Tuesday, June 11, 2013

جورج عبيد " العاصفة السورية و المطلوب لبنانيا"

العاصفة السوريّة والمطلوب لبنانياً

جورج عبيد
لبنان عاجز اليوم عن الجواب على أيّ سؤال وجوديّ أو كيانيّ. هو جزء من مدى متمزّق بنيويًّا ومذهبيًّا. وفي كلّ الظروف التاريخيّة القديمة والحديثة، ظهر لبنان مجرّد حالة جغرافيّة لصيقة بالظروف التي زجّ فيها. لم يعطَ هذا البلد أن يصنع نفسه بنفسه، ويتكوّن بميراثه الداخلي الفريد والغنيّ. وقد قيل عنه بأنّه أنموذج راق في العيش بين الأديان التي منها تفرّعت الطوائف والمذاهب. لكنّ الذروة التي دُعي إليها مع مجموعة من العقلاء والحكماء، ما لبثت أن ذبلت وتبخّرت، بفعل استعمال ما هو فريد واستهلاكه باتجاه ما هو سلبيّ وغبيّ، يغذّي جهالة الجهلاء، ويغني سفاهة السفهاء، على حساب ما هو عليه من كبر وغنى.
لم يعُد لبنان يملك الرؤى الكاملة التي تجعله مؤهّلاً ليكون خارج كلّ صراع، كما تأسّس خلال حقبة استقلال 1943، لما اصطبغ بالميثاق، وحيّد عن أن يكون مقرًّا ومستقرًّا، أي أن يكون وطنًا نهائيًّا كاملاً ببنيته وبنيويّته وإرثه، ذا ديمومة مؤسسيّة تحمله بحيّزه الشرعيّ وحضوره القانونيّ إلى الأمم فاعلاً مختبرًا. غير أنّنا وفي الصراع المرير الدائر في سوريا وعليها، والمطلّ بسخاء وقوة على العمق اللبنانيّ، عدنا إلى نقطة الصفر التي فيها تتلاشى الأوطان لمصلحة الدويلات.
وما العاصفة السوريّة المتمادية سوى تعبير فصيح بعد العراق على ما سيؤول إليه المشرق العربيّ. بمعنى أننا بتنا نستقرئ النتائج من رحم التداعيات وتراكم الأحداث.
ثلاثة عوامل خطيرة تجعلنا قابلين لهذا الاستشراف من معين الاستقراء، وهي على النحو التالي:
- رفض مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ، وهو الفرصة الميثاقيّة الحيّة التي كادت أن تعيد لبنان إلى توازنه من باب ترسيخ المناصفة. ما من مشروع إلاّ ويملك ثغرات واضحة. لكنّ القيمة الجوهريّة أنّه يحيي العلاقة بين الطوائف والمذاهب في إطار من الحقّ المتوازن، ويوضّب تفاصيل تلك العلاقة في إطار من الطائفيّة المتوازنة الخلاّقة بدلاً من الطائفيّة الفوضويّة. ينعش المسيحيين ولا يسمح بأن يكونوا مستولدين في كنف المذاهب الأخرى، ولا يفتئت على حقوق المسلمين أو يسلبهم ما هو لهم على الإطلاق. كما يسمح، تاليًا، بتحييد لبنان عن الصراعات المذهبيّة، الضاربة في عمق المشرق العربيّ. ولا شيء أفضل من التوازن الميثاقيّ المكتوب بأحرف من نور، لإرساء مبدأ التحييد، والنأي بالنفس.
- امتداد الصراع في سوريا وعليها إلى لبنان، من القصير إلى طرابلس وصيدا مرورًا بعرسال وعكار. خطورة هذا الصراع أنّه يسير على دروب الفلسفة التفكيكيّة، والتجسيد بهذا المعنى يفرغ لبنان من مكوناته الجوهريّة الناشئة في قلب الحياة الليبراليّة، فيصير ساحة لصراع ثيوقراطيّ، يحمل في مفرداته الموروثات القديمة، من تاريخيّة وعقائديّة، ويجعل الإنسان اللبنانيّ متحجّرًا ومختنقًا في ثقافة الحروف المغلقة.
المأساة التراجيديّة التي دخلنا في حلقاتها المفرغة وأتّونها الملتهب، أنّ عناصر التفجير في لبنان بدأت تتراكم، وتأسر الحياة اللبنانيّة في قيودها الحديديّة. هذا خبرناه كمقدمات للحرب اللبنانيّة حين بدأت القوى الطائفيّة تخطف وتقتل على الهويّة. فتلاشى دور الجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة الشرعيّة لمصلحة العجز والشلل، والتي نبتت في صحرائه تلك القوى لتشتد الصحراء في نفوسنا. وهذه القوى تعود بحللها الثيوقراطيّة لتفرض نفسها على حياتنا، فتبدو وكما قال السيد هاني فحص «كالمقت في سمائنا»، فتأكل وتقتات من فرادة حضورنا المشترك، المعبّر عنه بالديموقراطيّة التوافقيّة، والتي تصهرها بالمعنى السياسيّ الطائفيّة المتوازنة وترفدها بعقلانية متسقة، لحساب آحادياتها المترامية الأطراف.
- تمديد المجلس النيابيّ لنفسه، وهو أخطر ما بلغته الحياة السياسيّة في لبنان، بل بلغته الأنظمة السياسيّة في تاريخها. يتماهى التمديد مع هذا الصراع لتثبيته والتسليم به، وكأنّه أمر مفروض، لكأنّ القوى السياسيّة المسلّمة بالتمديد، والمراهنة على نتائج الصراع في سوريا وعليها، سلّمت سلفًا بالنتيجة ـ المنظومة التي ستبلغها المنطقة ككلّ، وهذا يتطلّب توضيحًا على الأقل من تلك القوى. ذلك أنّ التمديد يجرّ إلى تمديد آخر، ويصير الشواذ والنشاز القاعدة الشرعيّة لإمرار ما يمكن إمراره، على حساب الدستور والنظام والشعب.
أمام هذا التراكم يُطلب من لبنان، أن يقوم بقراءة تأسيسيّة جديدة لذاته ودوره ومؤسساته، ليس فقط مع القوى السياسيّة اللاعبة التي لها جمهورها، ولكن مع معظم العقلاء والحكماء، الخاشين من زواله تدريجيًّا. من يستطيع الدعوة إلى تلك القراءة في ظلّ هذا الفراغ؟
السؤال موجّه إلى رئيس الجمهوريّة. وبداءة الجواب عنده إعطاء الجيش صلاحيّة التطهير الكامل من القوى المسلحة، وبعد التطهير يبدأ العقل بالعمل والنقاش بالخيارات المتوازنة التي تعيد لبنان إلى فرادته وبهائه المفقود حتّى إشعار آخر.


([) ناشط في «اللقاء الأرثوذكسي

No comments:

Post a Comment