Friday, September 6, 2013

نصّ المؤتمر الصحافيّ للقاء الأرثوذكسيّ كاملاً.

نصّ المؤتمر الصحافيّ للقاء الأرثوذكسيّ كاملاً.....

معلولا بعد وادي النصارى في سوريا موجوعةٌ اليوم. تقدِّمُ شهادتَها بالدَّمِ المُراقِ، تصطبغُ بهِ صخورُها الشَّمّاء، تُحاكي به شهادةَ العظيمةِ في الشهيداتِ تقلا، والقديسينَ المشارِقَةِ الذينَ احتضنَتهُمْ أرضُ الشام فغدتْ أرضَ بركاتْ.
في نيسانَ الماضي، وفيما كُنَّا نتهيّأُ للاحتفالِ بالفصح، تمَّ خطفُ المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم. اختُطِفا إلى مجهولٍ غامِضٍ لا يزالُ يتربَّصُ بمصيرِهِما، فيما المسيحيونَ ينظرونَ برَيبَةٍ إلى وضعِهِما المقلق. سادَ العالمَ صمتٌ رهيب، في حين أنَّ ثمّةَ مخطوفينَ آخرين أظهرَهُم خاطفوهم، بعدَ أن ضجَّ العالمُ بهذهِ الجريمةِ النَّكراء، فكيف بخطفِ مطرانينِ جليلينِ لم يظهرا حتّى قيامِ السَّاعة؟! وهما يمثِّلانِ الوجدانَ المسيحيَّ في حلب، هذا الوجدانُ المشدودُ إلى آفاقِ المواطَنَةِ وتجليَّاتِها من بابِ ثقافةِ قبولِ الآخَرِ واحتضانِه.
وفي شهرِ آبَ الماضي، وأثناءَ احتفالِ المسيحيين بعيدِ السيَّدةِ العذراء، تسلّلَ مسلّحونَ في وادي النَّصارى، من قلعةِ الحصنِ إلى مقهى على مقربَةٍ من ديرِ القديسِ جاورجيوس الحميراءِ البطريركيّ، في قريةِ المشتاية، وقتلوا ظلمًا أَحَدَ عَشَرَ شهيدًا من أبناءِ الوادي. خمسةٌ منهم من بلدةِ مرمريتا. فظنَّنا أنَّ الدنيا ستقومُ ولن تقعدَ أبدًا شجبًا ورفضًا لهذهِ المجزرةِ الرَّهيبةِ، ولكونِ المسيحيينَ وكما أعلنَ أحدُ أكابِرِ المسلمينَ العربِ هم ملحُ الأرضِ العربيّة، فإذا بالصَّمتِ يهيمِنُ من جديد، ويَهيمُ به معظمُ مَنْ يُفترَضُ بهِمْ أنْ يقفوا بضميرٍ نقيٍّ وحيٍّ، ويصرخوا بوجهِ الظلمِ والموت.
واليومَ يتِمُّ الاعتداءُ على إحدى أعرقِ بلدةٍ مسيحيَّةٍ وتاريخيَّةٍ في سوريا لها فرادتهُا وقدسيّتُها. يكفي أنّها تتكلّمُ اللُّغةَ الآراميِّةَ، اللغةَ التي تكلَّمَ بها المسيحُ، وبِها كَسَرَ الخبزَ وسكبَ الخمرَ خلالَ العشاءِ الأخيرِ قائلاً: "خذوا كلوا هذا هو جسدي...خذوا اشربوا هذا هو دمي". وبهذهِ اللغةِ التي خَرَجَتْ مِنْ فِمِ المسيحِ، ظَهَرَ بهاءُ المشرقِ وسَطَع. يكفي أنّ فيها ديرًا مقدّسًا وأثريًّا على اسمِ أولى الشّهيداتِ تقلا، وكنائسَ عُرِفَتْ بقدسّيِتها. فإلى متى سيبقى العالمُ صامتًا؟ هل قرأ العالَمُ وبخاصّةٍ الأميركيُّ والأوروبيُّ والروسيُّ أيضًا، وفي ظلِّ الانشدادِ نحو ضربَةٍ توجّهُ لسوريا، وانسدادِ أفقِ الحلِّ السياسيِّ، أنّ مكوّنًا تاريخيًّا وكبيرًا، ونتيجةً لتراكمُ الأحداثِ والاعتداءاتِ باتَ مهدّدًا بالزَّوالِ الوجوديِّ فكيفَ يمكِنُ البقاءُ صامتينَ بلا حراك؟ واللاَّفِتُ أنَّ المسلَّحينَ خلالَ اقتحامِهِمْ بلدةَ معلولا، وانتهاكِ حُرمَةِ بعضِ بيوتِها وإحراقِ الصُّلبانِ وصورِ القدِّيسينَ المُلصَقَةِ على جُدرانِها، وإطلاقِ قذيفةِ هاون على كنيسةِ مار الياس فيها، أصدروا بيانًا قالوا فيهِ بأنّ هدفَ الهجومِ تحريرُ البلدةِ من الصليبيين. وهذه تُهمةٌ أُلصِقَتْ زورًا وبُهتانًا بحقّ المسيحيينَ العربِ والمشارقةِ، اللذينَ اعتُديَ عليهِمْ مِنَ الصَّليبيينَ أنفُسِهِمْ، حيثُ هَدَفَتْ حملتُهُمْ إلى احتواءِ الشّرقِ مِنَ القُدْسِ واستلحاقِهِ بالغرب. نحنُ مسيحيونَ عَرَبٌ ومشارِقَةٌ ولسنا بجالِيَةٍ صليبيّةٍ طارئة. نحن متأصِّلونَ في ترابِ المشرقِ العربيِّ والأرضِ العربيّة، نحن أساسُها وجوهَرُ وجودِها منذ ألفي سنة، من ترابِها جبلنا وإليها نعود. ساهمنا بتأسيسِ الحضارةِ العربيّةِ وعلَّيْنا مع المسلمينَ ثقافَتَهُمْ فاغتنتِ الدنيا بإشراقاتِها. لكن وبعد هذا الخطابِ المترافِقِ مع جرائمِهِمْ، يحقُّ لنا بأن نتساءَلَ عن التَّماهي القائِمِ بينَ هؤلاءِ ومن يدعمُهُم والإدارةِ الأميركيَّةِ، والتي نُعِتَتْ من أمرائِهِمْ بالصليبيّةِ الجديدة، وهي تخطِّط اليومَ لضربِ سوريا. أليس هذا التماهي مفارقَةً في التَّعاطي والقراءة؟ ألا يشي هذا التماهي بأنّ هؤلاءِ قد غَدَوا جزءًا من حركَةٍ يهو- صليبيّةٍ جديدةٍ تجتاحُنا بالعنفِ والقتلِ والضربِ تحتَ ذرائعَ شتّى، وتنفُثُ سمومَها بحروبٍ مذهبيَّةٍ عبثيّةٍ متنقّلةٍ تريقُ الدماءَ على مذابِحَ عدميّة؟
الاعتداءاتُ على المسيحيينَ جاءت نتيجةَ مخطَّطٍ واضحٍ تمَّ تنفيذُهُ في فلسطينَ المحتلّة. وظهرَ التنفيذُ مؤشِّرًا واضحًا لإفراغِ المشرقِ العربيِّ من المسيحيينَ الأصيلين. فسار باتِّجاه لبنان، ومن ثمّ أُفرِغَ العراقُ منهم بعد قتل مطارنَةٍ وكهنةٍ والاعتداءِ على الكنائسِ وتفجيرِها، وها هو يحطُّ رحالَهُ بالإرهابِ والخطفِ والقصفِ والتشريدِ في سوريا، في مناطق ازدانَتْ بحضورِهم كسوقِ الحميديّةِ في حمص أو وادي النصارى، ومعلولا، وباب توما في دمشق... ويضربُ بوحشيَّتِه أقباطَ مصرَ بإحراقِ الكنائسِ والاعتداءِ على الآمنينَ منهم. ونخشى أن يعودَ إلى لبنانَ من جديد، فهل يجوزُ أن نبقى محتَجِبينَ بالصَّمتِ ولائذين به، منتظرينَ تداعياتِ الأحداثِ وكأننا نرتَقِبُ هجرتَنا ومن ثمّ انقراضَنا؟
إنّ اللقاءَ الأرثوذكسيَّ، وليدَ هذهِ الكنيسةِ المشرقيّةِ الأنطاكيّةِ، وهو معنيٌّ بكلِّ ما يحدُثُ فيها أو يطالُها من اعتداءاتٍ، وما تُحدِثُهُ من تداعياتٍ، معظمُها خطيرٌ ووجوديٌّ، يدعو الضميرَ العالميَّ وبخاصّةٍ الولايات المتحدةَ الأميركيّةَ إلى التأمُّلِ مليًّا بأيِّ إجراءٍ كبيرٍ، وبالتحديدِ بأيِّ ضربَةٍ يُخطَّطُ لها، يمكنُ أن تنعكِسَ بصورةٍ لا التباسَ فيها على الحضورِ المسيحيِّ في سوريا ولبنان وسائر المشرق. ويحذِّرُ، تاليًا، من اختلالِ التوازُنِ في مدى المشرقِ العربيِّ بسببٍ منها، مما يشجِّعُ التكفيريينَ على إتمامِ الحركَةِ الإلغائيَّةِ التي يتَّبِعونَها، ليس بحقِّ المسيحيين فقط، بل بحقِّ الإسلامِ الوسطيِّ والمعتدلِ، وقد صارَ بدورِهِ ضحيّة ممارساتِهم.
أمامَ هذا المشهدِ النافرِ والحادّ، يدعو اللقاءُ الأرثوذكسيُّ أصحابَ الغبطةِ البطاركَةِ المسيحيينَ إلى تلمِّسِ الخطرِ الوجوديِّ المتربِّصِ بنا، والقيامِ بخطواتٍ جريئةٍ تؤكِّدُ وَحْدَةَ الموقِفِ على المستوى الروحيّ، فيتمّ تعميمُه على الأبرشياتِ والكنائس. إنّ وَحدةَ الموقِفِ، على المستوى الروحيِّ، حافزٌ كبيرٌ وضروريٌّ للسياسيين، وبخاصَّةٍ في لبنان، ومنه إلى دنيا العربِ، حتّى يتلاقَوا ويتباحثوا ويضعوا الخططَ الاستراتيجيّةَ التي تحفِّزُ على البقاء. آن الوقتُ بعد كلِّ ما حدثَ ويحدُثُ ليفهمَ القادةُ الروحيونَ والسياسيونَ، أنَّ المسيحيينَ قد مسّهُمُ الخطرُ الوجوديّ... إنَّ اللقاءَ الأرثوذكسيَّ يناشِدُ القادةَ الروحيينَ والأقطابَ السياسيينَ للتحرِّكِ السريعِ، ووضعِ حدٍّ لتلك الاعتداءاتِ الآثمةِ بحقِّ شعبِنا وكنائسِنا ومطارنتِنا...ويدعوهُم للتحرِّكِ السريعِ وِفْقَ خُطَّةٍ منهجيَّةٍ واستراتيجيّةٍ، تستهلِكُ التنوّعَ القائمَ في حضورِهم، لاستثمارِهِ في إطارِ الضَّغطِ المستمرِّ على الرُّعاةِ الإقليميينَ والدوليينَ لهذا الفريقِ أو ذاك. فالأنظارُ شاخصةٌ إلى مسيحييّ لبنانَ بصورةٍ مباشرةٍ، ليواجهوا هواجِسَهُم وهواجِسَ المسيحيينَ العربِ بمجموعَةِ إجراءاتٍ حاميةٍ بعيدًا عن كلّ اصطفافٍ مقيت. ويتمنّى اللقاءُ وبمناسبةِ الاعتداءاتِ الآثمةِ أن يلجأَ القادَةُ إلى التفكيرِ مع بعضِهِم بالحالَةِ التي بلغناها، بعيدًا عن آلياتِ التكفيرِ ببعضِهِمِ البعض. ويدعوهُم للاتجاهِ نحوَ الهدوء، ووقفِ الحملاتِ الإعلاميَّةِ، تمهيدًا لحوارٍ صادقٍ وبنّاءٍ يعبِّدُ الطريقَ نحو مواجهَةِ تلك الهواجِسِ الخطيرةِ والوجوديّة. ويضع نداءَهُ برعاية البطاركة المسيحيين وتصرّفهم.
كما يدعو اللقاءُ، المسلمينَ المعتدلينَ والميثاقيينَ الموجوعينَ بدورهِم من جرّاءِ اعتداءِ التكفيريينَ على كلِّ ما يعنينا ويعنيهِم، من تهديمِ كنائسَ ومساجدَ، من خطفِ مطرانينِ وقتلِ كهنَةٍ ومشايِخَ، لمواجهَةِ تلك الموجَةِ السرطانيّةِ التي تفتِكُ ببيئتِهم مثلَمَا تفتُكُ بنا. لقد ربينا على مفهومٍ رسا في بلادِنا، وهو أنَّ في كلّ مسيحيٍّ إسلامًا يتحرّكُ، وفي كلِّ مسلمٍ مسيحيّةً راجيةً تلطفُ، فلماذا لا نعيدُ الاعتبارَ لما هو مشتركٌ بيننا، ونقف سدًّا منيعًا بوجه هؤلاءِ ومن يستثمِرُهُم ليستعمِلَهُم وقودًا تحرُقُ المشرقَ وترمِّدُهُ؟ إننا ندعوكُمْ للتلاقي، وأوّلُ التلاقي أن نبدأَ بحركةٍ وطنيّةٍ وعربيّةٍ تهدِفُ إلى وقف الاعتداءاتِ، وكشفِ مصيرِ المطرانينِ وسائرِ المخطوفين، والضّغطِ على القوى النافذةِ لوقفِ العملِ العسكريِّ، واللجوءِ إلى الحلِّ السياسيّ ضنًّا بأرواحِ العباد، وصونًا لوَحدَةِ البلاد. فنطلُّ معًا على فجرٍ جديدٍ لا بدّ أنّه مشرقٌ بعقولِنا وسواعدِنا وإرادتِنا الواحدة..

No comments:

Post a Comment