناقضه.

وهو الرئيس الموكول إليه
واجب السهر على وحدة الوطن،

وإنّ السهر على وحدة الوطن تعني، بالأولويّة، السهر على توافق بنيه وعلى عيشهم المشترك الآمن في الوطن المشترك، عيشاً مشتركاً فعليّاً على الأصعدة كافة، وبالأولويّة، على صعيد عيش الحياة الوطنيّة والسياسيّة والعامّة عيشاً مشتركاً فعليّاً عادلاً ومتعادلاً، عبر السلطة الإجرائيّة المولجة وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ممّا يولي رئيس الجمهوريّة حق بل واجب الإمتناع عن إصدار مرسوم تشكيل الحكومة إذا كان من شأنه أن يعرّض وحدة الوطن للخطر بسبب عدم إحترام القواعد الدستوريّة والميثاقيّة فيه، لأنّ التغاضي عن هذا التعرّض يشكّل خرقاً للدستور من قبله باعتباره مولجاً "المحافظة على وحدة الوطن".

إنّ ممارسة رئيس الجمهوريّة لموجباته الدستوريّة هذه، كرئيس للدولة ساهرٍ على إحترام دستورها ومحافظٍ على وحدة الوطن، وفقاً لمعايير ضميره الوطني والشخصي، يمنحه هامش كبير من حريّة التصرّف في تسيير عمليّة تشكيل الحكومة ليس فقط عبر الإمتناع عن توقيع مرسوم تشكيلها بما يتعارض مع ما اؤتمن عليه تحت طائلة تحمّل تبعة خرقه للدستور، بل أيضاً عبر توجيه رسالة إلى مجلس النوّاب يضعه فيها أمام مسؤوليّاته الوطنيّة، وبتوجّهه إلى الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة وجعله حكماً محاسباً لتصرّف الذين إنتدبهم لتمثيله وإدارة شؤونه.

إنّ إمساك رئيس الدولة "بورقة" الإمتناع عن التوقيع – إضافةً إلى توجيه رسالة توجيه بل تحذير إلى مجلس النوّاب واحتكامه إلى الشعب – من شأنه أن يجعل القوى السياسيّة، المفروض عليها واجب تحقيق التوافق فيما بينها، مضطرّة للوصول إلى هذا التوافق تحت طائلة المسؤوليّة الوطنيّة والمحاسبة الشعبيّة والضميريّة والتاريخيّة.



ما لم ؟

ما لم يكن القصد منصرفاً، أصلاً، إلى إحداث الفراغ : وهي مسألة أخرى لا مجال للغوص في مناقشتها في معرض هذا البحث.

– 8 –

إنّ لبنان، بحكم كونه وطناً تعدديّاً، لا تستقيم فيه إلا السياسة التوافقيّة؛

وإنّ السياسة التوافقيّة لا تقوم إلا بحكومات توافقيّة؛

وإنّ الحكومات التوافقيّة تفترض، لتحققها، توافق المكوّنات الوطنيّة في البلاد على تشكيلها؛

وإنّ توافق المكوّنات الوطنيّة على تشكيلها يفترض حدّاً أدنى، لدى ممثليها، من التنازلات المتبادلة إنطلاقاً من المسؤوليّة الوطنيّة ومن الواقعيّة السياسيّة على حدَِّ سواء.

ولكن ما هو المقصود بالحكومة التوافقيّة ؟

فهل هي حكومة يُشارك في تشكيلها، بصورة حكميّة، كل من الأكثريّة والأقليّة النيابيّة، بحيث ينتقي دور المعارضة الأساسي في أي حكم ديموقراطي برلماني ؟

ليس المقصود، بالتأكيد، بالحكومة التوافقيّة، مشاركة الأكثريّة والأقليّة النيابيّة والسياسيّة في تشكيلها، بل تمثيل كل مكوّن من المكوّنات الوطنيّة، فيها، بمن يُمثِل الأكثريّة في داخله، بحيث يتمّ التوافق داخل الحكومة، بين أكثريّات المكوّنات الوطنيّة، فتقوم أقليّاتها بدور المعارضة، مجتمعةً إذا شاءت، أو منفردة.

إنّ أي مسلك آخر في تشكيل الحكومة في لبنان التعدّدي يشكل نقضاً وخرقاً للميثاق الوطني ولمقتضيات العيش المشترك المكرّس دستوريّاً وميثاقيّاً، وتعريضاً لوحدة الوطن التعدّدي واستقراره وأمنه للخطر، وبالتالي لديمومة تعدديّته، سر فرادته، طالما أنّه يؤدّي، عمليّاً، إلى إقصاء واحد أو أكثر من مكوّناته عن مجلس الوزراء متولي السلطة التنفيذيّة في البلاد.







– 9 –

بناءً على كل ما تقدّم،

فإنّ الخيار المتاح أمام رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة المكلف يبقى بين :

-           تشكيل حكومة "أمر واقع"، بمعنى تجاوز مطالب سائر الأفرقاء في تشكيلها، وذلك إنطلاقاً من مبدأ وجوبيّة وحتميّة قيام حكومة كاملة الصلاحيّة تدير شؤون البلاد، مع ما يمكن أن تتسبّب به مثل هذه التشكيلة من إرتدادات قد تكون خطيرةً وماسّةً بوحدة الوطن ذاتها، أساس قيامه واستمراره، مما يجعلها متعدّية، بالتالي، للفائدة المرتجاة من إصدارها، بل متعارضة معها.

-           أو الإستمرار في السعي لإنتاج حكومة وفاق وطني، وفق المفهوم المحدّد أعلاه، مع ما يمكن أن ينتج عن الفراغ المتمادي من أضرار على أكثر من صعيد؛ وهو الخيار الذي قد يكون أهون الشرّين، وذلك : لأنّه يترك المجال مفتوحاً، إمّا لإمكانيّة التوصل، بنتيجة المطاف، إلى التوافق المطلوب تحت وطأة عامل الإرهاق، أو الضرورة، أو المصلحة، أو بنتيجة تغيّر الظروف والمعطيات الداخليّة و/أو الخارجيّة؛ وإمّا إلى إنعقاد مؤتمر وطني ينتج عنه توافقٌ أشمل وأعمق وأبقى حول الأسس التي يقتضي أن يقوم عليه نظام هذا الوطن التعددي، على ضوء التجارب التي عاشها، منذ نشأته، في ظل نظامه الحالي، رغم التعديلات الدستوريّة التي أدخلت عليه، وربّما، بل الأرجح والأصحّ، بسببها !


  بيروت في 26/11/2013





     القاضي لبيب زوين

الرّئيس شرفاً لدى محكمة التمييزبحث في آليّة وأُسُس تشكيل الحكومة بعد إتفاق الطائف


– 1 –

إنّ لبنان وطن تعدّدي مبنيّ على ميثاق وطني قائم على العيش المشترك والمشاركة العادلة المتوازنة بين مكوّنَيْه، بتلاوينهما كافة، في إدارته.

– 2 –

إنّ تشكيل الحكومات في لبنان لا بدّ من أن ينطلق من هذا الميثاق التكويني التأسيسي الذي هو بمثابة الدستور غير المكتوب، بل الدستور الحقيقي الأساس الذي لم يأتِ الدستور المكتوب إلا تكريساً لمبادئه.

– 3 –

لقد نصّ دستور لبنان  :

-      على أنّ لبنان "جمهوريّة ديموقراطيّة برلمانيّة" (مقدّمة الدستور).
-      وعلى أنّ المقاعد النيابيّة "توزّع بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين طوائف كل من الفئتين" (المادّة 24 منه).
-      وعلى أنّ "طوائفه تُمثّل بصورة عادلة في تشكيل الوزارة" (المادّة 95).
-      وعلى أنّه "على الحكومة أن تتقدّم من مجلس النوّاب ببيانها الوزاري لنَيل الثقة".

ينتج عمّا تقدّم :

أنّ النظام اللبناني، وبحكم أحكام الدستور ذاتها، فضلاً عن ميثاقه الوطني، هو نظام ديموقراطي برلماني مختلط يزاوج  :

-         بين النظام الديموقراطي البرلماني الفدرالي التشريعي الطوائفي (وليس الطائفي) – ديموقراطيّة الجماعات – طالما أنّه يشترط توزيع المقاعد النيابيّة بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين الطوائف، وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
-         وبين النظام الأكثري التنافسي طالما أنّه لا يشترط أن تنال الحكومة ثقة الأكثريّة داخل كل مكوّن من مكوّني المجلس بل يكتفي باشتراط نيلها ثقة الأكثريّة من مجموع الأعضاء المكوّن منهم المجلس دون النظر إلى الإنتماءات الطائفيّة لمانحيها الثقة.

– 4 –

بموجب الفقرة 4 من المادّة 53 يُصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

إلاّ إنه ينصّ في الفقرة 2 من المادّة 64 أنّ الحكومة لا تمارس صلاحيّاتها كاملة، بالرّغم من صدور مرسوم تشكيلها، إلا بعد نيلها ثقة مجلس النوّاب.

بمعنى أنّه إذا كان لا حكومة بدون صدور مرسوم بتشكيلها، فإنّه لا حكومة مكتملة الصلاحيّة إلا إذا نالت ثقة مجلس النوّاب.

ينتج عمّا تقدّم،

أنّ إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، لكي يكون منتجاً لمفاعيله الدستوريّة، يقتضي أن يكون محققاً، فعليّاً، لا تسميةً، الإنتقال من حالة الحكومة المستقيلة المنقوصة الصلاحيّة إلى حالة الحكومة الكاملة الصلاحيّة؛ الأمر الذي يستوجب، لتحققه، أن تأتي التشكيلة التي يُخرجها مرسوم التشكيل مُعَبِّرةً عن التوجهات والمطالب التي أظهرتها الإستشارات النيابيّة التي أجراها رئيس الحكومة المكلف لكي تتمكّن من نيل ثقة الأكثريّة في مجلس النوّاب بحيث يُحقق إصدار مرسوم التشكيل وظيفته ومفاعيله كاملة.

– 5 –

بموجب المادتين 17 و65 تُناطُ السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء يتولاها وفقاً لأحكام الدستور.

وتهيُّباً للصلاحيّات الهامّة والأساسيّة المناطة به، وعلى رأسها "وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات"، وإنصياعاً لمقتضيات الميثاق الوطني والعيش المشترك وما تفرضه من مشاركة فعليّة فاعلة ومتعادلة في إدارة شؤون البلاد.

فقد إشترطت المادّة 95 بأن تتمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، بحيث أنّ مجلس الوزراء يكون قد أضحى، بموجب الدستور المرعي الإجراء، بمثابة "المجلس التمثيلي للطوائف" في السلطة الإجرائيّة.




ينتج عمّا تقدّم،

‌أ.          وجوب أن يكون تمثيل الطائفة (المجتمع) في مجلس الوزراء تمثيلاً صحيحاً بواسطة ممثليها الفعليين.

‌ب.     وأن يكون هذا التمثيل فاعلاً بحيث يكون الممثل مؤهّلاً للقيام بمهمّة "وضع السياسة العامّة للدولة في جمسع المجالات" ... وهو عمل سياسي بامتياز يُفترض بمن يتولاه أن يكون متعاطياً في الشأن العام متمرّساً في العمل السياسي كي يتمكن من أداء مهامه عن علم وإطلاع وخبرة.

‌ج.      وأن يتمّ إنتقاء الوزير بالأفضليّة  :

-      إمّا من بين النوّاب أي من بين الذين إختارهم أبناء طائفتهم بنتيجة عمليّة إنتخابيّة ديموقراطيّة عبر الإنتخابات التشريعيّة كممثلين عنهم في مجلس النوّاب، كي يكون مسؤولاً تجاههم عن أدائه الوزاري، وخاضعاً، لاحقاً، لمحاسبتهم المباشرة، وهو ما لا يكون متحققاً في شخص الوزير غير النائب وغير المشارك في الحياة السياسيّة العمليّة وفي المنافسة الإنتخابيّة الديموقراطيّة.
-      وإمّا من بين الذين يرشّحهم الحزب، أو التكتل النيابي، بحيث يكون ملتزماً بتوجهات هذا الحزب أو هذا التكتل ومسؤولاً أمامه.

على أنّ ذلك لا يعني إستبعاد ما أجازه الدستور من إنتقاء وزراء من خارج مجلس النوّاب ضمن حدود معيّنة، أو الإستبعاد، بالمطلق، تشكيل حكومة ممّا يسمّى بـ "التكنوقراط" في ظروف إستثنائيّة وعند الضرورة.

أمّا إعتماد مبدأ فصل الوزارة عن النيابة، المعتمد في الأنظمة الرئاسيّة أو نصف الرئاسيّة حيث يكون الوزير تابعاً لرئيس الدولة ومعاوناً له ومسؤولاً تجاهه، فإنّه لا يجد ما يُبرّره أو يجيز إعتماده في ظل نظام ديموقراطي برلماني حصر دستوره ممارسة السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء مجتمعاً واضعاً بين يديه تقرير وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ما لم يصبح العمل السياسي قائماً على أساس حزبي منظّم بالإستناد إلى قانون حديث للأحزاب، حيث يضحى المرشّح غير النائب للمنصب الوزاري من قبل حزبه، مختاراً بصفته الحزبيّة وليس بصفته الشخصيّة المجرّدة، ومتمتعاً بصفة تمثيليّة، وخاضعاً لتوجيهات الحزب الذي رشّحه وملزماً بتنفيذ برامجه سياسته، وخاضعاً بالتالي لمراقبته ومحاسبته، علماً أنّ الحزب لم يكن ليرشّحه اصلاً، لولا اختباره له وتيقّنه من خبرته ومن تمرّسه في الشأن السياسي والعام من خلال عمله ونشاطه داخل الحزب.



أمّا بالنسبة للسبب الموجب الفعلي لاشتراط المادة 95 تمثيل الطوائف في تشكيل الوزارة بصورة عادلة، فلا يقتضي إعتباره سبباً "طائفيّاً" بالمعنى السلبي المُدان لمفهوم "الطائفيّة"، – وإن أوحى النص بعكس ذلك بقوله أنّه "لمرحلة إنتقاليّة" – لأنّ المقصود بالطوائف ليس هو سوى المجتمعات أو المكوّنات المؤلف منها شعب الوطن الواحد : ذلك أنّ الطائفة، في المجتمع الشرقي، تتقمّص في المجتمع الذي يعتنقها، ثقافة وتقاليد وممارسات ونمط عيش وفلسفة حياة، فتضحى متأصّلة في جذوره التاريخيّة والجغرافيّة والإنسانيّة بحيث تتعدّى آثارها فيه حدود الشكل إلى الجوهر الحياتي للفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، ممّا يوجب مشاركتها، "كمجتمعات" لا "كطوائف" في السلطة الإجرائيّة المناط بها إدارة شؤون البلاد.

– 6 –

بموجب الفقرة 2 من المادة 64 يُجري رئيس مجلس الوزراء الإستشارات النيابيّة لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهوريّة مرسوم تشكيلها.

إنّ المهمّة الموكولة إلى الرّئيس المكلف تشكيل الحكومة هي مهمّة محوريّة وهامّة، بقدر ما هي دقيقة، في بلد لا يقوم فيه العمل السياسي على أساس حزبي، بل تتشتّت فيه القوى السياسيّة بين أطراف سياسيّة متعدّدة غير واضحة وغير مستقرّة في مواقفها السياسيّة؛ ففي الوقت الذي يملك سلطة توقيع مرسوم تشكيل الحكومة مع رئيس الجمهوريّة، فإنّه يبقى عليه ضمان نيل حكومته ثقة مجلس النوّاب، ممّا يجعل من سلطته بإصدار المرسوم محدودة، عمليّاً، ومحكومة بمدى نجاحه بتحقيق التوافق حول حكومة تضمن، من جهة، نيل ثقة المجلس، ومن جهة ثانية المحافظة على الوفاق الوطني – أساس قيام الوطن – ضماناً لاستقرار هذا الوطن ووحدته وتعدّديته.

إنّ إلتقاء الكتل النيابيّة على شخص الرّئيس المكلف، وإن عبّر عن ثقة هذه الكتل بشخصه وشكّل تفويضاً له بالسعي لتشكيل الحكومة، إلا أنّ مصالحها المتضاربة، في عملية التشكيل، تجعل تكتل هذه العمليّة مرتهنة بإمكانيّة التوفيق بين تلك المصالح، وهي مهمّة يستحيل تحقيقها من دون تعاونها، مهما سمت قدراته الشخصيّة، وذلك بالرّغم من إمتلاكه سلاح التوقيع، طالما أنّ سلطة منح الثقة تبقى بيدها.








– 7 –

بموجب الفقرة 4 من المادة 53، يصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

بالرّغم من أنّ صياغة هذه المادّة قد جاءت بشكلٍ يوحي بأنّ ما تنيطه برئيس الجمهوريّة من مهمّة يتّسم بطابع "الإلزام" أكثر ممّا يتّسم بطابق الصلاحيّة" أو "السلطة" باستعمالها كلمة "يُصدر"، فإنّه يبقى أنّ مهمّة إصداره مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء تكاد تكون آخر الصلاحيّات المناطة به – بالإضافة إلى حقه برئاسة مجلس الوزارء دون أن يُشارك في التصويت – (باعتبار أنّ سائر صلاحيّاته الأخرى فهي إمّا تتّسم بطابع الإلزام، وإمّا هي متعلقة بأمور تفصيليّة لا علاقة لها بسياسة البلاد، وإمّا متّسمة بطابع بروتوكولي).

فبالرّغم من أنّ رئيس الجمهوريّة، بموجب المادّة 53، مكلف دستوريّاً بموجب إصدار مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، إلا أنّه يبقى له، بل عليه، الإمتناع عن توقيعه طالما أنّه، بتقديره، كرئيس للدولة، يعتبر أنّه لا تتوافر فيه الشروط الدستوريّة والميثاقيّة والواقعيّة المفروض عليه إحترامها تحت طائلة إعتباره مسؤولاً عن خرق الدستور :

فهو رئيس الدّولة

أي رئيس الدولة بسلطاتها ومؤسّساتها وأجهزتها كافة، الدستوريّة منها والسياسيّة والمدنيّة والعسكريّة.

وعلى رئيس الدّولة واجب المراقبة والتوجيه والتصويب، والمحافظة على القواعد والأسس التي تقوم عليها الدولة التي يرأسها وعلى وحدتها وتماسكها وسلامتها وأمنها واستقرارها على الأصعدة كافة، وذلك عبر السهر على تطبيق أحكام دستورها وميثاقها الوطني.

وهو رئيس الدّولة الموكول إليه
السهر على إحترام الدستور،

وإنّ دستور الدولة الموكول إليه واجب السهر على إحترامه ينصّ على أنّه لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وعلى أنّ الطوائف تُمثَّّل بصورة عادلة في تشكيل الحكومة، وعلى أنّ مجلس الوزراء، المفروض تمثيل الطوائف فيه بصورة عادلة، هو الذي يقوم بتولي السلطة الإجرائيّة وفقاً لأحكام الدستور وبوضع وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات.


وإنّ سهر رئيس الدولة على الدستور يعني سهره على أن تكون أحكام هذا الدستور محترمة، بكافة بنودها، في مضمون المرسوم الموكول إليه إصداره، أي في "التشكيلة" الحكوميّة المعروضة عليه، طالما أنّ هذه التشكيلة ستتولى سلطة دستوريّة محوريّة وموجبات دستوريّة أساسيّة ومتعدّدة مكلف بالسهر على إحترامها، وإنّ أداءها لموجباتها الدستوريّة هذه تبقى مرتبطة بشكلٍ مباشرٍ "بالتشكيلة الوزاريّة"، أشخاصاً وتوجهات، ممّا يوليه واجب وحق التدخل في تفاصيلها إنطلاقاً من واجبه وحقه بالسهر على إحترام الدستور : ذلك أنّ واجب إحترام الدستور يتضمّن واجب السهر على تطبيقه، وأنّ السهر على تطبيقه يفترض السهر على أن تكون "التشكيلة الحكوميّة" ملائمة، في تشكيلتها، لحسن تطبيقه، ليس فقط ببنوده المكتوبة، بل أيضاً ولا سيّما، في بنوده غير المكتوبة المتمثلة ببنود الميثاق الوطني ومقتضيات العيش المشترك الذي لا شرعيّة لأي سلطة تناقضه.

وهو الرئيس الموكول إليه
واجب السهر على وحدة الوطن،

وإنّ السهر على وحدة الوطن تعني، بالأولويّة، السهر على توافق بنيه وعلى عيشهم المشترك الآمن في الوطن المشترك، عيشاً مشتركاً فعليّاً على الأصعدة كافة، وبالأولويّة، على صعيد عيش الحياة الوطنيّة والسياسيّة والعامّة عيشاً مشتركاً فعليّاً عادلاً ومتعادلاً، عبر السلطة الإجرائيّة المولجة وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ممّا يولي رئيس الجمهوريّة حق بل واجب الإمتناع عن إصدار مرسوم تشكيل الحكومة إذا كان من شأنه أن يعرّض وحدة الوطن للخطر بسبب عدم إحترام القواعد الدستوريّة والميثاقيّة فيه، لأنّ التغاضي عن هذا التعرّض يشكّل خرقاً للدستور من قبله باعتباره مولجاً "المحافظة على وحدة الوطن".

إنّ ممارسة رئيس الجمهوريّة لموجباته الدستوريّة هذه، كرئيس للدولة ساهرٍ على إحترام دستورها ومحافظٍ على وحدة الوطن، وفقاً لمعايير ضميره الوطني والشخصي، يمنحه هامش كبير من حريّة التصرّف في تسيير عمليّة تشكيل الحكومة ليس فقط عبر الإمتناع عن توقيع مرسوم تشكيلها بما يتعارض مع ما اؤتمن عليه تحت طائلة تحمّل تبعة خرقه للدستور، بل أيضاً عبر توجيه رسالة إلى مجلس النوّاب يضعه فيها أمام مسؤوليّاته الوطنيّة، وبتوجّهه إلى الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة وجعله حكماً محاسباً لتصرّف الذين إنتدبهم لتمثيله وإدارة شؤونه.

إنّ إمساك رئيس الدولة "بورقة" الإمتناع عن التوقيع – إضافةً إلى توجيه رسالة توجيه بل تحذير إلى مجلس النوّاب واحتكامه إلى الشعب – من شأنه أن يجعل القوى السياسيّة، المفروض عليها واجب تحقيق التوافق فيما بينها، مضطرّة للوصول إلى هذا التوافق تحت طائلة المسؤوليّة الوطنيّة والمحاسبة الشعبيّة والضميريّة والتاريخيّة.



ما لم ؟

ما لم يكن القصد منصرفاً، أصلاً، إلى إحداث الفراغ : وهي مسألة أخرى لا مجال للغوص في مناقشتها في معرض هذا البحث.

– 8 –

إنّ لبنان، بحكم كونه وطناً تعدديّاً، لا تستقيم فيه إلا السياسة التوافقيّة؛

وإنّ السياسة التوافقيّة لا تقوم إلا بحكومات توافقيّة؛

وإنّ الحكومات التوافقيّة تفترض، لتحققها، توافق المكوّنات الوطنيّة في البلاد على تشكيلها؛

وإنّ توافق المكوّنات الوطنيّة على تشكيلها يفترض حدّاً أدنى، لدى ممثليها، من التنازلات المتبادلة إنطلاقاً من المسؤوليّة الوطنيّة ومن الواقعيّة السياسيّة على حدَِّ سواء.

ولكن ما هو المقصود بالحكومة التوافقيّة ؟

فهل هي حكومة يُشارك في تشكيلها، بصورة حكميّة، كل من الأكثريّة والأقليّة النيابيّة، بحيث ينتقي دور المعارضة الأساسي في أي حكم ديموقراطي برلماني ؟

ليس المقصود، بالتأكيد، بالحكومة التوافقيّة، مشاركة الأكثريّة والأقليّة النيابيّة والسياسيّة في تشكيلها، بل تمثيل كل مكوّن من المكوّنات الوطنيّة، فيها، بمن يُمثِل الأكثريّة في داخله، بحيث يتمّ التوافق داخل الحكومة، بين أكثريّات المكوّنات الوطنيّة، فتقوم أقليّاتها بدور المعارضة، مجتمعةً إذا شاءت، أو منفردة.

إنّ أي مسلك آخر في تشكيل الحكومة في لبنان التعدّدي يشكل نقضاً وخرقاً للميثاق الوطني ولمقتضيات العيش المشترك المكرّس دستوريّاً وميثاقيّاً، وتعريضاً لوحدة الوطن التعدّدي واستقراره وأمنه للخطر، وبالتالي لديمومة تعدديّته، سر فرادته، طالما أنّه يؤدّي، عمليّاً، إلى إقصاء واحد أو أكثر من مكوّناته عن مجلس الوزراء متولي السلطة التنفيذيّة في البلاد.







– 9 –

بناءً على كل ما تقدّم،

فإنّ الخيار المتاح أمام رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة المكلف يبقى بين :

-           تشكيل حكومة "أمر واقع"، بمعنى تجاوز مطالب سائر الأفرقاء في تشكيلها، وذلك إنطلاقاً من مبدأ وجوبيّة وحتميّة قيام حكومة كاملة الصلاحيّة تدير شؤون البلاد، مع ما يمكن أن تتسبّب به مثل هذه التشكيلة من إرتدادات قد تكون خطيرةً وماسّةً بوحدة الوطن ذاتها، أساس قيامه واستمراره، مما يجعلها متعدّية، بالتالي، للفائدة المرتجاة من إصدارها، بل متعارضة معها.

-           أو الإستمرار في السعي لإنتاج حكومة وفاق وطني، وفق المفهوم المحدّد أعلاه، مع ما يمكن أن ينتج عن الفراغ المتمادي من أضرار على أكثر من صعيد؛ وهو الخيار الذي قد يكون أهون الشرّين، وذلك : لأنّه يترك المجال مفتوحاً، إمّا لإمكانيّة التوصل، بنتيجة المطاف، إلى التوافق المطلوب تحت وطأة عامل الإرهاق، أو الضرورة، أو المصلحة، أو بنتيجة تغيّر الظروف والمعطيات الداخليّة و/أو الخارجيّة؛ وإمّا إلى إنعقاد مؤتمر وطني ينتج عنه توافقٌ أشمل وأعمق وأبقى حول الأسس التي يقتضي أن يقوم عليه نظام هذا الوطن التعددي، على ضوء التجارب التي عاشها، منذ نشأته، في ظل نظامه الحالي، رغم التعديلات الدستوريّة التي أدخلت عليه، وربّما، بل الأرجح والأصحّ، بسببها !


  بيروت في 26/11/2013





     القاضي لبيب زوين
الرّئيس شرفاً لدى محكمة التمييزبحث في آليّة وأُسُس تشكيل الحكومة بعد إتفاق الطائف


– 1 –

إنّ لبنان وطن تعدّدي مبنيّ على ميثاق وطني قائم على العيش المشترك والمشاركة العادلة المتوازنة بين مكوّنَيْه، بتلاوينهما كافة، في إدارته.

– 2 –

إنّ تشكيل الحكومات في لبنان لا بدّ من أن ينطلق من هذا الميثاق التكويني التأسيسي الذي هو بمثابة الدستور غير المكتوب، بل الدستور الحقيقي الأساس الذي لم يأتِ الدستور المكتوب إلا تكريساً لمبادئه.

– 3 –

لقد نصّ دستور لبنان  :

-      على أنّ لبنان "جمهوريّة ديموقراطيّة برلمانيّة" (مقدّمة الدستور).
-      وعلى أنّ المقاعد النيابيّة "توزّع بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين طوائف كل من الفئتين" (المادّة 24 منه).
-      وعلى أنّ "طوائفه تُمثّل بصورة عادلة في تشكيل الوزارة" (المادّة 95).
-      وعلى أنّه "على الحكومة أن تتقدّم من مجلس النوّاب ببيانها الوزاري لنَيل الثقة".

ينتج عمّا تقدّم :

أنّ النظام اللبناني، وبحكم أحكام الدستور ذاتها، فضلاً عن ميثاقه الوطني، هو نظام ديموقراطي برلماني مختلط يزاوج  :

-         بين النظام الديموقراطي البرلماني الفدرالي التشريعي الطوائفي (وليس الطائفي) – ديموقراطيّة الجماعات – طالما أنّه يشترط توزيع المقاعد النيابيّة بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين الطوائف، وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
-         وبين النظام الأكثري التنافسي طالما أنّه لا يشترط أن تنال الحكومة ثقة الأكثريّة داخل كل مكوّن من مكوّني المجلس بل يكتفي باشتراط نيلها ثقة الأكثريّة من مجموع الأعضاء المكوّن منهم المجلس دون النظر إلى الإنتماءات الطائفيّة لمانحيها الثقة.

– 4 –

بموجب الفقرة 4 من المادّة 53 يُصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

إلاّ إنه ينصّ في الفقرة 2 من المادّة 64 أنّ الحكومة لا تمارس صلاحيّاتها كاملة، بالرّغم من صدور مرسوم تشكيلها، إلا بعد نيلها ثقة مجلس النوّاب.

بمعنى أنّه إذا كان لا حكومة بدون صدور مرسوم بتشكيلها، فإنّه لا حكومة مكتملة الصلاحيّة إلا إذا نالت ثقة مجلس النوّاب.

ينتج عمّا تقدّم،

أنّ إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، لكي يكون منتجاً لمفاعيله الدستوريّة، يقتضي أن يكون محققاً، فعليّاً، لا تسميةً، الإنتقال من حالة الحكومة المستقيلة المنقوصة الصلاحيّة إلى حالة الحكومة الكاملة الصلاحيّة؛ الأمر الذي يستوجب، لتحققه، أن تأتي التشكيلة التي يُخرجها مرسوم التشكيل مُعَبِّرةً عن التوجهات والمطالب التي أظهرتها الإستشارات النيابيّة التي أجراها رئيس الحكومة المكلف لكي تتمكّن من نيل ثقة الأكثريّة في مجلس النوّاب بحيث يُحقق إصدار مرسوم التشكيل وظيفته ومفاعيله كاملة.

– 5 –

بموجب المادتين 17 و65 تُناطُ السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء يتولاها وفقاً لأحكام الدستور.

وتهيُّباً للصلاحيّات الهامّة والأساسيّة المناطة به، وعلى رأسها "وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات"، وإنصياعاً لمقتضيات الميثاق الوطني والعيش المشترك وما تفرضه من مشاركة فعليّة فاعلة ومتعادلة في إدارة شؤون البلاد.

فقد إشترطت المادّة 95 بأن تتمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، بحيث أنّ مجلس الوزراء يكون قد أضحى، بموجب الدستور المرعي الإجراء، بمثابة "المجلس التمثيلي للطوائف" في السلطة الإجرائيّة.




ينتج عمّا تقدّم،

‌أ.          وجوب أن يكون تمثيل الطائفة (المجتمع) في مجلس الوزراء تمثيلاً صحيحاً بواسطة ممثليها الفعليين.

‌ب.     وأن يكون هذا التمثيل فاعلاً بحيث يكون الممثل مؤهّلاً للقيام بمهمّة "وضع السياسة العامّة للدولة في جمسع المجالات" ... وهو عمل سياسي بامتياز يُفترض بمن يتولاه أن يكون متعاطياً في الشأن العام متمرّساً في العمل السياسي كي يتمكن من أداء مهامه عن علم وإطلاع وخبرة.

‌ج.      وأن يتمّ إنتقاء الوزير بالأفضليّة  :

-      إمّا من بين النوّاب أي من بين الذين إختارهم أبناء طائفتهم بنتيجة عمليّة إنتخابيّة ديموقراطيّة عبر الإنتخابات التشريعيّة كممثلين عنهم في مجلس النوّاب، كي يكون مسؤولاً تجاههم عن أدائه الوزاري، وخاضعاً، لاحقاً، لمحاسبتهم المباشرة، وهو ما لا يكون متحققاً في شخص الوزير غير النائب وغير المشارك في الحياة السياسيّة العمليّة وفي المنافسة الإنتخابيّة الديموقراطيّة.
-      وإمّا من بين الذين يرشّحهم الحزب، أو التكتل النيابي، بحيث يكون ملتزماً بتوجهات هذا الحزب أو هذا التكتل ومسؤولاً أمامه.

على أنّ ذلك لا يعني إستبعاد ما أجازه الدستور من إنتقاء وزراء من خارج مجلس النوّاب ضمن حدود معيّنة، أو الإستبعاد، بالمطلق، تشكيل حكومة ممّا يسمّى بـ "التكنوقراط" في ظروف إستثنائيّة وعند الضرورة.

أمّا إعتماد مبدأ فصل الوزارة عن النيابة، المعتمد في الأنظمة الرئاسيّة أو نصف الرئاسيّة حيث يكون الوزير تابعاً لرئيس الدولة ومعاوناً له ومسؤولاً تجاهه، فإنّه لا يجد ما يُبرّره أو يجيز إعتماده في ظل نظام ديموقراطي برلماني حصر دستوره ممارسة السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء مجتمعاً واضعاً بين يديه تقرير وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ما لم يصبح العمل السياسي قائماً على أساس حزبي منظّم بالإستناد إلى قانون حديث للأحزاب، حيث يضحى المرشّح غير النائب للمنصب الوزاري من قبل حزبه، مختاراً بصفته الحزبيّة وليس بصفته الشخصيّة المجرّدة، ومتمتعاً بصفة تمثيليّة، وخاضعاً لتوجيهات الحزب الذي رشّحه وملزماً بتنفيذ برامجه سياسته، وخاضعاً بالتالي لمراقبته ومحاسبته، علماً أنّ الحزب لم يكن ليرشّحه اصلاً، لولا اختباره له وتيقّنه من خبرته ومن تمرّسه في الشأن السياسي والعام من خلال عمله ونشاطه داخل الحزب.



أمّا بالنسبة للسبب الموجب الفعلي لاشتراط المادة 95 تمثيل الطوائف في تشكيل الوزارة بصورة عادلة، فلا يقتضي إعتباره سبباً "طائفيّاً" بالمعنى السلبي المُدان لمفهوم "الطائفيّة"، – وإن أوحى النص بعكس ذلك بقوله أنّه "لمرحلة إنتقاليّة" – لأنّ المقصود بالطوائف ليس هو سوى المجتمعات أو المكوّنات المؤلف منها شعب الوطن الواحد : ذلك أنّ الطائفة، في المجتمع الشرقي، تتقمّص في المجتمع الذي يعتنقها، ثقافة وتقاليد وممارسات ونمط عيش وفلسفة حياة، فتضحى متأصّلة في جذوره التاريخيّة والجغرافيّة والإنسانيّة بحيث تتعدّى آثارها فيه حدود الشكل إلى الجوهر الحياتي للفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، ممّا يوجب مشاركتها، "كمجتمعات" لا "كطوائف" في السلطة الإجرائيّة المناط بها إدارة شؤون البلاد.

– 6 –

بموجب الفقرة 2 من المادة 64 يُجري رئيس مجلس الوزراء الإستشارات النيابيّة لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهوريّة مرسوم تشكيلها.

إنّ المهمّة الموكولة إلى الرّئيس المكلف تشكيل الحكومة هي مهمّة محوريّة وهامّة، بقدر ما هي دقيقة، في بلد لا يقوم فيه العمل السياسي على أساس حزبي، بل تتشتّت فيه القوى السياسيّة بين أطراف سياسيّة متعدّدة غير واضحة وغير مستقرّة في مواقفها السياسيّة؛ ففي الوقت الذي يملك سلطة توقيع مرسوم تشكيل الحكومة مع رئيس الجمهوريّة، فإنّه يبقى عليه ضمان نيل حكومته ثقة مجلس النوّاب، ممّا يجعل من سلطته بإصدار المرسوم محدودة، عمليّاً، ومحكومة بمدى نجاحه بتحقيق التوافق حول حكومة تضمن، من جهة، نيل ثقة المجلس، ومن جهة ثانية المحافظة على الوفاق الوطني – أساس قيام الوطن – ضماناً لاستقرار هذا الوطن ووحدته وتعدّديته.

إنّ إلتقاء الكتل النيابيّة على شخص الرّئيس المكلف، وإن عبّر عن ثقة هذه الكتل بشخصه وشكّل تفويضاً له بالسعي لتشكيل الحكومة، إلا أنّ مصالحها المتضاربة، في عملية التشكيل، تجعل تكتل هذه العمليّة مرتهنة بإمكانيّة التوفيق بين تلك المصالح، وهي مهمّة يستحيل تحقيقها من دون تعاونها، مهما سمت قدراته الشخصيّة، وذلك بالرّغم من إمتلاكه سلاح التوقيع، طالما أنّ سلطة منح الثقة تبقى بيدها.








– 7 –

بموجب الفقرة 4 من المادة 53، يصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

بالرّغم من أنّ صياغة هذه المادّة قد جاءت بشكلٍ يوحي بأنّ ما تنيطه برئيس الجمهوريّة من مهمّة يتّسم بطابع "الإلزام" أكثر ممّا يتّسم بطابق الصلاحيّة" أو "السلطة" باستعمالها كلمة "يُصدر"، فإنّه يبقى أنّ مهمّة إصداره مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء تكاد تكون آخر الصلاحيّات المناطة به – بالإضافة إلى حقه برئاسة مجلس الوزارء دون أن يُشارك في التصويت – (باعتبار أنّ سائر صلاحيّاته الأخرى فهي إمّا تتّسم بطابع الإلزام، وإمّا هي متعلقة بأمور تفصيليّة لا علاقة لها بسياسة البلاد، وإمّا متّسمة بطابع بروتوكولي).

فبالرّغم من أنّ رئيس الجمهوريّة، بموجب المادّة 53، مكلف دستوريّاً بموجب إصدار مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، إلا أنّه يبقى له، بل عليه، الإمتناع عن توقيعه طالما أنّه، بتقديره، كرئيس للدولة، يعتبر أنّه لا تتوافر فيه الشروط الدستوريّة والميثاقيّة والواقعيّة المفروض عليه إحترامها تحت طائلة إعتباره مسؤولاً عن خرق الدستور :

فهو رئيس الدّولة

أي رئيس الدولة بسلطاتها ومؤسّساتها وأجهزتها كافة، الدستوريّة منها والسياسيّة والمدنيّة والعسكريّة.

وعلى رئيس الدّولة واجب المراقبة والتوجيه والتصويب، والمحافظة على القواعد والأسس التي تقوم عليها الدولة التي يرأسها وعلى وحدتها وتماسكها وسلامتها وأمنها واستقرارها على الأصعدة كافة، وذلك عبر السهر على تطبيق أحكام دستورها وميثاقها الوطني.

وهو رئيس الدّولة الموكول إليه
السهر على إحترام الدستور،

وإنّ دستور الدولة الموكول إليه واجب السهر على إحترامه ينصّ على أنّه لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وعلى أنّ الطوائف تُمثَّّل بصورة عادلة في تشكيل الحكومة، وعلى أنّ مجلس الوزراء، المفروض تمثيل الطوائف فيه بصورة عادلة، هو الذي يقوم بتولي السلطة الإجرائيّة وفقاً لأحكام الدستور وبوضع وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات.


وإنّ سهر رئيس الدولة على الدستور يعني سهره على أن تكون أحكام هذا الدستور محترمة، بكافة بنودها، في مضمون المرسوم الموكول إليه إصداره، أي في "التشكيلة" الحكوميّة المعروضة عليه، طالما أنّ هذه التشكيلة ستتولى سلطة دستوريّة محوريّة وموجبات دستوريّة أساسيّة ومتعدّدة مكلف بالسهر على إحترامها، وإنّ أداءها لموجباتها الدستوريّة هذه تبقى مرتبطة بشكلٍ مباشرٍ "بالتشكيلة الوزاريّة"، أشخاصاً وتوجهات، ممّا يوليه واجب وحق التدخل في تفاصيلها إنطلاقاً من واجبه وحقه بالسهر على إحترام الدستور : ذلك أنّ واجب إحترام الدستور يتضمّن واجب السهر على تطبيقه، وأنّ السهر على تطبيقه يفترض السهر على أن تكون "التشكيلة الحكوميّة" ملائمة، في تشكيلتها، لحسن تطبيقه، ليس فقط ببنوده المكتوبة، بل أيضاً ولا سيّما، في بنوده غير المكتوبة المتمثلة ببنود الميثاق الوطني ومقتضيات العيش المشترك الذي لا شرعيّة لأي سلطة تناقضه.

وهو الرئيس الموكول إليه
واجب السهر على وحدة الوطن،

وإنّ السهر على وحدة الوطن تعني، بالأولويّة، السهر على توافق بنيه وعلى عيشهم المشترك الآمن في الوطن المشترك، عيشاً مشتركاً فعليّاً على الأصعدة كافة، وبالأولويّة، على صعيد عيش الحياة الوطنيّة والسياسيّة والعامّة عيشاً مشتركاً فعليّاً عادلاً ومتعادلاً، عبر السلطة الإجرائيّة المولجة وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ممّا يولي رئيس الجمهوريّة حق بل واجب الإمتناع عن إصدار مرسوم تشكيل الحكومة إذا كان من شأنه أن يعرّض وحدة الوطن للخطر بسبب عدم إحترام القواعد الدستوريّة والميثاقيّة فيه، لأنّ التغاضي عن هذا التعرّض يشكّل خرقاً للدستور من قبله باعتباره مولجاً "المحافظة على وحدة الوطن".

إنّ ممارسة رئيس الجمهوريّة لموجباته الدستوريّة هذه، كرئيس للدولة ساهرٍ على إحترام دستورها ومحافظٍ على وحدة الوطن، وفقاً لمعايير ضميره الوطني والشخصي، يمنحه هامش كبير من حريّة التصرّف في تسيير عمليّة تشكيل الحكومة ليس فقط عبر الإمتناع عن توقيع مرسوم تشكيلها بما يتعارض مع ما اؤتمن عليه تحت طائلة تحمّل تبعة خرقه للدستور، بل أيضاً عبر توجيه رسالة إلى مجلس النوّاب يضعه فيها أمام مسؤوليّاته الوطنيّة، وبتوجّهه إلى الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة وجعله حكماً محاسباً لتصرّف الذين إنتدبهم لتمثيله وإدارة شؤونه.

إنّ إمساك رئيس الدولة "بورقة" الإمتناع عن التوقيع – إضافةً إلى توجيه رسالة توجيه بل تحذير إلى مجلس النوّاب واحتكامه إلى الشعب – من شأنه أن يجعل القوى السياسيّة، المفروض عليها واجب تحقيق التوافق فيما بينها، مضطرّة للوصول إلى هذا التوافق تحت طائلة المسؤوليّة الوطنيّة والمحاسبة الشعبيّة والضميريّة والتاريخيّة.



ما لم ؟

ما لم يكن القصد منصرفاً، أصلاً، إلى إحداث الفراغ : وهي مسألة أخرى لا مجال للغوص في مناقشتها في معرض هذا البحث.

– 8 –

إنّ لبنان، بحكم كونه وطناً تعدديّاً، لا تستقيم فيه إلا السياسة التوافقيّة؛

وإنّ السياسة التوافقيّة لا تقوم إلا بحكومات توافقيّة؛

وإنّ الحكومات التوافقيّة تفترض، لتحققها، توافق المكوّنات الوطنيّة في البلاد على تشكيلها؛

وإنّ توافق المكوّنات الوطنيّة على تشكيلها يفترض حدّاً أدنى، لدى ممثليها، من التنازلات المتبادلة إنطلاقاً من المسؤوليّة الوطنيّة ومن الواقعيّة السياسيّة على حدَِّ سواء.

ولكن ما هو المقصود بالحكومة التوافقيّة ؟

فهل هي حكومة يُشارك في تشكيلها، بصورة حكميّة، كل من الأكثريّة والأقليّة النيابيّة، بحيث ينتقي دور المعارضة الأساسي في أي حكم ديموقراطي برلماني ؟

ليس المقصود، بالتأكيد، بالحكومة التوافقيّة، مشاركة الأكثريّة والأقليّة النيابيّة والسياسيّة في تشكيلها، بل تمثيل كل مكوّن من المكوّنات الوطنيّة، فيها، بمن يُمثِل الأكثريّة في داخله، بحيث يتمّ التوافق داخل الحكومة، بين أكثريّات المكوّنات الوطنيّة، فتقوم أقليّاتها بدور المعارضة، مجتمعةً إذا شاءت، أو منفردة.

إنّ أي مسلك آخر في تشكيل الحكومة في لبنان التعدّدي يشكل نقضاً وخرقاً للميثاق الوطني ولمقتضيات العيش المشترك المكرّس دستوريّاً وميثاقيّاً، وتعريضاً لوحدة الوطن التعدّدي واستقراره وأمنه للخطر، وبالتالي لديمومة تعدديّته، سر فرادته، طالما أنّه يؤدّي، عمليّاً، إلى إقصاء واحد أو أكثر من مكوّناته عن مجلس الوزراء متولي السلطة التنفيذيّة في البلاد.







– 9 –

بناءً على كل ما تقدّم،

فإنّ الخيار المتاح أمام رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة المكلف يبقى بين :

-           تشكيل حكومة "أمر واقع"، بمعنى تجاوز مطالب سائر الأفرقاء في تشكيلها، وذلك إنطلاقاً من مبدأ وجوبيّة وحتميّة قيام حكومة كاملة الصلاحيّة تدير شؤون البلاد، مع ما يمكن أن تتسبّب به مثل هذه التشكيلة من إرتدادات قد تكون خطيرةً وماسّةً بوحدة الوطن ذاتها، أساس قيامه واستمراره، مما يجعلها متعدّية، بالتالي، للفائدة المرتجاة من إصدارها، بل متعارضة معها.

-           أو الإستمرار في السعي لإنتاج حكومة وفاق وطني، وفق المفهوم المحدّد أعلاه، مع ما يمكن أن ينتج عن الفراغ المتمادي من أضرار على أكثر من صعيد؛ وهو الخيار الذي قد يكون أهون الشرّين، وذلك : لأنّه يترك المجال مفتوحاً، إمّا لإمكانيّة التوصل، بنتيجة المطاف، إلى التوافق المطلوب تحت وطأة عامل الإرهاق، أو الضرورة، أو المصلحة، أو بنتيجة تغيّر الظروف والمعطيات الداخليّة و/أو الخارجيّة؛ وإمّا إلى إنعقاد مؤتمر وطني ينتج عنه توافقٌ أشمل وأعمق وأبقى حول الأسس التي يقتضي أن يقوم عليه نظام هذا الوطن التعددي، على ضوء التجارب التي عاشها، منذ نشأته، في ظل نظامه الحالي، رغم التعديلات الدستوريّة التي أدخلت عليه، وربّما، بل الأرجح والأصحّ، بسببها !


  بيروت في 26/11/2013





     القاضي لبيب زوين
الرّئيس شرفاً لدى محكمة التمييزبحث في آليّة وأُسُس تشكيل الحكومة بعد إتفاق الطائف


– 1 –

إنّ لبنان وطن تعدّدي مبنيّ على ميثاق وطني قائم على العيش المشترك والمشاركة العادلة المتوازنة بين مكوّنَيْه، بتلاوينهما كافة، في إدارته.

– 2 –

إنّ تشكيل الحكومات في لبنان لا بدّ من أن ينطلق من هذا الميثاق التكويني التأسيسي الذي هو بمثابة الدستور غير المكتوب، بل الدستور الحقيقي الأساس الذي لم يأتِ الدستور المكتوب إلا تكريساً لمبادئه.

– 3 –

لقد نصّ دستور لبنان  :

-      على أنّ لبنان "جمهوريّة ديموقراطيّة برلمانيّة" (مقدّمة الدستور).
-      وعلى أنّ المقاعد النيابيّة "توزّع بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين طوائف كل من الفئتين" (المادّة 24 منه).
-      وعلى أنّ "طوائفه تُمثّل بصورة عادلة في تشكيل الوزارة" (المادّة 95).
-      وعلى أنّه "على الحكومة أن تتقدّم من مجلس النوّاب ببيانها الوزاري لنَيل الثقة".

ينتج عمّا تقدّم :

أنّ النظام اللبناني، وبحكم أحكام الدستور ذاتها، فضلاً عن ميثاقه الوطني، هو نظام ديموقراطي برلماني مختلط يزاوج  :

-         بين النظام الديموقراطي البرلماني الفدرالي التشريعي الطوائفي (وليس الطائفي) – ديموقراطيّة الجماعات – طالما أنّه يشترط توزيع المقاعد النيابيّة بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين الطوائف، وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
-         وبين النظام الأكثري التنافسي طالما أنّه لا يشترط أن تنال الحكومة ثقة الأكثريّة داخل كل مكوّن من مكوّني المجلس بل يكتفي باشتراط نيلها ثقة الأكثريّة من مجموع الأعضاء المكوّن منهم المجلس دون النظر إلى الإنتماءات الطائفيّة لمانحيها الثقة.

– 4 –

بموجب الفقرة 4 من المادّة 53 يُصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

إلاّ إنه ينصّ في الفقرة 2 من المادّة 64 أنّ الحكومة لا تمارس صلاحيّاتها كاملة، بالرّغم من صدور مرسوم تشكيلها، إلا بعد نيلها ثقة مجلس النوّاب.

بمعنى أنّه إذا كان لا حكومة بدون صدور مرسوم بتشكيلها، فإنّه لا حكومة مكتملة الصلاحيّة إلا إذا نالت ثقة مجلس النوّاب.

ينتج عمّا تقدّم،

أنّ إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، لكي يكون منتجاً لمفاعيله الدستوريّة، يقتضي أن يكون محققاً، فعليّاً، لا تسميةً، الإنتقال من حالة الحكومة المستقيلة المنقوصة الصلاحيّة إلى حالة الحكومة الكاملة الصلاحيّة؛ الأمر الذي يستوجب، لتحققه، أن تأتي التشكيلة التي يُخرجها مرسوم التشكيل مُعَبِّرةً عن التوجهات والمطالب التي أظهرتها الإستشارات النيابيّة التي أجراها رئيس الحكومة المكلف لكي تتمكّن من نيل ثقة الأكثريّة في مجلس النوّاب بحيث يُحقق إصدار مرسوم التشكيل وظيفته ومفاعيله كاملة.

– 5 –

بموجب المادتين 17 و65 تُناطُ السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء يتولاها وفقاً لأحكام الدستور.

وتهيُّباً للصلاحيّات الهامّة والأساسيّة المناطة به، وعلى رأسها "وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات"، وإنصياعاً لمقتضيات الميثاق الوطني والعيش المشترك وما تفرضه من مشاركة فعليّة فاعلة ومتعادلة في إدارة شؤون البلاد.

فقد إشترطت المادّة 95 بأن تتمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، بحيث أنّ مجلس الوزراء يكون قد أضحى، بموجب الدستور المرعي الإجراء، بمثابة "المجلس التمثيلي للطوائف" في السلطة الإجرائيّة.




ينتج عمّا تقدّم،

‌أ.          وجوب أن يكون تمثيل الطائفة (المجتمع) في مجلس الوزراء تمثيلاً صحيحاً بواسطة ممثليها الفعليين.

‌ب.     وأن يكون هذا التمثيل فاعلاً بحيث يكون الممثل مؤهّلاً للقيام بمهمّة "وضع السياسة العامّة للدولة في جمسع المجالات" ... وهو عمل سياسي بامتياز يُفترض بمن يتولاه أن يكون متعاطياً في الشأن العام متمرّساً في العمل السياسي كي يتمكن من أداء مهامه عن علم وإطلاع وخبرة.

‌ج.      وأن يتمّ إنتقاء الوزير بالأفضليّة  :

-      إمّا من بين النوّاب أي من بين الذين إختارهم أبناء طائفتهم بنتيجة عمليّة إنتخابيّة ديموقراطيّة عبر الإنتخابات التشريعيّة كممثلين عنهم في مجلس النوّاب، كي يكون مسؤولاً تجاههم عن أدائه الوزاري، وخاضعاً، لاحقاً، لمحاسبتهم المباشرة، وهو ما لا يكون متحققاً في شخص الوزير غير النائب وغير المشارك في الحياة السياسيّة العمليّة وفي المنافسة الإنتخابيّة الديموقراطيّة.
-      وإمّا من بين الذين يرشّحهم الحزب، أو التكتل النيابي، بحيث يكون ملتزماً بتوجهات هذا الحزب أو هذا التكتل ومسؤولاً أمامه.

على أنّ ذلك لا يعني إستبعاد ما أجازه الدستور من إنتقاء وزراء من خارج مجلس النوّاب ضمن حدود معيّنة، أو الإستبعاد، بالمطلق، تشكيل حكومة ممّا يسمّى بـ "التكنوقراط" في ظروف إستثنائيّة وعند الضرورة.

أمّا إعتماد مبدأ فصل الوزارة عن النيابة، المعتمد في الأنظمة الرئاسيّة أو نصف الرئاسيّة حيث يكون الوزير تابعاً لرئيس الدولة ومعاوناً له ومسؤولاً تجاهه، فإنّه لا يجد ما يُبرّره أو يجيز إعتماده في ظل نظام ديموقراطي برلماني حصر دستوره ممارسة السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء مجتمعاً واضعاً بين يديه تقرير وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ما لم يصبح العمل السياسي قائماً على أساس حزبي منظّم بالإستناد إلى قانون حديث للأحزاب، حيث يضحى المرشّح غير النائب للمنصب الوزاري من قبل حزبه، مختاراً بصفته الحزبيّة وليس بصفته الشخصيّة المجرّدة، ومتمتعاً بصفة تمثيليّة، وخاضعاً لتوجيهات الحزب الذي رشّحه وملزماً بتنفيذ برامجه سياسته، وخاضعاً بالتالي لمراقبته ومحاسبته، علماً أنّ الحزب لم يكن ليرشّحه اصلاً، لولا اختباره له وتيقّنه من خبرته ومن تمرّسه في الشأن السياسي والعام من خلال عمله ونشاطه داخل الحزب.



أمّا بالنسبة للسبب الموجب الفعلي لاشتراط المادة 95 تمثيل الطوائف في تشكيل الوزارة بصورة عادلة، فلا يقتضي إعتباره سبباً "طائفيّاً" بالمعنى السلبي المُدان لمفهوم "الطائفيّة"، – وإن أوحى النص بعكس ذلك بقوله أنّه "لمرحلة إنتقاليّة" – لأنّ المقصود بالطوائف ليس هو سوى المجتمعات أو المكوّنات المؤلف منها شعب الوطن الواحد : ذلك أنّ الطائفة، في المجتمع الشرقي، تتقمّص في المجتمع الذي يعتنقها، ثقافة وتقاليد وممارسات ونمط عيش وفلسفة حياة، فتضحى متأصّلة في جذوره التاريخيّة والجغرافيّة والإنسانيّة بحيث تتعدّى آثارها فيه حدود الشكل إلى الجوهر الحياتي للفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، ممّا يوجب مشاركتها، "كمجتمعات" لا "كطوائف" في السلطة الإجرائيّة المناط بها إدارة شؤون البلاد.

– 6 –

بموجب الفقرة 2 من المادة 64 يُجري رئيس مجلس الوزراء الإستشارات النيابيّة لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهوريّة مرسوم تشكيلها.

إنّ المهمّة الموكولة إلى الرّئيس المكلف تشكيل الحكومة هي مهمّة محوريّة وهامّة، بقدر ما هي دقيقة، في بلد لا يقوم فيه العمل السياسي على أساس حزبي، بل تتشتّت فيه القوى السياسيّة بين أطراف سياسيّة متعدّدة غير واضحة وغير مستقرّة في مواقفها السياسيّة؛ ففي الوقت الذي يملك سلطة توقيع مرسوم تشكيل الحكومة مع رئيس الجمهوريّة، فإنّه يبقى عليه ضمان نيل حكومته ثقة مجلس النوّاب، ممّا يجعل من سلطته بإصدار المرسوم محدودة، عمليّاً، ومحكومة بمدى نجاحه بتحقيق التوافق حول حكومة تضمن، من جهة، نيل ثقة المجلس، ومن جهة ثانية المحافظة على الوفاق الوطني – أساس قيام الوطن – ضماناً لاستقرار هذا الوطن ووحدته وتعدّديته.

إنّ إلتقاء الكتل النيابيّة على شخص الرّئيس المكلف، وإن عبّر عن ثقة هذه الكتل بشخصه وشكّل تفويضاً له بالسعي لتشكيل الحكومة، إلا أنّ مصالحها المتضاربة، في عملية التشكيل، تجعل تكتل هذه العمليّة مرتهنة بإمكانيّة التوفيق بين تلك المصالح، وهي مهمّة يستحيل تحقيقها من دون تعاونها، مهما سمت قدراته الشخصيّة، وذلك بالرّغم من إمتلاكه سلاح التوقيع، طالما أنّ سلطة منح الثقة تبقى بيدها.








– 7 –

بموجب الفقرة 4 من المادة 53، يصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

بالرّغم من أنّ صياغة هذه المادّة قد جاءت بشكلٍ يوحي بأنّ ما تنيطه برئيس الجمهوريّة من مهمّة يتّسم بطابع "الإلزام" أكثر ممّا يتّسم بطابق الصلاحيّة" أو "السلطة" باستعمالها كلمة "يُصدر"، فإنّه يبقى أنّ مهمّة إصداره مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء تكاد تكون آخر الصلاحيّات المناطة به – بالإضافة إلى حقه برئاسة مجلس الوزارء دون أن يُشارك في التصويت – (باعتبار أنّ سائر صلاحيّاته الأخرى فهي إمّا تتّسم بطابع الإلزام، وإمّا هي متعلقة بأمور تفصيليّة لا علاقة لها بسياسة البلاد، وإمّا متّسمة بطابع بروتوكولي).

فبالرّغم من أنّ رئيس الجمهوريّة، بموجب المادّة 53، مكلف دستوريّاً بموجب إصدار مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، إلا أنّه يبقى له، بل عليه، الإمتناع عن توقيعه طالما أنّه، بتقديره، كرئيس للدولة، يعتبر أنّه لا تتوافر فيه الشروط الدستوريّة والميثاقيّة والواقعيّة المفروض عليه إحترامها تحت طائلة إعتباره مسؤولاً عن خرق الدستور :

فهو رئيس الدّولة

أي رئيس الدولة بسلطاتها ومؤسّساتها وأجهزتها كافة، الدستوريّة منها والسياسيّة والمدنيّة والعسكريّة.

وعلى رئيس الدّولة واجب المراقبة والتوجيه والتصويب، والمحافظة على القواعد والأسس التي تقوم عليها الدولة التي يرأسها وعلى وحدتها وتماسكها وسلامتها وأمنها واستقرارها على الأصعدة كافة، وذلك عبر السهر على تطبيق أحكام دستورها وميثاقها الوطني.

وهو رئيس الدّولة الموكول إليه
السهر على إحترام الدستور،

وإنّ دستور الدولة الموكول إليه واجب السهر على إحترامه ينصّ على أنّه لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وعلى أنّ الطوائف تُمثَّّل بصورة عادلة في تشكيل الحكومة، وعلى أنّ مجلس الوزراء، المفروض تمثيل الطوائف فيه بصورة عادلة، هو الذي يقوم بتولي السلطة الإجرائيّة وفقاً لأحكام الدستور وبوضع وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات.


وإنّ سهر رئيس الدولة على الدستور يعني سهره على أن تكون أحكام هذا الدستور محترمة، بكافة بنودها، في مضمون المرسوم الموكول إليه إصداره، أي في "التشكيلة" الحكوميّة المعروضة عليه، طالما أنّ هذه التشكيلة ستتولى سلطة دستوريّة محوريّة وموجبات دستوريّة أساسيّة ومتعدّدة مكلف بالسهر على إحترامها، وإنّ أداءها لموجباتها الدستوريّة هذه تبقى مرتبطة بشكلٍ مباشرٍ "بالتشكيلة الوزاريّة"، أشخاصاً وتوجهات، ممّا يوليه واجب وحق التدخل في تفاصيلها إنطلاقاً من واجبه وحقه بالسهر على إحترام الدستور : ذلك أنّ واجب إحترام الدستور يتضمّن واجب السهر على تطبيقه، وأنّ السهر على تطبيقه يفترض السهر على أن تكون "التشكيلة الحكوميّة" ملائمة، في تشكيلتها، لحسن تطبيقه، ليس فقط ببنوده المكتوبة، بل أيضاً ولا سيّما، في بنوده غير المكتوبة المتمثلة ببنود الميثاق الوطني ومقتضيات العيش المشترك الذي لا شرعيّة لأي سلطة تناقضه.

وهو الرئيس الموكول إليه
واجب السهر على وحدة الوطن،

وإنّ السهر على وحدة الوطن تعني، بالأولويّة، السهر على توافق بنيه وعلى عيشهم المشترك الآمن في الوطن المشترك، عيشاً مشتركاً فعليّاً على الأصعدة كافة، وبالأولويّة، على صعيد عيش الحياة الوطنيّة والسياسيّة والعامّة عيشاً مشتركاً فعليّاً عادلاً ومتعادلاً، عبر السلطة الإجرائيّة المولجة وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ممّا يولي رئيس الجمهوريّة حق بل واجب الإمتناع عن إصدار مرسوم تشكيل الحكومة إذا كان من شأنه أن يعرّض وحدة الوطن للخطر بسبب عدم إحترام القواعد الدستوريّة والميثاقيّة فيه، لأنّ التغاضي عن هذا التعرّض يشكّل خرقاً للدستور من قبله باعتباره مولجاً "المحافظة على وحدة الوطن".

إنّ ممارسة رئيس الجمهوريّة لموجباته الدستوريّة هذه، كرئيس للدولة ساهرٍ على إحترام دستورها ومحافظٍ على وحدة الوطن، وفقاً لمعايير ضميره الوطني والشخصي، يمنحه هامش كبير من حريّة التصرّف في تسيير عمليّة تشكيل الحكومة ليس فقط عبر الإمتناع عن توقيع مرسوم تشكيلها بما يتعارض مع ما اؤتمن عليه تحت طائلة تحمّل تبعة خرقه للدستور، بل أيضاً عبر توجيه رسالة إلى مجلس النوّاب يضعه فيها أمام مسؤوليّاته الوطنيّة، وبتوجّهه إلى الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة وجعله حكماً محاسباً لتصرّف الذين إنتدبهم لتمثيله وإدارة شؤونه.

إنّ إمساك رئيس الدولة "بورقة" الإمتناع عن التوقيع – إضافةً إلى توجيه رسالة توجيه بل تحذير إلى مجلس النوّاب واحتكامه إلى الشعب – من شأنه أن يجعل القوى السياسيّة، المفروض عليها واجب تحقيق التوافق فيما بينها، مضطرّة للوصول إلى هذا التوافق تحت طائلة المسؤوليّة الوطنيّة والمحاسبة الشعبيّة والضميريّة والتاريخيّة.



ما لم ؟

ما لم يكن القصد منصرفاً، أصلاً، إلى إحداث الفراغ : وهي مسألة أخرى لا مجال للغوص في مناقشتها في معرض هذا البحث.

– 8 –

إنّ لبنان، بحكم كونه وطناً تعدديّاً، لا تستقيم فيه إلا السياسة التوافقيّة؛

وإنّ السياسة التوافقيّة لا تقوم إلا بحكومات توافقيّة؛

وإنّ الحكومات التوافقيّة تفترض، لتحققها، توافق المكوّنات الوطنيّة في البلاد على تشكيلها؛

وإنّ توافق المكوّنات الوطنيّة على تشكيلها يفترض حدّاً أدنى، لدى ممثليها، من التنازلات المتبادلة إنطلاقاً من المسؤوليّة الوطنيّة ومن الواقعيّة السياسيّة على حدَِّ سواء.

ولكن ما هو المقصود بالحكومة التوافقيّة ؟

فهل هي حكومة يُشارك في تشكيلها، بصورة حكميّة، كل من الأكثريّة والأقليّة النيابيّة، بحيث ينتقي دور المعارضة الأساسي في أي حكم ديموقراطي برلماني ؟

ليس المقصود، بالتأكيد، بالحكومة التوافقيّة، مشاركة الأكثريّة والأقليّة النيابيّة والسياسيّة في تشكيلها، بل تمثيل كل مكوّن من المكوّنات الوطنيّة، فيها، بمن يُمثِل الأكثريّة في داخله، بحيث يتمّ التوافق داخل الحكومة، بين أكثريّات المكوّنات الوطنيّة، فتقوم أقليّاتها بدور المعارضة، مجتمعةً إذا شاءت، أو منفردة.

إنّ أي مسلك آخر في تشكيل الحكومة في لبنان التعدّدي يشكل نقضاً وخرقاً للميثاق الوطني ولمقتضيات العيش المشترك المكرّس دستوريّاً وميثاقيّاً، وتعريضاً لوحدة الوطن التعدّدي واستقراره وأمنه للخطر، وبالتالي لديمومة تعدديّته، سر فرادته، طالما أنّه يؤدّي، عمليّاً، إلى إقصاء واحد أو أكثر من مكوّناته عن مجلس الوزراء متولي السلطة التنفيذيّة في البلاد.







– 9 –

بناءً على كل ما تقدّم،

فإنّ الخيار المتاح أمام رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة المكلف يبقى بين :

-           تشكيل حكومة "أمر واقع"، بمعنى تجاوز مطالب سائر الأفرقاء في تشكيلها، وذلك إنطلاقاً من مبدأ وجوبيّة وحتميّة قيام حكومة كاملة الصلاحيّة تدير شؤون البلاد، مع ما يمكن أن تتسبّب به مثل هذه التشكيلة من إرتدادات قد تكون خطيرةً وماسّةً بوحدة الوطن ذاتها، أساس قيامه واستمراره، مما يجعلها متعدّية، بالتالي، للفائدة المرتجاة من إصدارها، بل متعارضة معها.

-           أو الإستمرار في السعي لإنتاج حكومة وفاق وطني، وفق المفهوم المحدّد أعلاه، مع ما يمكن أن ينتج عن الفراغ المتمادي من أضرار على أكثر من صعيد؛ وهو الخيار الذي قد يكون أهون الشرّين، وذلك : لأنّه يترك المجال مفتوحاً، إمّا لإمكانيّة التوصل، بنتيجة المطاف، إلى التوافق المطلوب تحت وطأة عامل الإرهاق، أو الضرورة، أو المصلحة، أو بنتيجة تغيّر الظروف والمعطيات الداخليّة و/أو الخارجيّة؛ وإمّا إلى إنعقاد مؤتمر وطني ينتج عنه توافقٌ أشمل وأعمق وأبقى حول الأسس التي يقتضي أن يقوم عليه نظام هذا الوطن التعددي، على ضوء التجارب التي عاشها، منذ نشأته، في ظل نظامه الحالي، رغم التعديلات الدستوريّة التي أدخلت عليه، وربّما، بل الأرجح والأصحّ، بسببها !


  بيروت في 26/11/2013





     القاضي لبيب زوين
الرّئيس شرفاً لدى محكمة التمييزبحث في آليّة وأُسُس تشكيل الحكومة بعد إتفاق الطائف


– 1 –

إنّ لبنان وطن تعدّدي مبنيّ على ميثاق وطني قائم على العيش المشترك والمشاركة العادلة المتوازنة بين مكوّنَيْه، بتلاوينهما كافة، في إدارته.

– 2 –

إنّ تشكيل الحكومات في لبنان لا بدّ من أن ينطلق من هذا الميثاق التكويني التأسيسي الذي هو بمثابة الدستور غير المكتوب، بل الدستور الحقيقي الأساس الذي لم يأتِ الدستور المكتوب إلا تكريساً لمبادئه.

– 3 –

لقد نصّ دستور لبنان  :

-      على أنّ لبنان "جمهوريّة ديموقراطيّة برلمانيّة" (مقدّمة الدستور).
-      وعلى أنّ المقاعد النيابيّة "توزّع بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين طوائف كل من الفئتين" (المادّة 24 منه).
-      وعلى أنّ "طوائفه تُمثّل بصورة عادلة في تشكيل الوزارة" (المادّة 95).
-      وعلى أنّه "على الحكومة أن تتقدّم من مجلس النوّاب ببيانها الوزاري لنَيل الثقة".

ينتج عمّا تقدّم :

أنّ النظام اللبناني، وبحكم أحكام الدستور ذاتها، فضلاً عن ميثاقه الوطني، هو نظام ديموقراطي برلماني مختلط يزاوج  :

-         بين النظام الديموقراطي البرلماني الفدرالي التشريعي الطوائفي (وليس الطائفي) – ديموقراطيّة الجماعات – طالما أنّه يشترط توزيع المقاعد النيابيّة بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيّاً بين الطوائف، وتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
-         وبين النظام الأكثري التنافسي طالما أنّه لا يشترط أن تنال الحكومة ثقة الأكثريّة داخل كل مكوّن من مكوّني المجلس بل يكتفي باشتراط نيلها ثقة الأكثريّة من مجموع الأعضاء المكوّن منهم المجلس دون النظر إلى الإنتماءات الطائفيّة لمانحيها الثقة.

– 4 –

بموجب الفقرة 4 من المادّة 53 يُصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

إلاّ إنه ينصّ في الفقرة 2 من المادّة 64 أنّ الحكومة لا تمارس صلاحيّاتها كاملة، بالرّغم من صدور مرسوم تشكيلها، إلا بعد نيلها ثقة مجلس النوّاب.

بمعنى أنّه إذا كان لا حكومة بدون صدور مرسوم بتشكيلها، فإنّه لا حكومة مكتملة الصلاحيّة إلا إذا نالت ثقة مجلس النوّاب.

ينتج عمّا تقدّم،

أنّ إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، لكي يكون منتجاً لمفاعيله الدستوريّة، يقتضي أن يكون محققاً، فعليّاً، لا تسميةً، الإنتقال من حالة الحكومة المستقيلة المنقوصة الصلاحيّة إلى حالة الحكومة الكاملة الصلاحيّة؛ الأمر الذي يستوجب، لتحققه، أن تأتي التشكيلة التي يُخرجها مرسوم التشكيل مُعَبِّرةً عن التوجهات والمطالب التي أظهرتها الإستشارات النيابيّة التي أجراها رئيس الحكومة المكلف لكي تتمكّن من نيل ثقة الأكثريّة في مجلس النوّاب بحيث يُحقق إصدار مرسوم التشكيل وظيفته ومفاعيله كاملة.

– 5 –

بموجب المادتين 17 و65 تُناطُ السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء يتولاها وفقاً لأحكام الدستور.

وتهيُّباً للصلاحيّات الهامّة والأساسيّة المناطة به، وعلى رأسها "وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات"، وإنصياعاً لمقتضيات الميثاق الوطني والعيش المشترك وما تفرضه من مشاركة فعليّة فاعلة ومتعادلة في إدارة شؤون البلاد.

فقد إشترطت المادّة 95 بأن تتمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة، بحيث أنّ مجلس الوزراء يكون قد أضحى، بموجب الدستور المرعي الإجراء، بمثابة "المجلس التمثيلي للطوائف" في السلطة الإجرائيّة.




ينتج عمّا تقدّم،

‌أ.          وجوب أن يكون تمثيل الطائفة (المجتمع) في مجلس الوزراء تمثيلاً صحيحاً بواسطة ممثليها الفعليين.

‌ب.     وأن يكون هذا التمثيل فاعلاً بحيث يكون الممثل مؤهّلاً للقيام بمهمّة "وضع السياسة العامّة للدولة في جمسع المجالات" ... وهو عمل سياسي بامتياز يُفترض بمن يتولاه أن يكون متعاطياً في الشأن العام متمرّساً في العمل السياسي كي يتمكن من أداء مهامه عن علم وإطلاع وخبرة.

‌ج.      وأن يتمّ إنتقاء الوزير بالأفضليّة  :

-      إمّا من بين النوّاب أي من بين الذين إختارهم أبناء طائفتهم بنتيجة عمليّة إنتخابيّة ديموقراطيّة عبر الإنتخابات التشريعيّة كممثلين عنهم في مجلس النوّاب، كي يكون مسؤولاً تجاههم عن أدائه الوزاري، وخاضعاً، لاحقاً، لمحاسبتهم المباشرة، وهو ما لا يكون متحققاً في شخص الوزير غير النائب وغير المشارك في الحياة السياسيّة العمليّة وفي المنافسة الإنتخابيّة الديموقراطيّة.
-      وإمّا من بين الذين يرشّحهم الحزب، أو التكتل النيابي، بحيث يكون ملتزماً بتوجهات هذا الحزب أو هذا التكتل ومسؤولاً أمامه.

على أنّ ذلك لا يعني إستبعاد ما أجازه الدستور من إنتقاء وزراء من خارج مجلس النوّاب ضمن حدود معيّنة، أو الإستبعاد، بالمطلق، تشكيل حكومة ممّا يسمّى بـ "التكنوقراط" في ظروف إستثنائيّة وعند الضرورة.

أمّا إعتماد مبدأ فصل الوزارة عن النيابة، المعتمد في الأنظمة الرئاسيّة أو نصف الرئاسيّة حيث يكون الوزير تابعاً لرئيس الدولة ومعاوناً له ومسؤولاً تجاهه، فإنّه لا يجد ما يُبرّره أو يجيز إعتماده في ظل نظام ديموقراطي برلماني حصر دستوره ممارسة السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء مجتمعاً واضعاً بين يديه تقرير وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ما لم يصبح العمل السياسي قائماً على أساس حزبي منظّم بالإستناد إلى قانون حديث للأحزاب، حيث يضحى المرشّح غير النائب للمنصب الوزاري من قبل حزبه، مختاراً بصفته الحزبيّة وليس بصفته الشخصيّة المجرّدة، ومتمتعاً بصفة تمثيليّة، وخاضعاً لتوجيهات الحزب الذي رشّحه وملزماً بتنفيذ برامجه سياسته، وخاضعاً بالتالي لمراقبته ومحاسبته، علماً أنّ الحزب لم يكن ليرشّحه اصلاً، لولا اختباره له وتيقّنه من خبرته ومن تمرّسه في الشأن السياسي والعام من خلال عمله ونشاطه داخل الحزب.



أمّا بالنسبة للسبب الموجب الفعلي لاشتراط المادة 95 تمثيل الطوائف في تشكيل الوزارة بصورة عادلة، فلا يقتضي إعتباره سبباً "طائفيّاً" بالمعنى السلبي المُدان لمفهوم "الطائفيّة"، – وإن أوحى النص بعكس ذلك بقوله أنّه "لمرحلة إنتقاليّة" – لأنّ المقصود بالطوائف ليس هو سوى المجتمعات أو المكوّنات المؤلف منها شعب الوطن الواحد : ذلك أنّ الطائفة، في المجتمع الشرقي، تتقمّص في المجتمع الذي يعتنقها، ثقافة وتقاليد وممارسات ونمط عيش وفلسفة حياة، فتضحى متأصّلة في جذوره التاريخيّة والجغرافيّة والإنسانيّة بحيث تتعدّى آثارها فيه حدود الشكل إلى الجوهر الحياتي للفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، ممّا يوجب مشاركتها، "كمجتمعات" لا "كطوائف" في السلطة الإجرائيّة المناط بها إدارة شؤون البلاد.

– 6 –

بموجب الفقرة 2 من المادة 64 يُجري رئيس مجلس الوزراء الإستشارات النيابيّة لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهوريّة مرسوم تشكيلها.

إنّ المهمّة الموكولة إلى الرّئيس المكلف تشكيل الحكومة هي مهمّة محوريّة وهامّة، بقدر ما هي دقيقة، في بلد لا يقوم فيه العمل السياسي على أساس حزبي، بل تتشتّت فيه القوى السياسيّة بين أطراف سياسيّة متعدّدة غير واضحة وغير مستقرّة في مواقفها السياسيّة؛ ففي الوقت الذي يملك سلطة توقيع مرسوم تشكيل الحكومة مع رئيس الجمهوريّة، فإنّه يبقى عليه ضمان نيل حكومته ثقة مجلس النوّاب، ممّا يجعل من سلطته بإصدار المرسوم محدودة، عمليّاً، ومحكومة بمدى نجاحه بتحقيق التوافق حول حكومة تضمن، من جهة، نيل ثقة المجلس، ومن جهة ثانية المحافظة على الوفاق الوطني – أساس قيام الوطن – ضماناً لاستقرار هذا الوطن ووحدته وتعدّديته.

إنّ إلتقاء الكتل النيابيّة على شخص الرّئيس المكلف، وإن عبّر عن ثقة هذه الكتل بشخصه وشكّل تفويضاً له بالسعي لتشكيل الحكومة، إلا أنّ مصالحها المتضاربة، في عملية التشكيل، تجعل تكتل هذه العمليّة مرتهنة بإمكانيّة التوفيق بين تلك المصالح، وهي مهمّة يستحيل تحقيقها من دون تعاونها، مهما سمت قدراته الشخصيّة، وذلك بالرّغم من إمتلاكه سلاح التوقيع، طالما أنّ سلطة منح الثقة تبقى بيدها.








– 7 –

بموجب الفقرة 4 من المادة 53، يصدر رئيس الجمهوريّة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة.

بالرّغم من أنّ صياغة هذه المادّة قد جاءت بشكلٍ يوحي بأنّ ما تنيطه برئيس الجمهوريّة من مهمّة يتّسم بطابع "الإلزام" أكثر ممّا يتّسم بطابق الصلاحيّة" أو "السلطة" باستعمالها كلمة "يُصدر"، فإنّه يبقى أنّ مهمّة إصداره مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء تكاد تكون آخر الصلاحيّات المناطة به – بالإضافة إلى حقه برئاسة مجلس الوزارء دون أن يُشارك في التصويت – (باعتبار أنّ سائر صلاحيّاته الأخرى فهي إمّا تتّسم بطابع الإلزام، وإمّا هي متعلقة بأمور تفصيليّة لا علاقة لها بسياسة البلاد، وإمّا متّسمة بطابع بروتوكولي).

فبالرّغم من أنّ رئيس الجمهوريّة، بموجب المادّة 53، مكلف دستوريّاً بموجب إصدار مرسوم تشكيل الحكومة بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، إلا أنّه يبقى له، بل عليه، الإمتناع عن توقيعه طالما أنّه، بتقديره، كرئيس للدولة، يعتبر أنّه لا تتوافر فيه الشروط الدستوريّة والميثاقيّة والواقعيّة المفروض عليه إحترامها تحت طائلة إعتباره مسؤولاً عن خرق الدستور :

فهو رئيس الدّولة

أي رئيس الدولة بسلطاتها ومؤسّساتها وأجهزتها كافة، الدستوريّة منها والسياسيّة والمدنيّة والعسكريّة.

وعلى رئيس الدّولة واجب المراقبة والتوجيه والتصويب، والمحافظة على القواعد والأسس التي تقوم عليها الدولة التي يرأسها وعلى وحدتها وتماسكها وسلامتها وأمنها واستقرارها على الأصعدة كافة، وذلك عبر السهر على تطبيق أحكام دستورها وميثاقها الوطني.

وهو رئيس الدّولة الموكول إليه
السهر على إحترام الدستور،

وإنّ دستور الدولة الموكول إليه واجب السهر على إحترامه ينصّ على أنّه لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وعلى أنّ الطوائف تُمثَّّل بصورة عادلة في تشكيل الحكومة، وعلى أنّ مجلس الوزراء، المفروض تمثيل الطوائف فيه بصورة عادلة، هو الذي يقوم بتولي السلطة الإجرائيّة وفقاً لأحكام الدستور وبوضع وتنفيذ السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات.


وإنّ سهر رئيس الدولة على الدستور يعني سهره على أن تكون أحكام هذا الدستور محترمة، بكافة بنودها، في مضمون المرسوم الموكول إليه إصداره، أي في "التشكيلة" الحكوميّة المعروضة عليه، طالما أنّ هذه التشكيلة ستتولى سلطة دستوريّة محوريّة وموجبات دستوريّة أساسيّة ومتعدّدة مكلف بالسهر على إحترامها، وإنّ أداءها لموجباتها الدستوريّة هذه تبقى مرتبطة بشكلٍ مباشرٍ "بالتشكيلة الوزاريّة"، أشخاصاً وتوجهات، ممّا يوليه واجب وحق التدخل في تفاصيلها إنطلاقاً من واجبه وحقه بالسهر على إحترام الدستور : ذلك أنّ واجب إحترام الدستور يتضمّن واجب السهر على تطبيقه، وأنّ السهر على تطبيقه يفترض السهر على أن تكون "التشكيلة الحكوميّة" ملائمة، في تشكيلتها، لحسن تطبيقه، ليس فقط ببنوده المكتوبة، بل أيضاً ولا سيّما، في بنوده غير المكتوبة المتمثلة ببنود الميثاق الوطني ومقتضيات العيش المشترك الذي لا شرعيّة لأي سلطة تناقضه.

وهو الرئيس الموكول إليه
واجب السهر على وحدة الوطن،

وإنّ السهر على وحدة الوطن تعني، بالأولويّة، السهر على توافق بنيه وعلى عيشهم المشترك الآمن في الوطن المشترك، عيشاً مشتركاً فعليّاً على الأصعدة كافة، وبالأولويّة، على صعيد عيش الحياة الوطنيّة والسياسيّة والعامّة عيشاً مشتركاً فعليّاً عادلاً ومتعادلاً، عبر السلطة الإجرائيّة المولجة وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات، ممّا يولي رئيس الجمهوريّة حق بل واجب الإمتناع عن إصدار مرسوم تشكيل الحكومة إذا كان من شأنه أن يعرّض وحدة الوطن للخطر بسبب عدم إحترام القواعد الدستوريّة والميثاقيّة فيه، لأنّ التغاضي عن هذا التعرّض يشكّل خرقاً للدستور من قبله باعتباره مولجاً "المحافظة على وحدة الوطن".

إنّ ممارسة رئيس الجمهوريّة لموجباته الدستوريّة هذه، كرئيس للدولة ساهرٍ على إحترام دستورها ومحافظٍ على وحدة الوطن، وفقاً لمعايير ضميره الوطني والشخصي، يمنحه هامش كبير من حريّة التصرّف في تسيير عمليّة تشكيل الحكومة ليس فقط عبر الإمتناع عن توقيع مرسوم تشكيلها بما يتعارض مع ما اؤتمن عليه تحت طائلة تحمّل تبعة خرقه للدستور، بل أيضاً عبر توجيه رسالة إلى مجلس النوّاب يضعه فيها أمام مسؤوليّاته الوطنيّة، وبتوجّهه إلى الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة وجعله حكماً محاسباً لتصرّف الذين إنتدبهم لتمثيله وإدارة شؤونه.

إنّ إمساك رئيس الدولة "بورقة" الإمتناع عن التوقيع – إضافةً إلى توجيه رسالة توجيه بل تحذير إلى مجلس النوّاب واحتكامه إلى الشعب – من شأنه أن يجعل القوى السياسيّة، المفروض عليها واجب تحقيق التوافق فيما بينها، مضطرّة للوصول إلى هذا التوافق تحت طائلة المسؤوليّة الوطنيّة والمحاسبة الشعبيّة والضميريّة والتاريخيّة.



ما لم ؟

ما لم يكن القصد منصرفاً، أصلاً، إلى إحداث الفراغ : وهي مسألة أخرى لا مجال للغوص في مناقشتها في معرض هذا البحث.

– 8 –

إنّ لبنان، بحكم كونه وطناً تعدديّاً، لا تستقيم فيه إلا السياسة التوافقيّة؛

وإنّ السياسة التوافقيّة لا تقوم إلا بحكومات توافقيّة؛

وإنّ الحكومات التوافقيّة تفترض، لتحققها، توافق المكوّنات الوطنيّة في البلاد على تشكيلها؛

وإنّ توافق المكوّنات الوطنيّة على تشكيلها يفترض حدّاً أدنى، لدى ممثليها، من التنازلات المتبادلة إنطلاقاً من المسؤوليّة الوطنيّة ومن الواقعيّة السياسيّة على حدَِّ سواء.

ولكن ما هو المقصود بالحكومة التوافقيّة ؟

فهل هي حكومة يُشارك في تشكيلها، بصورة حكميّة، كل من الأكثريّة والأقليّة النيابيّة، بحيث ينتقي دور المعارضة الأساسي في أي حكم ديموقراطي برلماني ؟

ليس المقصود، بالتأكيد، بالحكومة التوافقيّة، مشاركة الأكثريّة والأقليّة النيابيّة والسياسيّة في تشكيلها، بل تمثيل كل مكوّن من المكوّنات الوطنيّة، فيها، بمن يُمثِل الأكثريّة في داخله، بحيث يتمّ التوافق داخل الحكومة، بين أكثريّات المكوّنات الوطنيّة، فتقوم أقليّاتها بدور المعارضة، مجتمعةً إذا شاءت، أو منفردة.

إنّ أي مسلك آخر في تشكيل الحكومة في لبنان التعدّدي يشكل نقضاً وخرقاً للميثاق الوطني ولمقتضيات العيش المشترك المكرّس دستوريّاً وميثاقيّاً، وتعريضاً لوحدة الوطن التعدّدي واستقراره وأمنه للخطر، وبالتالي لديمومة تعدديّته، سر فرادته، طالما أنّه يؤدّي، عمليّاً، إلى إقصاء واحد أو أكثر من مكوّناته عن مجلس الوزراء متولي السلطة التنفيذيّة في البلاد.







– 9 –

بناءً على كل ما تقدّم،

فإنّ الخيار المتاح أمام رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة المكلف يبقى بين :

-           تشكيل حكومة "أمر واقع"، بمعنى تجاوز مطالب سائر الأفرقاء في تشكيلها، وذلك إنطلاقاً من مبدأ وجوبيّة وحتميّة قيام حكومة كاملة الصلاحيّة تدير شؤون البلاد، مع ما يمكن أن تتسبّب به مثل هذه التشكيلة من إرتدادات قد تكون خطيرةً وماسّةً بوحدة الوطن ذاتها، أساس قيامه واستمراره، مما يجعلها متعدّية، بالتالي، للفائدة المرتجاة من إصدارها، بل متعارضة معها.

-           أو الإستمرار في السعي لإنتاج حكومة وفاق وطني، وفق المفهوم المحدّد أعلاه، مع ما يمكن أن ينتج عن الفراغ المتمادي من أضرار على أكثر من صعيد؛ وهو الخيار الذي قد يكون أهون الشرّين، وذلك : لأنّه يترك المجال مفتوحاً، إمّا لإمكانيّة التوصل، بنتيجة المطاف، إلى التوافق المطلوب تحت وطأة عامل الإرهاق، أو الضرورة، أو المصلحة، أو بنتيجة تغيّر الظروف والمعطيات الداخليّة و/أو الخارجيّة؛ وإمّا إلى إنعقاد مؤتمر وطني ينتج عنه توافقٌ أشمل وأعمق وأبقى حول الأسس التي يقتضي أن يقوم عليه نظام هذا الوطن التعددي، على ضوء التجارب التي عاشها، منذ نشأته، في ظل نظامه الحالي، رغم التعديلات الدستوريّة التي أدخلت عليه، وربّما، بل الأرجح والأصحّ، بسببها !


  بيروت في 26/11/2013





     القاضي لبيب زوين
الرّئيس شرفاً لدى محكمة التمييز

No comments:

Post a Comment