Sunday, September 23, 2012


نصري الصايغ
غرب لا دين له في السياسة


لا يبدو أن عقد قران قد يحصل، بين شرق مستمسك بالعروة الوثقى، وبماضيه، وبين غرب حديث أقدم على طلاقٍ مع ماضٍ كبَّده ثمناً باهظاً، للتحرر والانعتاق منه... وفي هذا الصدد، ليست المسألة من على حق. هنا السؤال غلط، والجواب حتماً غير صائب. في هذا الصدد، يجدر تسجيل الوقائع لا أكثر، كي لا نقع في سوء التفسير، والنوايا المظلمة، العدوانية والاتهامية.
قيل في شريط «براءة المسلمين» ما يستحقه من نعوت. إجماع عربي وغربي، إسلامي ومسيحي، على أن الشريط سخيف وتافه وحقير واستفزازي ومهين ولا علاقة له بالفن والإبداع... وقيل كذلك، هذا شريط «أهل سوء» ارتكبوه عنوة بهدف التحقير.
إجماع مبرم، إنما... غرب يقول، إياكم وحرية التعبير. وشرق يطالب، بتقييد هذه الحرية، لعظمة الإساءة عندما يساء استعمالها.
في الغرب، حرية التعبير، حق مقدس لا يمس. لا يجوز التجديف عليه، والمطلوب دائما صيانته وتحصينه. قد يساء بحرية التعبير إلى المقدسات المسيحية والإسلامية، ومع ذلك، يلزم ألا يساء إلى حرية التعبير... هذا حق دفعت أوروبا ثمنه: محاكم تفتيش، حروب دينية، إعدام علماء ومفكرين، نبذ واضطهاد وإحراق هراطقة، إلى آخر سلسلة التعذيب وتمليع الأجساد، والتي وصف إحدى عملياتها ميشيل فوكو في كتابه Surveiller et punir ولكي لا تبقى حرية التعبير على غاربها، وضعت لها حدود مائعة كالإساءة إلى الانتظام العام وإثارة التعصب، يمكن التسلل من خرومها إلى منطقة السماح لحرية التعبير بالعبث القاتل، حيث لا يعاقب المرتكبون، وحيث يسقط الأبرياء... انتقاماً ولا رادع.
هذا الاجماع الغربي على حراسة وحماية حرية التعبير أفسح المجال لمجلة «شارل ايبدو» الفرنسية، بانتهاز الفرصة، ولزيادة مبيعات مجلتها، بنشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للإسلام والرسول، وقد اعتبر عدد من المعلقين الغربيين هذا النشر فعلاً انتهازياً... لا علاقة له بالفن، ومع ذلك: إياكم وحرية التعبير. من يعتبر نفسه معتدى عليه، فليذهب إلى المحاكم، فأمامه القانون.
ولقد حدث ذات مرة ان رفعت دعوى ضد من أساء إلى الرسول، ولكنها لم تحظ بعقوبة. القانون حمى «المرتكب»، في عرف المتضررين نحن لسنا أوروبا، ولا نشبهها. حرية التعبير عندنا لا تنقصها إلا الحرية. التعبير عندنا مقيد. التفكير مكبل. للمنوعات عندنا سيادة تامة: لا مساس بالدين والجنس.. وإياكم المساس بالسلطة. الثالوث المحرَّم هذا هو الثالوث المقدس.
اننا نعيش في عالم واحد وفي زمن واحد مع الغرب، ولكن بتاريخين متباعدين. وجوه القرابة بيننا، قد تكون نتيجة بعض النخب التي اختارت أن تتشبه بالغرب أو ان تستفيد منه. على أن وجه الشبه التام، هو اننا في نظام العولمة البربري، نحن اتباع وهم أسياد، والعلاقة هي التبعية.
اننا مختلفون، ليس لأن الشرق في أغلبيته يدين بالإسلام، أو لأن الغرب في معظمه مسيحي. لقد كانوا مثلنا اليوم، عندما عانوا في القرون الوسطى المظلمة، فيما كان الشرق ينعم بالفكر الديني المتسامح، الذي أنتج فكراً وثقافة وحضارة، يوم كانت أوروبا مرعوبة من محاكم التفتيش... إنما حصل ان من كان مؤهلاً للانفتاح أكثر، المسلمون تحديداً، قد انغلقوا، والذين عانوا من قبضة الوحدانية، قد انعتقوا. هم تقدموا، ونحن تراجعنا. هم ابعدوا الكنيسة المتسلطة والشمولية، حتى بات التجديف على المقدسات حقاً يقترن بحق التعبير.
المشكلة ليست في الدين ولا في نظرية تخلف الشعوب العربية، بل في كوننا نعيش ظلماً متعدداً لا حدود لتأثيراته علينا. ظلم يطأ الكرامات البشرية قبل المقدسات السماوية، الثروات الوطنية، قبل التراث الإسلامي، القضايا الإنسانية، قبل القضايا المذهبية. نحن ضحايا ظلم اخطبوطي، يبدأ بفلسطين ولا ينتهي عندها... وأفدح المظالم، أن أوروبا تزن بميزانين على مرأى ومسمع الجميع، ولا تخجل من ذلك.
أدلة كثيرة. لا أتوقف عند روجيه غارودي، هذا «المفكر» القافز من موقع إلى موقع ومن إيمان إلى إيمان وصولاً إلى صيرورته محظياً عند القذافي. علماً ان من حقه وحق غيره ألا يعتقل عقله. فماذا عن الممثل ديو دونبه؟ قال عبارة ضد التأثير اليهودي في الإعلام، وشنت عليه حملة «إبادة» لطرده من جنة التمثيل والأداء.
لا حرية تعبير بلا قيود تفرضها مصالح الشعوب والدول. أنتجت أوروبا عدداً من التشريعات التي تدين من ينكر المحرقة. هذا حقها، ولكننا لسنا نحن من ارتكبها. لماذا لم تحاكم الفرنسيين، وهم بالعشرات والمئات، الذين سهلوا إيصال الضحايا اليهود إلى المحرقة...
حسناً. إذا كان هذا التحريم قصاصاً وحماية، فلماذا امتدت يد التشريع لاعتبار من ينتقد إسرائيل، معادياً للسامية؟ كيف ذلك؟
ثم، لماذا جزار صبرا وشاتيلا ومرتكب المذابح، والذي تطاله القوانين الدولية والمحلية، يستقبل كرجل سلام... أوروبا تعرفه جيداً. تعرف انه مرتكب صبرا وشاتيلا... بلجيكا عقدت محكمة لمحاكمته، ولما اقترب موعد التنفيذ، غيرت بلجيكا قوانينها. أما بريطانيا، فقد قررت تعديل بعض قوانينها، منعاً لملاحقة تسيبي ليفني. المجرمة المتفوقة في مذابح لبنان وغزة.
ممنوع المساس بإسرائيل والإسرائيليين، ولو كانوا مجرمين، ومسموح المساس بكل ما يسيء إلى المسلمين ويستفزهم.
«المحرقة اليهودية» مقدس لا يمس. هم أحرار. ولكن ما علاقتنا بذلك، كي نعاقب. ان كتاب فيفيان فورستر بليغ جداً. لقد ارتكب الغرب جريمة الإبادة وعاقب الفلسطينيين. هذه بديهة نعرفها، ويعرفها الغرب. ولكنه يجبن على المواجهة، ويعوض بممارسة ساديته وعدوا

No comments:

Post a Comment