Friday, May 15, 2015

«المستنقع اللبناني» في أوراق رامسفيلد الديبلوماسية يتغيَّر كلُّ شيء ولا شيء يتغيَّر!

addiplomasi
«المستنقع اللبناني» في أوراق رامسفيلد الديبلوماسية

يتغيَّر كلُّ شيء ولا شيء يتغيَّر!



في أواخر عام 1983 أوفد جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي في إدارة الرئيس رونالد ريغان، مبعوثاً خاصاً الى لبنان والمنطقة لتقصِّي الأوضاع هناك. والمبعوث هذا هو دونالد رامسفيلد الذي كان وزيراً للدفاع في إدارة الرئيس جيرالد فورد، ثم أصبح لاحقاً وزيراً للدفاع في إدارة الرئيس جورج دبليو بوش يوم تقرر غزو العراق وإطاحة نظام صدام حسين عام 2003، فكان أصغر وزراء الدفاع سناً في تاريخ الولايات المتحدة في ولايته الأولى، وكان أكبر وزراء الدفاع سناً في تاريخ أميركا في ولايته الثانية. وقد حصل «الديبلوماسي» على التقارير التي أرسلها المبعوث الخاص رامسفيلد الى عناية وزير الخارجية الذي أوفده من دون إطلاع أحد عليها. وقد أكد رامسفيلد على «حصرية» الإطلاع هذه بوضعه خطَّاً تحت عبارة «لك شخصياً فقط» في تقريره الى شولتز (for you only )، واصفاً التقرير بأنه «أفكار عشوائية» تحت عنوان «المستنقع». والملفت بنوع خاص في تقارير رامسفيلد المقارنة التي ساقها حول دور أميركا في فيتنام ودورها في لبنان، مما يستدعي ملاحظة أخرى في هذا السياق، وهي أن حرب لبنان التي اشتعلت عام 1975، بدأت في الوقت الذي انتهت فيه حرب فيتنام، وكل منهما استمر خمسة عشر عاماً بالتمام والكمال. وفي ما يلي نص التقرير المؤرخ في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1983 (يوم عيد الاستقلال اللبناني) حسب العناوين التي اختارها رامسفيلد، والمتضمنة توضيحات معينة من «الديبلوماسي» حيث استدعت الحاجة:

مشاورات بشأن «القوات المتعددة الجنسيات»
تمّت المشاورات مع شركائنا في القوات المتعددة الجنسيات أثناء توقفي في لندن وباريس وروما كما كان متوقعاً.
وكانت زياراتي في قبرص مع سفراء أميركا الى لبنان، وسوريا، وإسرائيل، وفي روما مع سفيرينا الى العراق وتركيا، مفيدة. إنهم ديبلوماسيون محترفون ومتعاونون. وربما قمت بين حين وآخر بجمع بعضهم في مجموعات صغيرة للوقوف على أفكارهم.

لبنان
إن الخلاصات التي تلقيتها منهم لم تهيأني لتلقي الأحمال الثقيلة التي ألقاها الجميِّل (الرئيس أمين الجميِّل) على عاتقي خلال أول لقاء لي مع أحد قادة الشرق الأوسط بصفتي المبعوث الجديد (والأخير في سلسلة طويلة من المبعوثين الأميركيين) الى الشرق الأوسط. إنني أتساءل ما إذا كانت قيمة المبعوثين الأميركيين الى الشرق الأوسط قد أخذت تتلاشى. ومن الواضح أن هؤلاء القوم لم يسمعوا بعبارة «فترة شهر العسل». لقد صعقني وصدمني ما أبداه الجميِّل من عواطف. وفي اللقاء الذي استأثر بمعظمه تكلَّم لفترات طويلة. وفي فترات أخرى استرخى وتكلم بلهجة المتفكِّر. ولست أعرف حتى الآن ما الذي دفعه الى إفراغ مكنوناته كما فعل. قد يكون مخلصاً في ذلك. وربما كان يحاول استمالة رد فعلي أو «تلييني». ويخطر بالبال أنه انفعل عاطفياً بسبب إلغاء زيارته الى دمشق، لكنني أشك في ذلك. الأرجح في نظري أنه كان يمهِّد لإلقاء اللوم علينا إذا كان يفكِّر بتغيير موقفه من سوريا. كذلك يمكن القول بأنه يسير نحو نهاية شوطه.
إن رسائل الجميِّل لي تطرح قضايا لزيارته المقبلة الى الولايات المتحدة، مما يقتضي النظر فيها بحيث يتاح للرئيس ريغان الوقت الكافي لتحضير الجميِّل لتلقِّي النتيجة التي تفضِّلها، وبما يساعد على الربط بين زيارتي الجميِّل وشامير. وغني عن القول إنه من الأفضل اجتناب أي ثغرات كبيرة بين توقعاته وبين ما هو مرجح أن يتحقق.
دخلت الى الاجتماع مع الجميِّل ورأيي فيه أعلى كثيراً مما خرجت به. إنني معجب به لأنه باق في بيروت بدل أن يكون على «الريفييرا الفرنسية»، لكنني أرى فيه مرونة أكثر مما أرى صلابة، وغريزة المبادلة والمتاجرة لديه أقوى من الإرادة، وفيه رخاوة أكثر من الشدة. وهذه الصفات ليست الصفات التامة لتستقطب حولها أمة أنهكتها الحرب. لكن، من جهة ثانية، فإن فرز قطعة من الأرض والإعلان من فوقها: «هنا أقف ولا أتزحزح»، قد لا يكون الطريق الصحيح في لبنان. ربما كان مطلوبه من المساومة الرغبة في أن «يلعب اللعبة» مع الوقت.

دروس مستقاة حديثاً
لا يسعني إلاَّ أن ألاحظ بعض التشابهات بين وضع الولايات المتحدة في لبنان ووضعها في فيتنام. ومع أنها لم تركع على ركبتيها تماماً، فإن هناك بعض التشابهات، منها:

> درجة ما لدينا من التأثير والاستثمار (الناس، المال، النفوذ)، في بلد لا نعرف عنه سوى القليل.

> التزامنا في منطقة يعرف المتعاملون معنا منهم، وأصدقاؤهم وأعداؤهم، بأننا لن نحترمه وتساورهم شكوك بأننا لن نبقى هناك.

> مثل حالنا في فيتنام، هناك قلة قليلة تسائل نوايانا مساءلة صادقة وأمينة، لكن قدرة الولايات المتحدة على تحقيق النتائج المرجوة تبقى محدودة.

> هناك مسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة تدرِّب وتجهِّز الجيش اللبناني لخوض حرب خاطئة. لم أصل الى استنتاج، لكنني سوف أنظر في الأمر.

> التدخل المستمر من دول الجوار.

> التغيير السريع للاعبين الأميركيين (وزير الخارجية، مستشارو الأمن القومي، المبعوثون الى الشرق الأوسط، السفراء، الموظفون العسكريون، الخ...). ومع كل التخفيضات المطلوبة، ضاعت فرص، وتكررت أخطاء، وحدثت سقطات. يضاف الى ذلك، وهو أمر مفهوم، الشعور المرافق الذي يتكون هنا عن انعدام الجدية والثبات من جهة الولايات المتحدة. 

> أثار قائد عسكري محلي أساسي متعاطف مع الولايات المتحدة سؤالاً حول «من في جيب من»، وحتماً هناك أسئلة يطرحها البعض حول ما إذا كان هذا القائد قد يشكِّل تهديداً أو يشكِّل بديلاً. الديبلوماسي»: ربما كان رامسفيلد يقصد بهذا الكلام العماد ميشال عون الذي تم تعيينه قائداً للجيش اللبناني بعد نحو ستة أشهر من تاريخ هذا التقرير وتحديداً في 23 حزيران/يونيو 1984).

> شعور بأنه في حال انسحابنا سوف يغرق المتعاملون معنا، ومعهم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.  

> علاقة مستعصية (Catch22 ) بين الحاجة الى النجاح العسكري وتحقيق الشعبية لدعم الحكومة، والعكس بالعكس.

> الرغبة في تغيير موازين القوى على الأرض من أجل إيجاد استقرار كاف لتحقيق التماسك السياسي وتغيير أفكار العدو، لكن ذلك دونه موانع سياسية (الكونغرس، حلفاؤنا في القوات المتعددة الجنسيات، الخ...).

> وجود كونغرس متقلِّب يبعث بإشارات ملتبسة حول قدرتنا على البقاء، وسلطة تنفيذية غير موحَّدة تبعث بإشارات متعددة في السر وفي العلن، بالقول وبالفعل.

> رغبة دفينة لدى الطرفين في أن يكون هناك «قنصل» أو وصي أميركي الديبلوماسي»: كما جرى فيما بعد مع غازي كنعان السوري وليس الأميركي) مع ما يرافق ذلك من الضعف المحتوم والشلل الذي يصيب المحكومين من جراء أحكام الضبط والسيطرة.

> تعقيدات وتداخلات في مواقع السلطة وتسلسل الأمرة على الصعيدين العسكري والمدني مع كل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر.

> كثرة عدد المبعوثين الزائرين (كثيرون جداً، أكثر من اللزوم).

> جعبة هزيلة من السهام، بعضها مثلوم، وبعضها طري، وليس «بين بين» سوى قلة ضئيلة جداً. حالة أشبه بمن يبني بيتاً باستخدام المطرقة والمنشار بدلاً من عدة بناء كاملة. 

> في مقابل خصم لا يعرف التحريم والتحليل، وصبره لا ينفد، ولا روادع داخلية له (الكونغرس، والصحافة، الخ...) بالنسبة الى الوسائل التي يختارها (الحرب، الإرهاب، الاغتيال، الخ...)

لا يجوز أن نبالغ في هذا التناظر، لكنه أمر جدير بشيء من التأمل، لا بسبب خطر جرِّنا الى حرب برية، لكن بسبب الاحتمالات العديدة لإلحاق الأذى بأنفسنا وبآخرين من جراء الخطأ، أو عدم اليقظة، أو عدم الدقة في الحساب. إن ما تسير عليه أميركا من نوايا حسنة، وحدس مرهف، ومنطق قاطع، هو وصفة للمتاعب في منطقة عديمة الرهافة في الحدس وقلما عرفت المنطق كما عرفناه في إطارنا نحن. من جهة كان الضرر بالغاً. ومن جهة ثانية، تنبئني حاسة الشم لدي بأن الاحتمالات تتراكم بقوة ضدنا هنا. كم كنت أتمنى لو أننا لم ندخل الى هنا. إننا بحاجة الى البحث عن طريقة معقولة للانسحاب بوقار.
إن التنسيق بين الجوانب السياسية والعسكرية في أي عملية أميركية هو أمر صعب دائماً. وأملي أن تكون خطوط الاتصال العسكرية المتعددة على موجة واحدة (منظمة استيعاب المعلومات للوكالات الدفاعية، القوات البرية، الارتباط بالقيادة الأوروبية «يوروكوم»، مكتب التعاون العسكري، ممثل رئيس هيئة الأركان المشتركة)، وأن تكون تلك هي الموجة الصحيحة. ويبدو أن الولايات المتحدة قد عدَّلت تدريب الجيش اللبناني من حالة التعامل مع الميليشيات المسلحة الى نطاق أوسع من العمليات ضد وحدات أكبر بكثير. وأتساءل ما إذا كنا نعدُّهم للقتال في الحرب الصحيحة.

تقول لي عيني غير المدرَّبة أن وقف إطلاق النار الحالي هو مشكلة (وإن كان أفضل الممكن في حالة بالغة الصعوبة). كل الجهات تخرقه ما عدا الجيش اللبناني. فالخطوط الحالية غير مؤاتية لجهود الحكومة الهادفة الى بسط الأمن في بيروت، وهو أمر حيوي وحاسم لبقاء لبنان. وقد يتعين على الجيش اللبناني، أو أي جهة أخرى، تطويق بيروت وتنظيفها من المتسللين من أجل كسب الوقت للنظر في الوسائل الآيلة الى انسحاب القوات السورية والإسرائيلية. 

لقد صعقني ما صنعناه أو سمحنا بنشوئه من اتكال لبناني علينا، سواء كان ذلك عمداً أو سهواً. وقد أبلغني بعضهم أن علينا نحن أن نختار أعضاء الحكومة الجديدة. في رأيي، نحن نجازف بأن نكون مثل طبيب من الهواة يقوم بجراحة معقدة في الدماغ.

إن مستوى الالتزام الأميركي المطلوب من الحكومة اللبنانية يتجاوز، في الوقت الحاضر على الأقل، استعداد الشعب الأميركي والكونغرس لدعمه على أساس مستدام. فإذا كان الأمر كذلك، فإن الشعب الأميركي، واللاعبون الرئيسيون في الحكومة اللبنانية، وأعداؤهم، سوف تتبين لهم تلك الثغرة سريعاً، مع ما يرافق ذلك من مصاعب واضحة. إن السياسة الخارجية الأميركية يجب أن تكون متوطدة لدعم الشعب وإلاَّ فإنها ليست سياسة، بل هي مجرد انحراف أو زيغ مؤقت. وفاتحة الأمر إظهار أقصى درجة من الوضوح حول ما نفعل، ولماذا نفعله، وما هي التضحيات، ولماذا يستحق ما نقوم به تلك التضحيات، وما إذا كانت له حظوظ معقولة من النجاح.

إن إبقاء أمين الجميِّل في حيِّز «الخيارات الأميركية» (وهذا التعبير له)، يُحتِّم علينا الاستمرار في دعمه، وتكبُّد الضحايا، وإظهار القدرة الأميركية على البقاء. وعلى الرغم من أن ساعة «قرار صلاحيات الحرب» اقتربت أن تدق، فإن علينا أن نبقي القوات البرية الأميركية في «المتعددة الجنسيات» على أهبة الاستعداد في خنادقها (ولا تعود أدراجها كما حصل)، آملين أن تكون للإسرائيليين والفرنسيين الصلابة المطلوبة في مناسبات مختارة. ويمكننا، لو رغبنا، أن نزيح الجميِّل من «الخيار الأميركي» في اللحظة المناسبة ونلقيه في «الخيار السوري» أو في «الخيار الإسرائيلي»، وكلاهما لا يناسب أهدافنا المعلنة. الديبلوماسي»: قرار صلاحيات الحرب المشار اليه في تقرير رامسفيلد War Powers Resolution  هو قرار فدرالي يحد من صلاحية الرئيس الأميركي في إقحام القوات العسكرية الأميركية في النزاعات المسلحة من دون موافقة الكونغرس المسؤول عن إعلان الحرب بموجب القانون. لكن القانون يسمح للرئيس بإرسال القوات المسلحة للقتال خارج الولايات المتحدة على أن يبلغ الكونغرس بذلك في غضون 48 ساعة، وشرط أن تعود الى البلاد خلال ستين يوماً فقط مع فترة انسحاب لا تتعدى 30 يوماً إضافية).

الانسحاب من المستنقع اللبناني
ربما كان المسيحيون اللبنانيون يرون تقاطعاً في المصالح مع السوريين أو مع الإسرائيليين أو مع كليهما. فإذا تحرَّك الجميِّل في أي من هذين الاتجاهين فإن ذلك قد يؤدي الى نوع من التقسيم في الشمال أو الجنوب، لكنه يؤمن مظلة واقية (سورية أو إسرائيلية) لما يتبقى من لبنان. ولمَّا كانت سوريا تحترم إسرائيل (حتى لو أنها لا تبدي الاحترام لنا)، فإن «الخيار الإسرائيلي» له حظ أوفر من الديمومة. أما الحكومة اللبنانية فيجدر بها أن تتمسك بالخيار الأميركي فقط إذا ارتأينا أنه بإمكاننا إدامة حضور لقواتنا البرية يكون ثابتاً وصبوراً ومتأهباً. (أن نكون حذرين في شأن انسحابنا من نقاط التفتيش المهدَّدة، ووضع مراكز قيادة مشاة البحرية (المارينز) في عرض البحر بعيداً عن الشاطىء، وما الى ذلك، وإذا كان بمقدور الولايات المتحدة أن توطد العزم على التصرف بقوة في مناسبات مختارة (وهذه النقطة تبدو عرضة للنقاش).
لم تكن صياغتي جيدة لهذه الأفكار حول لبنان، لكن مهما تم تزيينها فإنها لن تكون خياراً سهلاً، بالنظر الى القيود المفروضة من الكونغرس، وتشبه تشابك خيوط «غزل البنات» الرفيعة، التي تقيِّد وتكبح أي عمل فعَّال تقوم به السلطة التنفيذية، وبالنظر الى أن السوريين أصبحت لديهم الدراية المتقدمة ليعرفوا ذلك. فقد أبلغني أحد الأردنيين أن السوريين قد حلَّلوا قانون صلاحيات الحرب الأميركي بالإضافة الى الأحكام القضائية ذات الصلة التي أصدرتها المحاكم حول الفيتو التشريعي. إنه من الأفضل لنا أن نتدبر أمر انسحابنا من هذا المستنقع.

لبنان (من جديد)
في اجتماعنا الثاني بعد أسبوع بدا الرئيس الجميِّل متعباً شارد الذهن. ظهر عليه تبرُّم من إسرائيل أكثر من تبرُّمه بسوريا. كان قد عاد لتوِّه من المملكة السعودية، وكان شديد الحساسية حول ترميم مكانته العربية. وزيارته الى واشنطن سوف تؤثر في حسم مسألة على أي جانبيه يميل عندما يغادر عائداً الى بيروت. فإذا عاكسته كل الرياح فإنه سوف يخسر أتباعه. كان طبعه أكثر تحفظاً  مما كان عليه في اجتماعي الأول معه، لكن بدا يركِّز على الأمور التي تضايقه أكثر من تركيزه على الخطوات التي ينوي اتخاذها بشأنها. يبدو أنه يركز على تضايقه من الماضي أكثر من تركيزه على الخطوات المتوجب اتخاذها لتحسين الأحوال. شعوري أنه يحادث السوريين. شعر أن زيارته الأخيرة الى واشنطن لم تكن مثمرة، وحيث كانت ذات مضمون فإنها لم تركِّز على القضايا الأساسية ذات الصلة. إنه يبحث عن جواب بسيط سهل ـ القوة الأميركية على المنوال الذي اقترحه ملك الأردن. إنه يقاوم المصالحة السياسية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ربما بسبب ضغط جماعته. لكن هذا يجب أن يحدث وعلينا أن ندفعه في هذا الاتجاه.

مصر
كان اللقاء مع مبارك الديبلوماسي»: الرئيس المخلوع حسني مبارك) مفاجأة. من اللحظة التي دخلت فيها تقدم مني وكأنه من شرطة مكافحة الشغب، ومعه لائحة طويلة من الشكاوى والمنغصات والشكوك التي أراد أن يزيحها عن صدره. لكن حدة اللهجة في تعليقاته اضطرتني الى دحض بعض ادعاءاته الجدية. كانت مقاربته، بالكلمات التي اختارها والأسلوب الذي اعتمده، تنبىء بأنه لا يكنُّ احتراماً كبيراً للولايات المتحدة.، وبأن لديه شعوراً بالخذلان، أو على الأقل خيبة الأمل بالولايات المتحدة. إنها ليست وضعية مفرحة. على أنني يجب أن أشير الى أن انطباعاتي الشخصية لا تتوافق مع البرقية الأخيرة من سفارة القاهرة وتتضمن خلاصة أدائها خلال فترة خدمة آثرتون. الديبلوماسي»: يشير رامسفيلد هنا الى ألفرد روي آثرتون السفير الأميركي في القاهرة، وهو ديبلوماسي محترف في الخارجية الأميركية عمل سفيراً في القاهرة من 1979 الى 1983 فخدم بالتساوي بين رئاستي السادات ومبارك. وقبل ذلك عمل مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى من 1974 الى 1978. وقد توفي السفير آثرتون في عام 2002).

إسرائيل
لا مفاجآت. يبدو أن شامير الديبلوماسي»: رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك اسحق شامير) يتمتع بصلابة حديدية تحتاجها بلاد بهذا الحجم والتاريخ. وبالنظر الى صلابة الأسد الديبلوماسي»: الرئيس السوري حافظ الأسد) وتصميمه وقوة عزيمته، فإن إسرائيل محظوظة بوجود شامير، لكن هذا لا يعني أن المصالح الأميركية والإسرائيلية متطابقة دائماً. إن تعليقات الجميِّل الديبلوماسي»: الرئيس اللبناني أمين الجميِّل) تثير قضايا يجب بحثها تمهيداً لزيارة شامير. ومن المفارقات الإشكالية، أنه الديبلوماسي»: أي الرئيس أمين الجميِّل) قلق من التعاطي المباشر مع إسرائيل لأنه كما قال لي: «إسرائيل تستطيع أن تأكلني مثل لقمة الخبز».
يقلقني مفهوم «التعاون الاستراتيجي الأميركي مع إسرائيل» الديبلوماسي»: يكتب رامسفيلد، كما هو معروف، بأسلوب يتداخل فيه الغموض الشفاف، حمَّال الأوجه، مع الوضوح الفاضح. وفي هذا المقطع، ومن غير أن يقول ذلك، يبدو أنه يشير الى سماعه العبارة المذكورة من الرئيس اللبناني أمين الجميل، لأنه وضعها بين مزدوجين كاستطراد لما نقله في الفقرة السابقة عن لسان الجميِّل). إنني لا أفهم ماذا تعني، أو ماذا نعطي وماذا نأخذ منها. هذا غير مسعف في تلك المنطقة. فإذا حصلنا من إسرائيل علىقرار بتجميد بناء المستوطنات أو أي اختراق كبير آخر في إطار عملية السلام، فإنني أرى المنطق في هذا الكلام. أما فيما عدا ذلك، فإنني أظن أن العبء سوف يكون أكبر من المنافع، ومسألة المبادلة أمر بحاجة الى نقاش. الديبلوماسي»: استخدم رامسفيلد في هذه العبارة الأخيرة كلمة Reciprocity الإنكليزية، وهي تعني تبادل المنافع أو المعاملة بالمثل، أو رد التحية بمثلها).
 
المملكة العربية السعودية
لا مفاجآت. كان الملك ودوداً. آمل أن نصل الى نقطة يمكنهم معها مساعدتنا على ردم الهوة، البوصات الست الأخيرة الديبلوماسي»: يقصد رامسفيلد بذلك المرحلة الأخيرة المتبقية من عملية السلام مع إسرائيل). وأملي إذا استطعنا تحقيق ذلك أن تدب فيهم الديبلوماسي»: أي في السعوديين) الشجاعة الكافية لتقديم العون اللازم. على أن الأمرين كليهما الديبلوماسي»: أي الشجاعة والمساعدة) سؤال مفتوح جداً.

تركيا
يتغيَّر كل شيء ولا شيء يتغيَّر. بعد مضي تسع سنوات عادت الينا مشكلة قبرص. الديبلوماسي»: يقصد رامسفيلد الفترة الممتدة من الاحتلال التركي لشمال جزيرة قبرص عام 1974 في عهد حكومة بولند أجاويد وحتى زيارته التي يتناولها في تقريره هذا عام 1983). لقد تصرَّفت بموجب تعليمات الحكومة الأميركية (لاحظت أوجه الشبه مع الموقف السوفياتي). أعتقد أن في يدنا سمكة أكبر نقليها، وأملي أن نتذكر أن اليونانيين ليسوا فوق الملامة، وأن تركيا تنتقد الولايات المتحدة. الديبلوماسي»: يبدو أن رامسفيلد بإلقائه الملامة على اليونانيين، أراد تبرير سياسة التمسك بتركيا، وهو ما قصده على الأرجح بعبارته «السمكة الأكبر» المتاح قليها، وهذا تعبير شعبي أنكلو ـ أميركي لوصف غنيمة دسمة أو منفعة وازنة). على وزارة الخارجية أن تبادر الى العمل بشأن قبرص للحد من الضرر اللاحق بعلاقتنا مع تركيا. وفي حين أن ذلك لا يسعفنا في الشرق الأوسط، فإن اختياري لنقل الرسالة لم يكن اختياراً سيئاً لأن الأتراك يعرفون أنني صديقهم وأنا أقر بذلك. ومع أن الاهتمام بالمشكلة القبرصية الآن هو حرف للأنظار، فقد كان اجتماعنا جيداً حول مصالح تركيا في الشرق الأوسط. الديبلوماسي»:حبذا لو أن رامسفيلد تناول مسألة مصالح تركيا في الشرق الأوسط بشيء من التفصيل أو التوضيح، لأن ذلك من شأنه أن يلقي بعض الضوء على التطورات الجارية الآن في المنطقة، وخصوصاً في سوريا والعراق، الجوار العربي المباشر لتركيا)

الأردن
إنهم الديبلوماسي»: أي الأردنيون) ضد السوريين، ويشعرون أنه إذا زال لبنان تصبح الولايات المتحدة خارج الشرق الأوسط، فتستدير سوريا نحو الأردن وتستهدفه في الطريق الى المملكة العربية السعودية. يشعر الملكالديبلوماسي»: يقصد الملك حسين بن طلال) بشيء من «القرف» من البلدان الخليجية المجاورة التي تطعم التمساح (سوريا وليبيا) على أمل أن يجعلهم آخر ضحاياه، لكنه لا يرى إمكانية معارضة السياسة السورية الناجحة في ابتزازهم. هو يشعر أنه ليست للولايات المتحدة سياسة. إنه يتبع نهجاً حكيما بتقوية علاقاته مع كل من مصر وتركيا. امتعض الملك من تأخر الولايات المتحدة في الإجابة عن رسالته، وهو أمر يوليه أهمية كبيرة، وقد مضى عليها خمسة أسابيع (حتى الآن)الديبلوماسي»: لم يتطرق رامسفيلد الى مضمون رسالة الملك حسين الى الحكومة الأميركية، ولم يذكر تاريخها، وهو على الأرجح في أواخر شهر أيلول/سبتمبر 1983 أو مطالع شهر تشرين الأول/أكتوبر من تلك السنة إذا أخذنا بالاعتبار فترة الخمسة أسابيع التي ذكرها رامسفيلد، لكن عبارته الأخيرة «حتى الآن» تشير الى أن الأميركيين ليسوا في وارد الاهتمام بها أياً كان مضمونها، كما تبيِّن أن رامسفيلد لم يطَّلع على مضمون تلك الرسالة، إلاَّ بمقدار ما سمعه عنها من الملك حسين).

سوريا
كان الرئيس الأسد في المستشفى. قابلت وزير الخارجية عبد الحليم خدام. إنهم لم يتزحزحوا قيد أنملة، وهم مهرة بصورة مذهلة في التمسك بأي ذريعة لتبرير موقفهم وزيادة الضغط على الحكومة اللبنانية والولايات المتحدة. القادة السوريون صبورون جداً، وقساة لا يرحمون. فإذا كان الجميِّل يخشى أن تبتلعه إسرائيل «مثل لقمة من الخبز»، فإن السوريين قادرون على ابتلاعه مثل «فرمة بطاطا». والى أن نتبصَّر في خطتنا بدقة، يلزم الولايات المتحدة أن تبعث الى سوريا بإشارة واحدة ثابتة قوامها التصميم والصبر.    
إننا بحاجة الى التكلم بصوت واحد، وهذا ما لا نفعله الآن. علينا أن نواصل الحوار على أن لا ننحني بوصة واحدة قبل أن نقرر أي طريق نتحرك فيه. ربما يمكنك أن تخفف قليلاً من طاقم السفارة في دمشق.

أفكار شتَّى
أظن أنه يجب علينا أن نخفف قبضتنا عن الشرق الأوسط بعناية فائقة حتى لا نزعزع الأمور أكثر. علينا أن نحاول ما يلي:

> أن نضيِّق الفجوة بعض الشيء بين الانطباع الحالي المنفوخ والمضخَّم عن قدراتنا، وبين ما يبدو أنه الواقع الفعلي.

> أن ننقل الإطار من الوضع الراهن حيث كل الأطراف تبلغنا أن الذنب ذنبنا، ويُظهرون غيضهم لأننا لا نفعل كذا أو كذا، الى إطار يقوم على جعل كل الأطراف تخطب ودنا وتسعى الى نيل مساعدتنا.

> لا يجوز لنا أبداً وعلى الإطلاق أن نستخدم في المستقبل قوات أميركية كقوات لحفظ السلام. إننا هدف كبير جداً. (فلندع الفيجيين والنيوزيلانديين يفعلون ذلك)الديبلوماسي»: وضع رامسفيلد في تقريره خطاً تأكيدياً تحت عبارة «أبداً وعلى الإطلاق» للتشديد على أهمية توصيته هذه).
> يجب أن نواصل تذكير أنفسنا بأن الدخول في شيء هو دائماً أسهل من الخروج منه. الديبلوماسي»: هنا يبرز سؤال منطقي: لماذا لم يعمل رامسفيلد بهذه القاعدة أو يتذكرها أو يذكِّر بها عندما كان وزيراً للدفاع في إدارة جورج دبليو بوش التي قررت احتلال أفغانستان والعراق بين 2001 و 2003؟ ).
كم كان حسناً لو استطاعت الولايات المتحدة أن تكون في وضع تستفيد فيه من أخطاء الآخرين، بدل أن يستفيد الآخرون من أخطائنا. لم أسمع مثل هذا الهراء الذي سمعته منذ أن كنت رئيس هيئة الموظفين في البيت الأبيض.الديبلوماسي»: خدم رامسفيلد في البيت الأبيض كرئيس لهيئة الموظفين في عام 1974 ـ 1975. لكن العبارة التي استخدمها على أنها «هراء» هي الكلمة الإنكليزية العامية Guff التي تعني، حسب استخدامها الشارعي الدارج، التفوُّه بعبارات هوجاء يتقصَّد قائلها التضليل أو الخداع وتكون عادة بلهجة لاذعة. وربما قصد رامسفيلد في هذا التقرير «الهراء» الذي سمعه من المسؤولين في منطقة الشرق الأوسط حول التوجهات الأميركية في المنطقة).

>>>
ربما احتجنا الى شيء من التحرك حول لبنان للبدء بإعادة تنشيط عملية السلام. لكن علينا أن نظهر جهودنا في المسألتين الديبلوماسي»: يقصد رامسفيلد المسألة اللبنانية وعملية السلام). يمكننا أن نمهِّد الأرضية اللازمة لتوسيع عملية السلام ونحن نعمل على الوضع اللبناني.
إننا بحاجة الى خطط تفصيلية لعملية السلام وللبنان وهو ما يعطينا في ظاهر الأمر احتمالات معقولة على الأقل لتحقيق أهدافنا. ويبدو أن الحكومة الأميركية لن تعكف على ذلك قبل زيارتي شامير والجميِّل. أفترض أن الحكومة الأميركية تعمل على تطوير هذه الخطط. وعلى افتراض أن الجميِّل متمسك بـ«خياره الأميركي» في لبنان، فإننا بحاجة الى لائحة شاملة من الإجراءات ـ سياسية، وعسكرية، واقتصادية ـ ويمكننا، مع آخرين يرون رأينا، أن نبدأ بانتهاج مثل هذه المقاربات لخلق مناخ يساعد على تقوية الحكومة اللبنانية، ويتضح معها لسوريا أن خير تحرك لها هو الانسحاب من لبنان. أظن أن الأمر يقتضي شيئاً من التفكير الخلاَّق.
إنه وقت مؤات للانكفاء والتفكير بإمكانية إعادة صياغة القضايا المطروحة بطريقة أنسب. علينا أن نقوِّم قدرتنا على البقاء، والنظر في تحديد بعض الخطوط الحمراء سياسياً وديبلوماسياً (وأن نتعهد الالتزام بها). على سبيل المثال: هل نحاول «إنقاذ» بيروت؟ هل تقسيم لبنان نتيجة مقبولة (سوف نحاول منع ذلك بالقوة)؟
نشكر الله الرحيم لأنه أنزل المرض بالزعيم السوفياتي أندروبوف والرئيس السوري حافظ الأسد في وقت واحد ليتيح لنا فرصة مؤاتية. من يدري، لعل هناك فرصة مدفونة في مكان ما تطل علينا وسط هذا المخاض.
ترددت قبل وضع هذه الأفكار على الورق، لكن في بعض الأحيان تكون الانطباعات الأولى (أو الانطباعات الخاطئة) مفيدة. وضعت هذه الملاحظات بعد كل محطة توقفت فيها لشعوري بأنها قد تشكل نقطة بداية للبحث بعد عودتي.
أعدك بأنك لن تسمع على لساني بعد الآن عبارة «الولايات المتحدة تسعى الى سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط». ليس هناك شيء من العدل، والشيء الوحيد الدائم الذي رأيته هناك هو النزاع والابتزاز والقتل ـ وليس السلام.
وفي المحصلة الإجمالية، «لو لم يكن لي شرف التكليف الذي أنيط بي لفضَّلت أن أكون في فيلادلفيا» الديبلوماسي»: قصد رامسفيلد دائرته الانتخابية في شيكاغو وليس في فيلادلفيا، لكنه استعار تلك الجملة حرفياً من قائلها للدلالة على ما يقصد فقط، وذلك بإرفاقها في نهايتها بالإيضاح المعتمد في الكتابة الإنكليزية وهو sic) Chicago )).

No comments:

Post a Comment