Thursday, November 14, 2013

"هل تحتاج سوريا الجديدة إلى "حياد إيجابي"؟

"هل تحتاج سوريا الجديدة إلى "حياد إيجابي"؟

ميشال أبو نجم

"النهار" الخميس 14 تشرين الثاني 2013


ارتبطت فكرة "الحياد الإيجابي" بلبنان منذ تأسيسه بسبب انقسامه الداخلي وحدّة الصراع الإقليمي والدولي على موقعه الإستراتيجي، في مقابل استقرار دول المشرق بسبب سلطويتها. لكن التطاحن السعودي الإيراني والتجاذب الدولي الذي يجعل من الحرب السورية الأعنف في المشرق منذ انهيار الأمبراطورية العثمانية، يسمح بالتساؤل عن فكرة "الحياد الإيجابي" كحاجة سورية بل مشرقية.

العامل الأساس الذي عمّم "الخصائص اللبنانية" في التنوع المذهبي وأزماته وكيفية إدارته والذي يسمح بمناقشة فكرة الحياد الإيجابي هو سقوط السلطويات العسكرية القومية في العراق والأزمة التي تواجهها في سوريا حالياً. لطالما تغنّت هذه الأنظمة وتفاخرت بأنها بعيدة عن "الأمراض" اللبنانية في الإنقسام الطائفي والتفكك. وبالتالي تحولها ساحة لصراع القوى الدولية والإقليمية، فإذا بصدمة 11 أيلول ولاحقاً التغيرات العربية تدفع إلى السطح بكل ما قمعته هذه الأنظمة في المشرق بالحديد والنار والإيديولوجيا وتفجِّر التناقضات الإجتماعية في شكل أعنف بكثير مما حصل في الحالة اللبنانية.

تاريخياً، كانت سوريا الحالية ممراً للغزوات والفتوحات والتجاذب خاصة بين ثلاث دول- أمم في المنطقة هي مصر وتركيا وإيران، وفي حال تنافس قوي مع العصبيات والأنظمة التي حكمت العراق، إضافةً إلى القوى الغربية. وبعد استقلالها عاشت سوريا أكثر من عقدين في عدم استقرار ترجم كثافة في الإنقلابات العسكرية لم تتكرر في أي بلد عربي آخر. كان التسارع في الإنقلابات نتيجة لصراع الأحزاب السورية والجيش والشخصيات التقليدية ووجهاء المدن والحركات الدينية والتناقضات الإجتماعية، لكن أيضاً بسبب عنف الصراع بين المحاور الإقليمية المتصارعة، وخاصةً بين العراق والسعودية ومصر.
فالصراع بين المحور الهاشمي العراقي الأردني ومصر والسعودية أرخى بظلاله على انقلابات مطلع الخمسينات، ومنح الزخم القومي بقيادة جمال عبد الناصر والتجاذب مع حلف بغداد الأسباب الكافية لقيام الوحدة مع مصر ولالتصاق سوريا أكثر بالناصرية وابتعادها عن الممالك العربية المحافظة. وذلك قبل أن يحصل الإنفصال مدعوماً من السعودية والأردن ومن ثم تقع الوقيعة بين البعث الجديد وجمال عبد الناصر وينعكس ذلك تأثيراً على تياريهما في الجيش في أوائل الستينات ويُصفى الجناح الناصري بقيادة جاسم علوان من المؤسسة العسكرية والتأثير السياسي، بعد محاولة انقلاب فاشلة. وأعقب ذلك بدء التنافس العنيف والدموي بين التوأمين البعثيين في سوريا والعراق على خلفية الصراعات الحزبية القيادية.
اليوم ومع انهيار السلطوية، عادت سوريا لتصبح "ملعباً" للصراع كما كانت في أعوام الخمسينات والستينات قبل أن يُحكِم حافظ الأسد قبضته ويجعل من سوريا لاعباً أساسياً على مستوى المشرق والمعادلة العربية، بشهية للسيطرة على القرار الإستراتيجي في أطراف المشرق من الأردن ولبنان إلى المنظمات الفلسطينية. بنى الأسد الإستقرار السوري الداخلي ودور "اللاعب" بتوازن بين تكريس النظام السلطوي وجهاز القمع بمرونة أوسع مع النخب السنية البورجوازية خاصة الدمشقية، والإستفادة من المعادلات والحاجات الإقليمية والدولية من خلال لعبة "حافة الهاوية" التي سمحت له بهامش واسع من مناورة الحركة. فيتحالف مع الإتحاد السوفياتي لكنه يهيمن على لبنان بتغطية أميركية ويحجّم منظمة التحرير ويشارك في تحرير الكويت تحت العلم الأميركي، ويتحالف مع إيران مع الحفاظ على علاقاته مع السعودية ومصر اللتين بنى معهما في التسعينات أرضية لركيزة عربية مؤثرة، ويضرب "الإخوان المسلمين" بغض نظر من النظامين الأصوليين في السعودية وإيران، ويدعم قوى المقاومة ضد إسرائيل لكنه يشارك في مؤتمر مدريد ومفاوضات جنيف وشيبردتاون. ولا يتردد في استيعاب التحرك الأميركي الإسرائيلي في مواجهات الأردن عام 1970 والتخلي عن قرار دعم الفدائيين الذي كان احد الأسباب التي سرعّت أو استخدمت لتصفية الجناح البعثي اليساري المتشدد الذي كان يقوده غريمه آنذاك صلاح جديد.

في سوريا الحالية اكتمل مشهد النزاع العالمي على "عقدة المشرق"، وبات واضحاً للعيان أن آليات القمع الداخلي وعنف الحركات المعارضة للنظام لا تكفي وحدها لصنع كل هذا التفكك والدمار. فالمعادلة الحالية هي نتيجة قرار إيران وروسيا بالذهاب في الدفاع عن مصالحهما واعتباراتهما "الوجودية" في سوريا حتى النهاية، في مقابل الإصرار السعودي ومعها الخليج على تحطيم النفوذ الإيراني في المشرق. وفي حال استمرار المواجهة الحالية حتى ولو سقط النظام السوري، وقبل اتضاح صورة لتسويةٍ إقليمية ما أو المضي قدماً في الحرب، يصعب تخيل استقرار الوضع في سوريا مستقبلاً خاصةً مع بقاء نواة صلبة من الجيش البعثي وتركيبة سياسية وعسكرية علوية مواجِهة لأي نظام جديد لا يأخذ مصالحها في الإعتبار.

بغض النظر عن صورة التوازنات الإقليمية والدولية التي ستحدِّد موقع سوريا المستقبلية، ومدى التفكك الذي سيتحكم بواقعها الجغرافي والسياسي والإجتماعي، المؤكد أنها ستكون دولةَ ضعيفة تتناتشها المحاور والفوضى وتزدهر فيها "الأقاليم". من هنا فكرة التساؤل عن "حياد إيجابي" بين محوري الصراع الإقليمي المذهبي. المسألة لا تقتصر على سوريا بل تمتد إلى كامل المشرق الممزق من بغداد إلى بيروت، ولا تتعلق بصراع إقليمي استراتيجي فقط بل بالبنية الإجتماعية المذهبية المتنوعة التي تجعل من أي حدث في أي بقعة من المشرق يتردد صداه في كل الإقليم. هذا ما يجعل "الحياد" ليس إشكالية خاصة بلبنان وسوريا فحسب بل مسألة المشرق الواقع ضحية "فراغ القوة"، ويجعله خياراً أمام قواه المذهبية ونخبه الحاكمة المتصارعة، ومرتبطاً بفوائد التعاون المشترك بين بلدانه ومكوناته. هذا إن إرادت هذه المكونات أن يبقى لها مكان لها تحت الشمس وفي معادلة المنطقة من دون الحروب باسم الله والأولياء!


·        كاتب سياسي

No comments:

Post a Comment