Wednesday, July 10, 2013

إلى المطران جورج خضر في تسعينه بقلم جورج عبيد

إلى المطران جورج خضر في تسعينه بقلم جورج عبيد

أعطاني الله، سيدي، أن أجيء من ينابيعك المتدفقة، والينابيع تلك أينعت البهاء في تراب لبنان وسوريا والمشرق العربيّ، حين كنت تجول فيها بين هضابها وسهولها، حاملاً الإنجيل، طائفًا به، مخبرًا عن إله معلّق على الخشبة، مشلوح في قساوة الظلم وليل الموت، لأنّه قال بأنّ الله أباه، وعرّف عنه بالدم المهراق من جسده المديد في الكون. وتجيء بعد ذلك من طاقة القيامة وفعلها في الوجود، متخطيًّا بها مساحات العمر وقيد الزمان. فالعمر هو المحبّة، والله الذي عرّف عنه حبيبك يوحنّا بأنّه الكلمة عاد فقال بأنّه محبّة. في البدء كانت المحبّة، وهي المنتهى في البعد الأخيريّ الذي ذقناه في رسوخ الإنجيل فينا وفي التاريخ والدنيا. ليس مستغربًا أن يتدفّق فكرك ويحدث ثورة في القلوب والعقول، لتتدحرج من الكنيسة في أنطاكية الجديدة عندك وعند المؤمنين الخلّص، وتقود الناس إلى معرفة ذاتهم ووجودهم وتراثهم. فالناس ليسوا مجرّد كائنات بيولوجيّة مرصوفة على مساحات جغرافيّة. وإذا احتكموا إلى اللحم والدم وباتوا أسرى نوازعهما، تبدّد العقل وبطلت الرؤى. ولذا قلت في أدبياتك بأنّ الناس قلوب وعقول، تلتقي بالحبّ والتفاعل، وتنحت هويّة لها تتكوّن بالفكر والتراث والقيم، وتنبسط في كليّة المعرفة، التي تحدّد الوجود وتجعل له معنى. من هذا المعين التمعت سيدي، وقربتنا إلى وجه ربّك من زاويتين: من زاوية الإيمان الذي فيه القلب يعمل في العقل، ومن ثمّ يعلو القلب إليه، ليجعله شاعرًا شفّافًا، مكتنفًا بالحنان. ذلك أنّ الإيمان فكر ومعرفة وممارسة. والممارسة لا تأتيك على نضج كثيف، إذا لم يغص عقلك في المعرفة اللاهوتيّة التي هي أجمل المعارف وأرقاها. إذ كيف لإنسان ترابيّ، أن يتخالط عقله بعقل الله ويجيئ من ثمّ منه؟ لقد انكشف هذا العقل بالمسيح يسوع أي بالكلمة الذي هو بداءة كلّ شيء، إذ به سطع الوجود بعد أن قال إلهك ليكن فكان. كيف للتراب أن يجبل بالضياء، وقد كان هذا سؤالك وهاجسك في مسعاك ومسراك، وليس بينهما من تماس؟ حتّى أتاك الجواب بربّ واحد، فيه تجمّع الفكر واحتشدت طاقاته بحلول الأزليّة في الزمان. وليس استجماع الفكر فيه حركة فلسفيّة أو لاهوتيّة مجرّدة. بل هي حركة توق الناس للخلاص. والناس ليسوا لونًا واحدًا، بل هم ألوان وقوميات وتراثات وهويات...كلها استجمعت بهذا الذي كان به كلّ شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان. كنت تبعثنا من هذه الرؤى، لنفهم أنّ الإيمان والطقوس المنبعثة من تراثنا، ليسا تمتمات تصدر عن لسان ببغائيّ، وحركة فطريّة موغلة في الفنون الشعبويّة التقليديّة الممارَسة هنا وثمّة. بل إنّه الفهم الكبير الذي يؤتينا أن نقرأ الكتاب العزيز ونذوقه في عمقه، ونبحث عنه من مصادره ومراجعه، ونتجلّى من حنانه، ونذوق بهاءه من تواصل حميم مع كلّ كلمة. وعلمتنا، نحن معشرك، أن نأكل الكتاب كما نأكل جسد الرب، وأفهمتنا أن الجسد الإلهيّ هو الكلمة ولا فرق بين القرابين والكتاب. فيسوع المسيح مبثوث منهما حتّى يقبض علينا في مجيئه الثاني الرهيب. والزاوية الثانية والتي لا تنفصم عن الأولى، أن نفهم بأنّ إيماننا المطلق بالمسيح يسوع وهو مسلّمة حيويّة ووجوديّة وكيانيّة، يدعونا لأن نفهم بأنّ المسيح راقد في ليل الحضارات والأديان. وذكّرتنا بهذا القول بأنّ المسيح ليس مستويًا على غمام أو عرش في السماء، أي محجوبًا عن أزمنة البشر وآلامهم وآمالهم، بعد تراكمت في آلامه وموته على الصليب، بالأجيال السابقة والحالية واللاحقة. بل هو محرّك للتاريخ من قلبه، وساكن في جوفه. هذا يعني أنّ كلّ آخر يحمل في ذاته طاقة الحبّ التي نحملها نحن. لقد ذاق الآخرون لطف يسوع وجرحوا بحبّه، فماذا يعنينا إذا تقوقعنا وانعزلنا ونبذنا سوانا ورميناه على قارعة الطريق وفي جهل عميم؟ وحدهم الحروفيون والمنغلقون في ثقافة الحروف المغلقة هم النابذون، وتاليًا، فإنّ النابذ يصير منبوذًا لأنّه ارتضى ثقافة الموت على ثقافة الحياة. قلت لنا غير مرّة، بأنّ الآخر ضروري لنا حتّى التفّس. وقد أكّدت التجارب من سياسيّة وفكريّة أن لا حياة لأوطاننا خارج سياق المشاركة الفعليّة، التي تلفظ من أمعائها اللفظ المجرّد، وتأبى النفاق والدجل، وترتضي أن تتجسّد على الأرض متوازنة رهيفة، تنساب في العمل الوطنيّ لتؤمّن ديمومة الوطن بمؤسساته وتحرص على موجوديّة الوطن بكيانه ووجوده. ما يؤلمني سيدي، أن جيلي الذي اكتوى من الحرب وعاش حقبة من الزمن غريبًا عن هذه الينابيع التي انفجرت من وَثبَاتك وثباتك عليها، وكان مأخوذًا بالقوميات المغلقة، لا يزال مأخوذًا إلى أفكار عفنة وسمجة زرعها ويزرعها عدد كبير من السياسيين والدينيين، حيث تبدو كلّ طائفة متقوقعة عن الأخرى، ممّا يؤدّي إلى استمرار الصراع القاتل والممدود من الهويات القاتلة كما كتب أمين معلوف إلى المذاهب القاتلة، والدين في مسراه لا يبيح القتل بل يأباه لكونه نصير كلّ مظلوم ومألوم ومكلوم. من نافل الكلام أن نرفض مجتمعًا لونه واحد. وقد أثبتت التجربة أن التباغض والتفرقة ينبثان في المجتمع الواحد ليمزقاه من داخله. وهذا حدث ويحدث دومًا. غير أنّ الحروب المذهبيّة المتنقلة في العالم العربيّ تؤكّد أننا لا نزال نرقص رقصة الموت ونستلذّها حينما نرتضي حروبًا يشعلها الآخرون لنا وبنا، ونكون، تاليًا، قودًا لها. لم نفهم بأنّ العدل يتطلّب أن نكوّن ذاتنا من ثقافة قلت بها وأبدعتها مع شلّة كتبها الله كلمات مضاءة في المسيحية والإسلام، وقد زرعتم بذار الحوار لتنمو شيئًا فشيئًا حتّى يدوم الاستقرار. فالاستقرار إذا شئنا الحقّ وتوصيفه مع أنّه خارج عن التقييم والتوصيف، يبقى من وحدانيّة الله في التاريخ. وجاز لي أن أطرح سؤالاً في غير مناسبة: "هل الله يتصارع مع نفسه؟ فإذا تصارع الله مع نفسه فهو إله ممزّق، وإذا تمزّق فيكون قد مات، وإذا مات مات الوجود. والموت ليس من صفاته فهو في أدياننا معطي الحياة، به نتحرّك ونوجد، منه نأتي وإليه نعود في لحظة من رضاه. "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، هذا رأيناه في الإسلام ولكنّه مبتغى المسيحيين أيضًا، أي أن نعود إلى الله الواحد الذي هو فوق العد وفوق الحدّ فمن عدّه فقد حدّه كما قال الإمام عليّ بي أبي طالب أمير المؤمنين.يا سيدي،في تسعينك لا تزال كما أنت، كما ذقتك في لحظات الطفولة والشباب. لا يزال فكرك لهيب نار، يحرق آثام الكثيرين، ويطهّر شفاه الدنسين، ويلهم من يطيب لهم الإلهام. هذا لم يأت من بشرتك ومن ترابيتك. أنت مجرد آنية حلّت فيها كلمات الله وانسكبت منها فوق هذا المشرق، بلغة الضاد بعيدًا عن استكبار في الذات. في الأساس أنت احتجبت بأيقونة المعلّق على الخشبة، والتمست بلوريّة والدة الإله لتتوشّح ببهائها فتلهمك الصفاء، وتبحث عنها دومًا كالرضيع الذي لا يقرّ إلاّ في حضن أمّه. لكنّك قلت بحضن الآب، تذوب فيه كما ذاب يوحنّا الحبيب في العشاء الأخير. هذا جعلك تكتب باسم وائل الراوي، رافضًا الأنا المقيت الذي يلوح بكل استكبار وانتفاخ سخيف. ومضيت في احتجابك ليظهر فيك وجه المعلّم ويبقى هو منشئ الوجود ومبدعها ومنه تولد وتتحرّك.  سيدي ليس العمر زمنًا بل هو المحبّة هو الحضن الذي تفيء إليه وإذا ذبت فيه يفنى الزمان وتسطع قصة أبديّة الله التي تتحرّك في الأزمنة لتبطلها ونبقى جميعنا مواطني 

No comments:

Post a Comment