Friday, October 30, 2015

لكل رئيس أميركي «مرشد» يقرر سياسته الخارجية!


عن تقرير «الديبلوماسي» لناشره ريمون عطا الله
٣٠/١٠/١٥

مايكل ديفر مع رونالد ريغان وفاليري جاريت مع أوباما
لكل رئيس أميركي «مرشد» يقرر سياسته الخارجية!
كيف تقرَّب الأوروبي جان مونيه من ترومان وأيزنهاور وكنيدي؟

لفهم الوضع السياسي الأميركي، والسياسة الخارجية الأميركية، لا يكفي أن تعرف وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ومستشار الأمن القومي.  وليس كافياً أيضاً أن تعرف الأعضاء الرئيسيين في مجلسي الشيوخ والنواب. فلكل رئيس مساعد يثق به، رجلاً كان أم امرأة. من هؤلاء المساعدين مايكل ديفر نائب رئيس جهاز موظفي البيت الأبيض في عهد الرئيس رونالد ريغان، والذي كتبت عنه السيدة نانسي ريغان، أرملة الرئيس الراحل، تقول:
«ما لم يكن المرء متتبعاً للسياسة عن كثب، فإنه قد لا يعرف الكثير عن مايكل ديفر أو عن مدى أهميته بالنسبة الى روني منذ أن كان حاكماً لولاية كاليفورنيا، الى أن أصبح رئيساً، وكصديق موثوق. وأظن أن كل رئيس يستطيع أن يدلَّ على مساعد له بعينه يعرفه الى درجة أنه لا يعود يستغني عنه. وقد كان مايك هذا الرجل بالنسبة الى رونالد ريغان، وهو أحد القلائل المؤهلين أن يكتبوا عنه. هو الوحيد الذي كان الى جانبه من عام ١٩٦٧ حتى ١٩٨٧، باستثناء فترات قصيرة جداً، فشاركه الأيام الحلوة والأيام الصعبة أيضاً. فقضى مايك من الوقت مع ريغان طوال عشرين سنة أكثر من أي شخص آخر باستثناء عائلته المباشرة. فقط مايك كان الى جانب روني في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، وفي ميادين المعارك الانتخابية، وفي المواكب الرسمية».

خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢، وما رافقه من مجازر بحق المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، كان مايكل ديفر الشخص الوحيد في إدارة ريغان الذي دخل الى مكتب الرئيس وأقنعه بضرورة مكالمة مناحين بيغن رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت لإجباره على وقف القتال. بينما في بداية الاجتياح كان كثيرون من مساعدي ريغان، أمثال جين كيركباتريك سفيرة أميركا لدى الأمم المتحدة وألكسندر هايغ وزير الخارجية، يؤكدون للرئيس بأن هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان هي هزيمة كبرى لروسيا وحلفائها العرب. وآثر ديفر أن يشارك في بعض تلك الجلسات على الرغم من أن معظم اهتماماته كانت تنصبُّ على الأمور الداخلية. وقلة فقط من الديبلوماسيين العرب كانوا يعرفون مدى قرب ديفر من الرئيس ريغان وتأثيره عليه. هناك شخص واحد من أصل عربي عرف ديفر جيداً وكان له تأثير عليه، استطاع أن يشرح له حقيقة المأساة اللبنانية. وتنضح كتابات ديفر بما فعله لوقف الحرب في لبنان، فيقول:
«كان هدف وزارة الدفاع الإسرائيلية تأمين منطقة عازلة خالية من نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية تمتد مسافة ٢٥ كيلومتراً داخل الأراضي اللبنانية. لكن إسرائيل فوجئت بهزال المقاومة ضدها فاغتنمت الفرصة بغية إبعاد منظمة التحرير من لبنان بصورة نهائية. فقامت الطائرات الحربية الإسرائيلية بقصف مواقع الصواريخ السورية في منطقة البقاع، وقامت دباباتها وسفنها الحربية بقصف مقرات ومخابىء المنظمة في بيروت الغربية. وفيما كان العالم مذهولاً لسرعة التمدد الإسرائيلي في لبنان، قام الإسرائيليون بمحاصرة مدينة بيروت. 
«وكان وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون على وشك تحقيق حلمه بإلغاء منظمة التحرير الفلسطينية، لكن كلفة إنهاء هذه المهمة لن تكون رخيصة. لكن قوات منظمة التحرير تمترست خلف الخطوط المدنية، واختلطت مع السكان الأبرياء في بيروت، مما هدد بسقوط المدينة معهم.
«وكما شارون واسرائيل كلها تحت قيادة مناحيم بيغن السياسية، واجهت رئاسة ريغان في البيت الأبيض أسئلة صعبة. إنني لم أحضر جميع اجتماعات التوجيه السياسي، لكنني طوال الأسابيع السابقة كنت أحضر وأستمع الى المساعدين في مجلس الأمن القومي يرددون على مسمع ريغان أن إسرائيل يمكنها أن تربح فعلياً إذا ما استطاعت دبابات شارون ومشاته كنس الإرهابيين مرة والى الأبد. وفي الوقت ذاته تقوم إسرائيل أيضاً بإخراج القوات السورية وإبعادها الى ما وراء الحدود. أما بالنسبة إليَّ، فإن مثل هذه الاستراتيجية كان يحمل مخاطر تحوُّل الشرق الأوسط الى كابوس بحجم توراتي. فقد أخذنا في الاعتبار جدياً إمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة. فهل كان ذلك يستأهل المخاطر المحتملة؟ وهل بوسعنا أن نواصل شجب إسرائيل في النهار وتشجيعها في الليل، حتى بعد تعاظم أعداد الضحايا من اللبنانيين؟
« كان مجلس الأمن القومي يجتمع مع الرئيس في التاسعة والنصف من صباح كل يوم لمدة تربو على النصف ساعة. وفي يوم من تلك الأيام في عام ١٩٨٢، جلست وحيداً في مكتبي عازفاً عن حضور ذلك الاجتماع. وكنت طوال الأسبوع الفائت أشاهد صور الجثث المتراكمة في لبنان، فلم تفارق صور تلك المجازر الرهيبة ذهني. وأخيراً نهضت من مقعدي ومشيت عبر الباب الى مكتب الرئيس في البيت الأبيض.
« كان الرئيس ريغان لوحده يراجع إحدى الوثائق. فأومأ الي بالجلوس ولم ينطق بكلمة. فقلت له: «سيدي الرئيس أنا عازم على الاستقالة. فقال بشيء من الحدَّة: «مايك ماذا تقول؟». قلت له: «إنني لم أعد قادراً على أن أكون مشاركاً في ما يجري، هذا القصف العنيف وقتل الأطفال.» أصغى الى ما قلت باهتمام لكنه لم ينبس ببنة شفة.
« وتابعت قائلاً: أنت هو الشخص الذي يستطيع أن يضع حداً لذلك. كل ما عليك أن تفعله هو أن تمسك بسماعة الهاتف وتبلغ بيغن بأنك تريد وقف ما يجري». 
«حدَّق كل منا في الآخر للحظات، ثم أطرق ريغان متطلعاً الى أسفل. شعرت بأنه يرى الصور ذاتها التي كانت تؤرقني. لم نكن بحاجة للنطق بأي كلمة. فبعد كل هذه السنين التي قضيناها معاً، قرأت في لغة جسده وتعابير وجهه أننا نقف موقفاً مشتركاً. أمسك ريغان بسماعة الهاتف وطلب من سكرتيره أن يتصل بمناحيم بيغن على الهاتف فوراً.
«كان ريغان ملتزماً بإسرائيل التزاماً تاماً، لكنه لم يكن يرتاح الى بيغن عندما يلتقيان وجهاً لوجه، خصوصاً بعدما خرج بيغن من البيت الأبيض ليتوجه مباشرة الى الكونغرس في الكابيتول هيل محاولاً استدرار مزيد من الدعم المالي للدولة اليهودية بعدما كان قد أبلغ الرئيس أنه يقبل جملة المساعدات الخارجية التي قدمت اليه.
«وخشية أن أكون قد ارتكبت خطأ جسيماً بالتعبير عن حقيقة مشاعري، استخدمت هاتفاً آخر في مكتب الرئيس لمكالمة وزير الخارجية جورج شولتز بينما كان الرئيس يتصل ببدالة هاتف البيت الأبيض.
«قلت لشولتز: جورج، أخشى أن أكون قد أسأت التقدير بأن انغمست كثيراً بقضية بيروت، وأبلغت الرئيس بمخاوفي. إنه يتصل الآن ببيغن ليطلب منه وقف القصف.
«ران صمت لفترة قصيرة، ثم سمعت شولتز يقول «الحمد لله، إنني سوف أنضم اليكما». » وعندما جاء الخط من إسرائيل، أمسك الرئيس سريعاً بسماعة الهاتف، وأبلغ رئيس الحكومةالإسرائيلية بعبارات صريحة وجريئة بأنه يجب التوقف عن القصف وإلاّ خسرت إسرائيل الدعم المعنوي للشعب الأميركي. ثم أصغى ريغان للحظة، وعاد لينهي المكالمة مع بيغن بالقول:لقد تماديتم، يجب أن تتوقفوا».
«انضم الينا جورج شولتز بعد عشرين دقيقة، وعاد بيغن يطلب مكالمة الرئيس ليبلغه بأنه أمر بوقف العمليات العسكرية. وهذا يعني أنه لن تكون الليلة طائرات تحلِّق في سماء بيروت.
«أغلق ريغان الهاتف ووقف من مقعده، وقال لنا غامزاً بعينه والبسمة على وجهه: «لم أكن أعلم أن لي مثل هذه السلطة»!
«وإذا كان لي أن أقول شيئاً، فإنني أقول بأنني فخور بتلك اللحظة. وأيا كانت قيمة تقديري للموقف بالنسبة اليه، فقد شعرت بأنني استخدمته استخداماً حصيفاً لإقناع الرئيس بأن يماشي مشاعره الإنسانية هو. وأظن أن كل رئيس بحاجة الى شخصلديه القدرة والصلة للتحدث بصراحة وجرأة حتى لو اقتضى الأمر إبلاغ الرئيس بأنه على خطأ.
«ساد الهدوء في بيروت لفترة من الوقت، لفترة قصيرة جداً».

إن العبرة من هذه الأزمة هي اكتشاف من هو الذي بنى جسور الثقة، ومن له النفوذ الأكبر على الرئيس الأميركي. فالشخص الذي يتمتع حالياً بأوثق العلاقات في إدارة أوباما وبأقوى نفوذ لدى الرئيس هي السيدة فاليري جاريت التي تعرف الرئيس منذ وقت أطول بكثير من علاقة أي مستشار أو وزير في الحكومة.
فلكي تكون فاعلاً ونافذاً في واشنطن، فعليك أن تنمي الصداقات وليس العلاقات فقط مع طيف واسع من الناس في أوساط النخب المختصة بالسياسة الخارجية الذين يتعاطون بالشأن العام ومع الحكومة الأميركية. فقد أصاب مؤسس الاتحاد الأوروبي، وأحد مهندسي العلاقات الأميركية ـ الأوروبية، جان مونيه، كبد الحقيقة بقوله:
« في أماكن مثل لندن ونيويورك وواشنطن، حيث يجري اتخاذ القرارات الكبرى، كانت محادثاتي الأولى تبدأ دائماً مع أشخاص لا يتحملون ارتكاب الأخطاء، كرجال المصارف، والصناعيين، والمحامين، ورجال الصحافة (الناشرين ورؤساء التحرير) … أو أساتذة الجامعات».
فقد شكَّلت علاقاته وصداقاته شبكة من الأشخاص، في الحزبين الجمهوري والديموقراطي، يضمنون الوصول الى أصحاب القرار عندما تحين لحظة القرار في أي أزمة جارية.
كان جان مونيه مستمعاً من طراز رفيع. إنه رجل رؤيوي يتمتع بإرادة استراتيجية. كان يقارب الأمور بهدوء وبطريقة برغماتية. فكانت علاقاته وصداقاته المقرونة بالصدقية واحترام الذات أسهل الطرق المؤدية الى مقابلة الرؤساء الأميركيين والتحدث معهم، من هاري ترومان، ودوايت أيزنهاور، الى جون كنيدي.
وسرُّ نجاح مونيه في التأثير على كبار الشخصيات في واشنطن ولندن يكمن أيضاً في نمط طريقة عمله المتكررة والقائمة على الركائز التالية:
١ ـ الصلة مع رأس السلطة
٢ ـ التعاطي مع رأس السلطة
٣ ـ اعتماد دائرة مصغَّرة من الوسطاء والمستشارين الاستراتيجيين
٤ ـ قبل لقاء المسؤولين الأميركيي وأعضاء الكونغرس، يقوم باستشارة السياسيين، ورجال المصارف، والمحامين، والناشطين، وأساتذة الجامعات، وكبار محرري الصحف الأميركية الرئيسية، ليقف على تقديراتهم لما يحدث في واشنطن وكيفية إجراء محادثات ناجحة ومنتجة مع صانعي السياسة ومقرريها.
ومختصر الأمر، أن مفتاح نجاح مونيه وتعاظم نفوذه هو في إقامة صداقات صميمية ودائمة مع النخب المهتمة بالسياسة الخارجية ممن لهم قماشة رجال الدولة، وليس عن طريق جماعات«اللوبي»، أو صغار الموظفين في وزارة الخارجية، أو وزارة الدفاع، أو البيت الأبيض، الواقعين تحت تأثير منظمات سياسية معيَّنة. فقد انتهج مقاربة تشمل الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة. كان ديبلووماسياً استثنائياً وغير تقليدي.
إن أقرب رجل عربي الى اعتماد طريقة مونيه في أميركا كان الفلسطيني الراحل حسيب الصبَّاغ. 

No comments:

Post a Comment