Saturday, February 15, 2014

ثلاثية "مفهوم الملجأ": المصير والقلق والفناء المارونية لم تعد أم الصبي طباعة ع- ع+ باسم الراعي تاريخ المقال: 06-02-2014 02:13 AM




ثلاثية "مفهوم الملجأ": المصير والقلق والفناء المارونية لم تعد أم الصبي

طباعة  ع- ع+
باسم الراعي
تاريخ المقال: 06-02-2014 02:13 AM

^إن المارونية ربطت وجدانها بعد 1920 بدولة لبنان باعتبار أن هذه الدولة هي انجازها على قاعدة وجدانها، لكن المارونية لم تنثلاثية "مفهوم الملجأ": المصير والقلق والفناء المارونية لم تعد أم الصبيتبه إلى أن الدولة حيز محايد لا هوية لها... ولذلك تتحمل المارونية مسؤولية أزمتها
ربما يخالفني البعض على ما ستنتهي إليه محاولتي هذه، لكن سلوك طريق النقد الفكري يحتّم علي أن أضع ما أعتقد أنه يشكّل عائقًا أمام مستقبل المارونية. وهذا العائق يرشدني إليه حرف الجر "في" الذي لم أجد بديلاً عنه للتعبير عما يعنيه حرف "durch" في اللغة الألمانية، وهو حرف يشير إلى العبور عبر شيء ما للانتقال من حال إلى حال أخرى أو من مكان إلى مكان آخر.
المارونية أمام عائق كبير نحو المستقبل لأنها تحاول الاسترشاد إلى المستقبل في السعي إلى مفاهيم - ملجأ. و«المفهوم - الملجأ» عائق أمام المستقبل، لأنه مفهوم يجمّد الذات في ما يعترضها من أزمات ويجعلها تنتظر في حالٍ من انكفاء إلى حدود الاستسلام للمحافظة على الذات. ذلك ما يقضي على الذات في ذاتها وبالتالي يقضي عليها تاريخيًا.
وللإيضاح، إن «المفهوم - الملجأ» لا تصل إليه الذات من خلال فعل تنظيري بل من خلال الواقع التاريخي الذي يفرض عليها أن تجد جوابًا عن عجزها عن مواجهة الأزمات. فهي إذا لم تبتكر رؤية للخروج من الأزمات تجدها أقرب إلى البحث لذاتها عن ملجأ لمواجهة الأحداث. والملجأ يبدأ في مفهومٍ يتحوّل سجنًا في الواقع.
ومن «المفاهيم - الملجأ» التي مرت وتمر في نفقها المارونية، خصوصًا في الزمن الحاضر، أي منذ الحرب اللبنانية وحتى يومنا، ممكن اختصارها بثلاثة: المصير، والإحباط، والقلق من الفناء الوجودي.
هذه الثلاثية لا تحتاج إلى جهد للاستدلال عليها، فالمصير لجأت إليه المارونية السياسية، برغم واقعية الأحداث يومها، لأنها لم تجد جوابًا على متطلبات المرحلة التي كانت تقتضي منها أن تسلّم بأن الدولة التي صنعها الموارنة لم يعد لهم السيادة عليها. فعدم قبولهم بالتعديل فرض عليهم واقعًا لم يجد له غير «مفهوم - الملجأ»: المصير.
وبعد الطائف، لمّا استفاق الموارنة على أن الدولة صارت عامل تغريبٍ لهم، كانوا بحاجة إلى «مفهوم - ملجأ» آخر، وسايرهم الآخرون، فأوجدوا لذاتهم الإحباط الذي ركبوا موجته حتى سنة 2005 حيث شعروا ان التاريخ يخرجهم إلى الهواء مجددًّا.
واليوم يجدون أنفسهم على مفترق دقيق، واقع لا مفرّ منه، بحسب ما يُسَوَّقُ له من قِبَل مرتكبيه ومن قِبَل من يحاولون تظهيره على هذا النحو، وهو فناء المسيحية الوجودي في الشرق. ولهذا أيضًا «مفهوم - ملجأ»: القلق من الفناء الوجودي (مع ما يتضمنه هذا المفهوم من تعابير تصفه أو تتصل به).
وبقدر ما تسعى المارونية وراء «مفاهيم - ملجأ»، ستختبر أكثر فأكثر فقدها القدرة على المبادرة في التاريخ. فلمواجهة «المصير» ابتكرت المارونية في الماضي المقاومة المسلحة وبعضاً من المقاومة الفكرية، حتى لاشت نفسها في «حرب الإخوة» وانتقلت إلى زمن "المواجهة السلمية" مع انتظار تبدل في التاريخ. أما المرحلة الحالية فتجتاحها حال من العجز والدوران على الذات والتعثر المقلق.
وهذه الحال تقرر مستقبل المارونية، إذ إنها في سعيها وراء «مفهوم - الملجأ» تجعل مستقبلها أكثر غموضًا، لأن هذا المفهوم سيفككها من الداخل وسيشرذمها أكثر فأكثر بحيث أن كل فرقة من المارونية (وكل ماروني) ستدّعي أنها «الفرقة الناجية»، التي تصطاد الحقيقة في رماد الواقع. بمعنى أن كل واحدة منها تركن إلى ما اعتادت القيام به في الأزمات، محاولة أن تقدم وصفة تكتيكية تعتبرها خشبة خلاص للماورنية.
ما قيل حتى الآن يشير إلى أن مسألة حاسمة تُحْدِث هذا التفكك البنيوي الذي يحتّم اللجوء بالتالي إلى «مفاهيم - ملجأ». والسبب هنا هو تفكك الوجدان الجامع الذي متى أصاب جماعة واستسلمت له سالكةً طرق التكتيك إنما تكتب على ذاتها الفناء الذاتي والهلاك التاريخي.
والمارونية، تتحمل، هي بالدرجة الأولى، مسؤولية بلوغ هذه الحال. وما الأحداث، على رغم واقعيتها وتحدياتها، سوى مناسبة تظهر مدى تلاشي هذا الوجدان أو تماسكه. من هنا، فإن أزمات التاريخ التي تعترض الوجدان تجعله إما أن يقوم بعودة نقدية للذات فيجدّد نسيجه الداخلي والاجتماعي، وإما أن يستسلم لحِيَل الوجدان. والاستسلام لحِيَل الوجدان يعني الاكتفاء بالجزئيات والتخلي عمّا يجمع هذا الوجدان ويحركه.
هذا هو السبب وراء سعي المارونية إلى «مفاهيم - ملجأ»، فهي تعيش حالاً من تلاشٍ على مستوى الوجدان لمصلحة الانجرار للجزئيات، على رغم أهميتها. وهذا أمر لا خلاف فيه ما دام الواقع الماروني يشير بوضوح إلى تشظٍ يصعب جمعه. أما ما يقوم وراء هذا التلاشي، فهي في نظري معادلة أدخلت المارونية ذاتها فيها بوعي أم بغير وعي، فلا جواب نهائياً على ذلك، لكن نتائج هذه المعادلة لا نقاش فيها إذ إن المارونية متشظية بسببها.
ما هي هذه المعادلة؟
هناك تهمة ملقات على المارونية وهي أنها "أسقطت هويتها وتاريخها على لبنان". وإن كنت أرى أن هذه المعادلة تحتاج إلى تبصر كاف ونقد تاريخي، إلا أنها سبب رئيسي في تشظي المارونية في الزمن الراهن. إن المارونية ربطت وجدانها بعد 1920 بدولة لبنان، باعتبار أن هذه الدولة هي إنجازها على قاعدة وجدانها. لكن المارونية لم تتنبه إلى أن الدولة حيز محايد لا هوية له، لأنها وجدت لتكون أفق الهويات وإن اعترفت بها أو حتى لو ميّزت واحدة عن أخرى، تبقى على حيادية؛ إذ إن الواجب السياسي واكراهات التاريخ وسيره تملي عليها ذلك. والدولة لا تاريخ لها أيضًا غير تاريخها كدولة وقصة أبطال تأسسيها (هذا ما نجده لدى مؤلفين موارنة وغيرهم أرّخوا لتاريخ الدولة لا للطائفة). ظلت المارونية على هذا الاعتقاد حتى العام 1975 وفعليًا حتى اتفاق الطائف.
والسؤال الذي يطرح: ماذا كان يحدث على مستوى الوجدان في هذا المدى التاريخي بين 1920 و1990؟ كان وجدان الجماعة يتفكك في الدولة، والمارونية كانت غافلة عن أن دفاعها عن الدولة لا يعني بالضرورة صونًا للوجدان أو مأسسة له. نتج من ذلك أن الوجدان تلاشى لتحل محلّه الكثرة الجزئية ولعبة السلطة بين الموارنة إلى حدود الاقتتال في العام 1975. وجدت المارونية أن الدولة على المحك، لكن في الواقع كان الوجدان هو المهدَّد، فلم تحسن القراءة ربما لأن الوقت لم يكن لمصلحتها حتى تبحث عنه في شتاتها، فلجأت إلى المصير الذي اقترن بالاستماتة على الصيغة التي، باعتقادهم، تضمن مصيرهم.
بعد الطائف كُرِّس الطلاق بين الوجدان والدولة، فوعت المارونية أن الدولة صارت مجال تغريبٍ لها، وهي تجد ذاتها، أن لا حول لها في ما تصير إليه الدولة، فلم يكن هناك إلأّ الإحباط (هل الإحباط كان سياسيًا فقط أم أصاب الوجدان؟).
واليوم تقف المارونية في تغيرات المنطقة المقلقة تجاه الوجود أمام دولة، تجدها في عجز مستمر، لا بل في إفلاس شبه كامل. دولة غير دولتها التي حلمت بها وقرنت وجدانها بها، مما يضع المارونية أمام مستقبل مبهم ووجدان لا قوة على جمعه، ذلك ما يسبب القلق من الفناء الوجودي.
هل من مجال للإنقاذ؟ سؤال يطرح نفسه ولا جواب مقرّرا عليه، بل هناك واقع يملي على المارونية خيارًا هو التالي: عليها أن تتخلى عن سلوك دروب «المفهوم - الملجأ»، وتقوم، من جهة، بفك الارتباط بين وجدانها والدولة، لا لتعود إلى الوجدان بمعنى تمايز الهوية في زمن تهافت الهويات، بل لتعود إلى ذاتها فتكون لها رؤية لمستقبلها انطلاقًا من وحدة وجدانها. هي بحاجة إلى التفتيش عن سبل تجديد الجماعة في وعيها لذاتها للحد من الدفاع المفرط عن التعددية (وهي تشرذم في الواقع) على أنها دليل ديموقراطية لدى الموارنة. ومن جهة ثانية، تعيد تحديد علاقتها بالدولة على اعتبار أنها دولة وحسب، وتتعامل معها على هذا المستوى، فتطهّر ارتباطها بالدولة على أساس أنها أم الصبي، لعلها تحسن السياسة الواقعية فلا تَتّهِم ذاتها بالتقصير الوجداني تجاه الدولة.
ذلك ما يفرضه واقع المارونية الراهن حتى تقوى على الخروج في هذه المرحلة من تاريخها من نفق «المفهوم - الملجأ» إلى رحب المستقبل الأوسع.

أما من هم أبطال هذه الخطوة؟ فالموضوع يحتاج إلى محاولة أخرى.
هذا المقال نشر في جريدة السفير و نال اعجاب القيمين عليها

No comments:

Post a Comment