Thursday, February 13, 2014

مؤتمر صحافيّ للقاء الأرثوذكسيّ في مناسبة صدور وثيقة البطريركيّة المارونية في بكركي

مؤتمر صحافيّ للقاء الأرثوذكسيّ في مناسبة صدور وثيقة البطريركيّة المارونية في بكركي

تجلّت الوثيقة الصادرة عن دار البطريركيّة المارونية في بكركي، والتي تفضّل صاحب الغبطة البطريرك بشارة الراعي وتلاها، مدخلاً لقراءة تجديديّة - تأسيسيّة للنظام السياسيّ في لبنان. ويجيء هذا المدخل في لحظات تاريخيّة حرجة وموجعة، يمرّ بها الكيان اللبنانيّ كما يمرّ بها المشرق العربيّ من جرّاء العواصف الهوجاء الهابّة في سوريا والعراق قبلها، ونحن على أبواب مؤتمرات تسوويّة، قد تأخذ الشرق الأوسط نحو خريطة سياسيّة جديدة، تشبه إلى حدّ بعيد وكبير الحقبة التي تلازمت مع تأسيس دولة لبنان الكبير، بحيث جاء هذا التأسيس الذي طالب به البطريرك الياس الحويك، جزءًا من الخريطة القديمة التي عرفت بسايكس-بيكو.
ولئن بدت الوثيقة أو المذكّرة محصورة في المدى اللبنانيّ وشؤونه، ولكنّها في عمق رؤيتها تحمل الهمّ المشرقيّ، يقينًا منها بأنّ موقع لبنان بتكوين نظامه السياسيّ يبقى الأفعل في حمل هذا الهمّ، والبوح به بصوت عال. وقد شاء واضعوا هذه المذكّرة أن يستقرئوا الآتيات من الأزمنة، والحاوية للمفردات المتحركة، ويستشرفوا أحداثها بما يمكن أن تحمله من تسويات أو رؤى تسووية، ليعمدوا على البدء بالتركيز في الذات اللبنانيّة محاولة منهم لتجديد التكوين الميثاقيّ الذي هو جوهر لبنان بالعمق السياسيّ والدستوريّ والاقتصاديّ والثقافيّ، فالتكوين الميثاقيّ الذاتيّ والبنيويّ باستطاعته أن يصير عميمًا من خلال رؤية واضحة تتبنّاها الشرائح اللبنانيّة بمختلف أطيافها ونحلها ومللها، بانتمائها للبنان وإخلاصها لجوهره الوجوديّ، بعيدًا عن كلّ شرك، واعتباره "وطنًا نهائيًّا للجميع" انطلاقًا من الثوابت الثلاث: "الحريّة، والمساواة في المشاركة، وحفظ التعدديّة" كما جاء في نصّ الوثيقة.
ويغبطنا في "اللقاء الأرثوذكسيّ"، أن نرى في تلك المذكّرة-الوثيقة مرآة لما سبق أن طرحناه وأكّدنا عليه خلال معركة إقرار مشروع الانتخابات النيابيّة. ذلك أنّ المناصفة الفعليّة التي طالبنا ونطالب بها هي جوهر النظام السياسيّ وتعبّر عن المساواة في المشاركة، كما هي قلب أيّ مشروع انتخابيّ، ومضمون الاستحقاق الحكوميّ. وهذا تكشّف فعليًّا حين طالبت المذكّرة "بوضع قانون انتخابيّ نيابيّ جديد وفق الميثاقيّة اللبنانيّة، بحيث تترجم المشاركة الفاعلة في تأمين المناصفة الفعليّة، والاختيار الحرّ، والمساءلة والمحاسبة، ويؤمّن التنافس الديمقراطيّ، ويلغي فرض نواب على طوائفهم بقوّة تكتّلات مذهبيّة". وممّا لا شكّ فيه أنّ المذكّرة بصرختها وشموليتها، تعيد الاعتبار إلى عمق التوازن العقلانيّ والمجرّد، الذي من شأنه حفظ النسيج السياسيّ بعيدًا عن مبدأ استيلاد المسيحيين في كنف المذاهب الأخرى، إنطلاقًا من علاج الطائفيّة المتلاشية والفوضويّة والمستبيحة للفرادة اللبنانيّة واللاغية للتجانس المنطقيّ والجوهريّ بين المكوّنات، بطائفيّة متوازنة معقلنة ومدوزنة على قياس النظام السياسيّ والتكوين البنيويّ للبنان، فتؤمّن ذلك التجانس البديع وتجوهره، أي تجعله أكثر سطوعًا، بالتأكيد على رسوخ الديمقراطية التوافقيّة، بل على ما يمكن تسميته بالديمقراطية الميثاقيّة والتشاركيّة، بانصبابها العموديّ وعمقها الوجوديّ في البنية اللبنانيّة الصّافية، "فلا يطغى على الحياة السياسيّة عندنا استغلال مبرّح للديمقراطية التوافقيّة" كما جاء في مذكّرة بكركي، ولا يصير ذلك مدعاة "لجعل الانقسامات الخارجيّة تتقاطع مع الانقسامات اللبنانية المزمنة والتركيبة المجتمعيّة التعدديّة، وتتفاعل معها ما يؤدّي إلى تعزيز الصراعات الداخليّة ولجوء فئات لبنانيّة إلى مراجع خارجية للحصول على دعم يقوّي موقعها الداخليّ، وهو ما يدخل لبنان في حلقة مفرغة من النزاعات مع تبدّل مواقع القوى الداخليّة وأدوارها"، كما جاء في وثيقة اللقاء المسيحيّ والتي ساهم اللقاء الأرثوذكسيّ بصياغتها. وفي الإطار عينه، نبّهت المذكّرة إلى خطورة التماهي بين الداخل والخارج، وقالت بأنّ "أيّ مشروع وطنيّ لا يمكن أن يتجذّر في الواقع إلاّ إذا أنتج دولة عادلة وقادرة ومنتجة في كيان مستقرّ يخدم الإنسان"، دولة مطمئنة للجميع، والتي تجعل من إمكانية وضع استراتيجية دفاعيّة لمواجهة المخاطر الحيويّة أمرًا ممكنًا، فتسقط حينئذ ذرائع القوى الداخليّة المبررَّة منها وغير المبررَّة للاستقواء بالخارج الذي يجب أن لا ننسى بأنّه جزء من التاريخ اللبنانيّ، الذي تصرّ بعض القوى على اعتباره قدرًا لا يمكن الخروج منه. ونحن في اللقاء يهمّنا أن نؤكّد على أحقيّة وأهميّة تلك الديمقراطية التشاركيّة المطلّة من زمن التأسيس على حدّ توصيف المذكرة، المكرِّسة للخصوصيّة اللبنانيّة والمحصّنة للكيان بدولة تطمئن الجميع في هذا المحيط المتلاطم. فتكون المناصفة الفعليّة عمادها، وهي مكرَّسة كمبدأ دستوري في المادتين 24، و95 من الدستور، حيث المناصفة معبّرة عن تلك الخصوصيّة في مؤسسات الدولة والإدارات العامة وفي معظم العمل السياسيّ، فضلاً عن "إقرار اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة وتطبيقها"، كما جاء في المذكّرة هما الشرطان الأساسيان لإلغاء الطائفيّة السياسيّة في أوان الرضى الداخليّ، فإزالة الطائفية كما جاء في المذكّرة لا تمسّ بالعدالة والوفاق، بل تنطلق منهما تائقة لتحقيق "دولة المواهب بدلاً من دولة المذاهب". "وإقرار اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة وتطبيقها تؤمّن إدارة أفضل للتنوع في الوحدة وتعزّز المشاركة المحليّة، وتعطي المناطق صلاحيات أوسع"، كما طالبت المذكّرة.
والمذكّرة في قراءتنا تتماهى مع ما كناّ في اللقاء نحذّر منه وهو الافتئات على الدور المسيحيّ في خصوصيّة النظام اللبناني وفرادته وأبعاده التشاركيّة. فالغاية أن لا تتحوّل "الشراكة إلى شرك بدلاً من أن تكون مشاركة، وقد ارتكبت باسمها أكثر من معصية لا سيّما في معرض إناطة السلطة الإجرائيّة بمجلس الوزراء مجتمعًا بعد انتزاعها من رئيس الجمهوريّة الذي كان يتولاّها بمعاونة الوزراء... فالمشاركة الفعليّة في صناعة القرار الوطنيّ تفترض حتمًا رئيسًا قويّا للجمهوريّة بمعايير تمثّل المكون الذي ينتمي إليه" (من وثيقة اللقاء المسيحي)... وهذا أيضًا يصبّ في تأكيد المذكّرة "على ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة كرئيس للدولة وحام للدستور من ضمن المهلة المحددة دستوريًّا وخارج أيّ جدل دستوريّ، وهو الشرط الأساس الذي من دونه لا حضور للدولة ولا انطلاق نحو المستقبل". شرط ذلك أن تتمتّع الطبقة السياسيّة بمختلف رؤاها بالأخلاق الدستوريّة الراقية، وتعمد على تجسيدها في النسيج السياسيّ المتنوّع باحترام المهل الدستوريّة بلا زيف ولا زيغ ولا مروق ولا قفزات تقودنا نحو المجهول أي الفراغ الذي يقتات منه الإرهاب، وهو الذي يعمد مع كل عمليّة إرهابية على تدمير البنية اللبنانية في جوهرها وتكوينها، وتعطيل عمل مؤسساتها. هذا عينًا يفترض من الجميع أن يدركوا بأن بكركي في المذكّرة المقدمة منها تتكلم باسم المسيحيين والمسيحيّة، التي هي مكون جوهريّ وأصيل ليس في لبنان بل في المشرق العربيّ، فلا يجدر بها، أيّ المسيحيّة، أن تبقى ضحيّة استغلال مقيت لإيمان بعضنا بالعروبة وبأننا طائفة اللاطائفيين، أو إيماننا بضرورة أن يبقى لبنان أرض اللقاء بين المسيحيين والمسلمين كإرث حضاريّ للكون كلّه". بل يتطلّب تجسيد تلك الرؤية إزدهارًا كيانيّا ووجوديًّا للمسيحية في لبنان لأنه شرط لوجود الجماعات المسيحية في الكون، كما قال البابا الراحل يوحنّا بولس الثاني. وأي خلل في بنية الميثاق الداخليّ بإمكانه أن يؤول إلى خلل كبير على مستوى النظام السياسيّ في علاقة المكونات ببعضها البعض في المدى الكونيّ كلّه.
تلك الرؤية تقودنا، وفي معرض قراءتنا المؤيدة للمذكرة وبغبطة كاملة، للوقوف عند مفهوم الحياد والتحييد وربط الحركة الميثاقيّة به. إنّ مفهوم التجربة اللبنانيّة بخصوصيّتها الميثاقية وعلاقتها بالخارج تأسّست على مبدأ واضح "لا شرق ولا غرب" كما وصّفت المذكّرة، "بما يعنيه من عدم الالتحاق بمحاور" وهي فلسفة البيان الاستقلاليّ الأوّل، الذي ظهر سنة 1943. هذا التأسيس بجوهره، من شأنه أن يحيّد لبنان عن الصراعات الأمميّة، بمعنى أن يكون جزءًا من صراع المحاور. ولعلّنا، وفي معرض قراءتنا للمذكّرة، قد نقع في التباس نشأ من مزج ضبابيّ بين  الحياد والتحييد، كمفردتين تمتلك كل واحدة منها خصوصيّة سياسيّة مختلفة عن الأخرى. ذلك أنّ التاريخ اللبنانيّ المعاصر، ومنذ نشوء قضيّة فلسطين سنة 1948، والدخول في مضمون الصراع العربيّ-الإسرائيليّ ليس حيديًّا، ولا يمكن له، تاليًا، أن يحيد عن جوهر تلك القضيّة المقدّسة. فإسرائيل- وهذا مبدأ عقيديّ- دولة عدوّة، "حبل بها بالإثم وولدت بالخطيئة" كما كتب المطران جورج خضر. ويستوقفنا في هذا المجال حديث الرئيس سليم الحصّ إلى جريدة "السفير"، الذي اعتبر وفي السياق الميثاقيّ،"بأنّ التقاء المسيحيّة المشرقيّة والإسلام القرآنيّ هما جوهر العروبة الصافية، وعلّة وجود لبنان والمشرق". وهو الإطار الحيّ الذي يبقينا على إخلاصنا للقضيّة الفلسطينيّة، ويجعل التحييد لا الحياد فلسفة ميثاقيّة، فهو "انجع الطرق للحفاظ على التعددية في البلدان المركّبة كما أظهرت ذلك تجارب التاريخ"، وهو الطريق لتحقيق دولة المواطنة، المرتبطة باستراتيجيّة دفاعيّة "واضحة وفعّالة تقوم على بناء جيش محترف وقويّ وقادر على ردع اعتداءات إسرائيل وأطماعها كافّة وعلى حماية لبنان من كلّ المخاطر، وأوّلها خطر الإرهاب المتطرّف والمعولم".   
ولذا فإن تركيز المذكّرة على إعلان بعبدا خارج سياق الأسباب الموجبة التي مزقت بنوده وأحرقتها بنيران الحرب في سوريا وعليها، احتاج لبعض التصويب الذي قد أبديناه. فهذا الإعلان بفعل اندراج بعض القوى التي التزمته في البدء في الأزمة السورية عبر التصريحات أو تأمين البيئة الحاضنة للصراع في سوريا، بات أجوف، وقد وئد بدوره حين ولد.
ويطيب لنا في الختام أن نهنئ البطريركية المارونية وعلى رأسها صاحب الغبطة البطريرك بشارة الراعي على تلك المذكرة، ونعلن التزامنا بها سبيلاً للحفاظ على لبنان الوطن والكيان الدائم الولادة والتجدد من رحم الديمقراطية التشاركية التي هي جزء من الديمقراطية الكونية، والناشئة من ميثاق وطني يؤكّد متانة العيش والشراكة بين المسيحية والإسلام في توازن وكبر، فيبقى لبنان بها وطنًا للجميع.


     

No comments:

Post a Comment