Friday, July 12, 2013

بين الرابية و الضاحية و الرياض جان عزيز

 بين الرابية والضاحية والرياض ...
جان عزيز
حين غادر السفير السعودي ذاك المنزل المتواضع بين قصور الرابية يوم الثلاثاء الأسبق، لم يترك خلفه غير علبة فاخرة من تمور بلاده. لكنه حمل معه كلاماً صريحاً، يكاد يكون طرحاً وطنياً ميثاقياً خالصاً. طرحٌ لن يأتي الجواب عليه إلا عقب عودته من بلاده، بعد عيد الفطر. حتى ذاك، لن يكون إلا صيام.
غير أن المنتفعين في السياسة ومنها، لا يصومون. ما جعل الكلام يغزر حول انقلابات مزعومة وأسباب متصورة لذلك. وصارت تُكتب لذلك لوائح، ثم تُزاد وتضاف. قيل إن عون انقلب على تفاهماته، بسبب رئاسة الجمهورية المقبلة، أو بسبب قيادة الجيش الحالية، أو التمديد للمجلس النيابي، أو تعطيل المجلس الدستوري، أو كل أداء نبيه بري، أو كل أولويته القصوى لدى حزب الله، أو ما بعد القصير في مفهوم الحزب، وبالتالي «ما بعد لبنانيته» وما أكبر من الوطن في رؤيته ومقاربته والأحجام... ولم ينتبه كتبة اللوائح تلك، إلى أن في فكر عون ما لا يُفهم بحسابات الربح والخسارة. كأنه يقيس السياسة بالمطلق، فلا يعود يتفق على خلاصاتها مع حملة الدفاتر. وإلا كيف صارت 13 تشرين؟ أو وفق أي حساب وقف في 12 تموز؟ أو كيف يجالد كل يوم، وسط كمّ متراكم من التفاهة واللامعنى؟
فميشال عون يتصرف في مكان ما من كينونته، وكأنه حارس الهيكل. يقف عند محرابه منذ نصف قرن ونيف. حتى عجنه اليقين بأن خير حراسةٍ لخير هيكله، هو التوازن. لا شيء غير التوازن يبقي هذا السقف ــ الوطن المعجزة، واقفاً فوق رؤوس أهله. والأدلة المعاكسة وفيرة. كل مرة سقط عمود واحد منه، سقط كله على رؤوس الجميع. أصلاً، يوم أبرم عون التفاهم مع حزب الله، بما يمثل ويعني حزب الله، كان التوازن دافعاً أول من بين دوافعه. كانت يومها موجة ثورة الأرز في أوجها. وكان أدعياؤها قد ركبوا رؤوسهم حتى اتقدت. وكان كلامٌ كبير عن احتلال بعبدا، واجتياح كامل السلطة، وفرض ما يراد ورفض ما لا يُرضى عليه أو عنه. وكان فرز للناس وتصنيف وتخوين... حتى أن بعضهم بدأ يتصور نفسه حاكماً للبنان وسوريا معاً. في تلك اللحظة، خطا ميشال عون خطوته، فأعاد التوازن إلى البلد.
ولم ينس عون مبدأ توازنه، حتى في العلاقة مع حزب الله نفسه. فحين ذهب الجنرال بعد «التفاهم» إلى دمشق ومن ثم إلى طهران، كان ذلك لدوافع كثيرة، بينها الانفتاح والتعاون والجيوبوليتيك والإطلالة المشرقية وتحصين حدود الداخل من الخارج... لكن كان بينها أيضاً دافع التوازن في العلاقة مع حزب الله نفسه. بما يصلب التفاهم ويحميه، ويجعله أكثر استقلالاً واستقراراً وإرادية وحرية. وأهل الحزب كانوا يعرفون ذلك ويقبلونه.
اليوم، بدا لميشال عون أن توازن الهيكل يحتاج إلى خطوة أخرى، في اتجاه كفة أخرى من ميزان هذه الخلطة العجيبة المسماة ميثاقاً. ففي زاوية مقابلة أو محاذية من المحراب، جماعة وطنية أساسية ومؤسسة، تعيش حالة معقدة، بين الجموح والجنوح، بين القصور والتقصير، بين الإحباط والانتفاض. وجد عون أن عليه الالتفات إلى ذلك، بموجب الاستيعاب لا بذهنية الانقلاب، وبضرورة الاحتضان لا بمزاجية الألعبان. ولأن زعامة تلك الجماعة قد أسلست قيادتها للرياض، حصل الاتصال بين سفيرها وبين الرابية.
غير أن ثلاث عقبات تبرز بين فكر الرابية، وبين ما قد يعود من الرياض من أجوبة. العقبة الأولى اسمها الطائف. فساكن الرابية مسكون بتطوير النظام. لا لأنه نظام قام على ضربه وإقصائه، ولا لأن ناسه دفعت ثمن رفضها له معه، دماً ودمعاً وهزيمة وهجرة ... بل لأنه نظام مأزوم مفلس، ويكاد يجرف آخر حصاة من بنيان سلمنا الأهلي. فهل تتفهم الرياض ذلك، هي من كانت حاضنة هذا النظام ومولدته نقداً؟
العقبة الثانية، اسمها الإصلاح. فلحظة وقف ميشال عون وسط بيروت يوم عودته في 7 أيار 2005، أطلق الإصلاح عنواناً لمشروعه. وهو لم يقصد بذلك مناكفة أحد ولا استغلال شعار لممارسة كيد أو ثأر. بل هو يؤمن فعلاً، أن اغتيال أي مسؤول، مهما علا شأنه، هو جريمة في حق فرد، ولو كانت بتفجير شارع كامل. أما سرقة المال العام ونهب ثروات بلد، فتلك جريمة بحق شعب وتفجير لوطن كامل. حتى أنه لا يزال يومياً يسأل ويتساءل: ما الذي أسقط أميركا أكثر: اغتيال جون كينيدي، أم انهيار مصارفها نتيجة تلاعبات طبقة معينة من رجال مالها وأعمالها؟ فهل تفهم الرياض هذا الهدف الواجب، أم أن الشفافية والملوكية لا يلتقيان، أو على طريقة مرسي Audit and Petro- economy don’t mix؟
تبقى عقبة ثالثة، هي ما يسميه عون دوماً مبدأ تبادل الحقوق، كقاعدة ثابتة لأي سلام أو حل نزاع. وتبادل الحقوق يعني حق الجماعة التي يمثلها عون في كل حقوقها، من قانون الانتخاب، إلى كل موقع لتلك الجماعة في هذا الوطن. فهل لدى الرياض، وخصوصاً لدى جماعاتها في بيروت، قابلية لإعادة تلك الحقوق، بعد قابليتهم المزمنة لهضمها؟
حتى تعود أجوبة الرياض، قد يستمر الصيام عن الكلام. لكن ثبات المواقف مستمر ايضاً. وللذين يتخيلون ويراهنون، أو في المقابل يخشون ويحرصون، مجرد تذكير بهذه الواقعة: يوم جاء ميشال عون وحسن نصرالله إلى مار مخايل في 6 شباط 2006، لم تكن وثيقة التفاهم بينهما قد أنجزت بعد. لكن الموعد كان قد حدد، وصار محتوماً ولا عودة عنه. جلس الرجلان ــ الجبلان في صالون الكنيسة يتعارفان للمرة الأولى، فيما كان مساعدوهما في غرفة أخرى يتابعون النقاش للمرة المئة، حول نقاط خلافية متبقية في المسودة. مر الوقت سريعاً، عرف الرجلان بعضهما بعضاً، ولم يعرف المساعدون حلاً للصياغة المتعثرة. فنادى عون ونصرالله عليهم: وين صرتو؟ فجاءهما الجواب: لم ننته بعد من إنجاز الصيغة النهائية لوثيقة التفاهم. ثمة تفاصيل صغيرة عالقة. فابتسم الرجلان، كمن يقولان لهم: نحن انتهينا، وأنجزنا تفاهماً وثيقاً ونهائياً، فثمة مسائل كبرى باتت واضحة... ثم سُمع صوتهما معاً: مش مهم، هاتوا الورقة ... فكان توقيع وكان تفاهم.
لم يتوقف تاريخ الرجلين عند تلك اللحظة، ولن يفعل قطعاً. لكنهما لن ينسيا أبداً تلك اللحظة من تاريخهما، ومن التاريخ.


: ‏

No comments:

Post a Comment