بقلم الصديق الدكتور فهد عكروش
فَرَغْتُ لِلتَّوِّ مِنْ قِراءَةٍ دَقيقَةٍ وَمُرَكَّزة لِمُذَكِّراتِ نائِبِ رَئيسِ مَجْلِسِ النُّوّابِ إيلي الفُرْزُلي بَعْدَ أَنْ كَلَّفَني فَشَرَّفَني في هَذِهِ الْمَهَمَّةِ الّتي تَدُلُّ عَلى ثِقَةٍ وَمَحَبّة وَتَقْديرْ.
مَهَمّةٌ لَيْسَت سَهْلَةً إنَّما مَحْفوفَةً بِروحِ الْمُغامَرَةِ وَإِعادةِ اكْتِشافِ مَرَحَلَةٍ حَسّاسَّةٍ مِنْ تاريخِ لُبْنانَ الْحَديثِ أَعادَ كِتابَتَها الرَّجُلُ وَهُوَ مِنْ صُلْبِها وَحَرَكَتِها أَماطَ اللِّثامَ عن مُدَّةٍ حَرِجَةٍ مِنْ تاريخِ الْبِلادفَأَتى قابَ قَوْسَيْ الرَّجُلِ "أَجْمَلُ التّاريخِ كانَ غَداً" حَوالي ٨٠٠ صَفْحَةٍ كُتِبَتْ بِميزانِ ذَهَبٍ تَراصَفَتْ كَلِماتُهُ الْمُثْخَنَةُ بِتَجْرُبَةِ الرَّجُلِ وَقِيَمِهِ السِّياسِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ.
أَنْ تَقْرَأَ إيلي الفُرْزُلي هَذا لَيْسَ سَهْلاً فالرَّجُلُ مَطْبَخٌ سِياسِيٌّ مُتَكامِلٌ تَسْتَطيعُ النَّفاذَ مِنْهُ إلى عَوالِمِ السِّياسَةِ اللُّبْنانِيّةِ المُعَقّدَةِ بِعِلاقاتِها الإِنْسانِيّةِ وَعِلاقاتُ السُّلْطَةِ المُتَبادَلَةِ وَتَفاعُلاتِها وَمُمارَساتها الإِتِصالِيّةِ الّتي يَتَوَقَّفُ عِنْدَها الرَّجُلُ لِما تَنْطَوي عَلَيْهِ من مَلامِحٍ وَإيحاءاتٍ تَتَقَدَّمُ مَعَها العلاقات السياسية او تتراجع على ضوء معطياتها.
تُساعد المذكرات لما فيها من خلاصات وتجارب فردية في انتقاء ما يتلائم منها مع الراهن الفردي والجماعي والسياقات العامة والكشف عن ملامح تطور العلاقات الاجتماعية والسياسية من منظور العائلة الفُرْزُليَّةِ التي اكتسبت غناها من محيطها المتنوع بقاعياً وأكسبته غناها وخبرتها ورؤيتها للأمور انطلاقاً من جدي ملحم الطبيب العائد (راجع القسم الاول "البيت العتيق) من شيكاغو والذي افرد له مساحة واسعة فهو الاب المؤسس والمدبر والجد المرجع مرورًا بالعم أديب النّائب "بلبل المجلس" وصولاً الى نجيب الأب والمحامي اللامع تتوالى فصول الكتاب المسندة والمستندة الى مراجع وهوامش تكاد معها لا تجد أية انفراط لعقد لغوي او علمي او بحثي.
ما خلت صفحات الكتاب من صفحات حملت روح الهزيمة التي اصابت العائلة التي كانت مع كل صفعة تقف من جديد أقوى وأمتن (راجع القسم الثاني "خيبات وملمّات").
وإذا كان الطفل أب الرجل حمل (راجع القسم الثالث "البدايات") ملامح الطفل ايلي حينذاك الذي لم تَرُق له دراسة الطب فطرده الوالد من المنزل بعد ان عرف ان ابنه يدرس سِرّاً الحقوق فتدخل العم شكيب على الخط مصالحاً الاب مع ابنه تلحظ في هذا القسم الملامح التي ستستقر عليها شخصية ايلي الطفل والمراهق مستقبلاً عندما سيصبح شاباً رسمت المحاماة والسياسة هويّته العريضة.
ما اكتفت المهنة في تكوين هذا الشاب الذي حمل مُحيّاه ملامح بشير الجميّل بل حملته الحرب باكراً ليقف خلف متاريس المفاوضات والوساطات التي لم يسلم هو شخصياً من شظاياها لكنّ خلاصة "الحل الزّحلي" ذلك الحين كانت عصارة جهد هذا الرجل في تضميد جراح زحلة المدينة التي "لا يأمن وجهها لظهرها ولا ظهرها لوجهها" (راجع القسم الرابع "حرب السّنتين").
لم يكن "الزمن السوري" سهلاً على الرجل الذي تلقّفه كالجمر في الأيدي فكان فيه مرجوماً مظلوماً كان قريباً وبعيداً في آنٍ مَعاً عن هذا الزّمن الصّعب الذي رافقه بحَذَر ومضض ومشقّة مع كل ما رافق ذلك الزمن من شخصيات دينية ودنيوية (راجع القسم الخامس "الزمن السوري")
ولـ"الزمن السوري" في كتاب المذكرات النفيس ظلّه في الحرب كما في (السلم) وما بين الامتدادين خفايا اسدل الرجل عنها السّتار للمرة الاولى ما بعد اتفاق الطائف منها المتعلق بميشال عون وما علق ايضاً بين رنيه معوض وإلياس الهراوي وصولاً الى صفقة "بوما" وبراءة أمين الجميّل منها والتي حاكها الفرزلي على نوله ليستقر آخر الكلام عن رفيق الحريري بما له وما عليه. (راجع القسم السادس "في ظل الطائف").
والدور المسيحي المنحصر ذلك الحين له حصة كبيرة من الكتاب الذي عمل صاحبه على تقريب وجهات النظر بين المسيحيين والواقع الجديد وقتذاك من خلال "الحوار الصعب" مع الرهبان والرهبانيات (المارونية على وجه الخصوص) ليتعدى الكلام في هذا السياق الى الدور الفاتيكاني واوجه العلاقة الفاتيكانية مع مسيحيي لبنان. (راجع القسم السابع "الدور المسيحي")
وإذا كانت المذكرات تحمل بُعداً محلياً بطبيعة الحال والواقع المرتبط بكاتبها لكنها حملت في طياتها بُعداً عالمياً (راجع القسم الثامن "إطلالة على العالم") من خلال الدبلوماسية البرلمانية وسلطة الاعلام العالمي والجولات العالمية بين العواصم العربية والغربية دون ان يغفل الرجل عن الحديث عن ارتباط هذه النقاط بالسياق المحلي من نتائج وتأثيرات. (راجع القسم الثامن "إطلالة على العالم").
ما كانت العلاقة مع إلياس الهراوي ناجحة ولم يجمع بينهما سوى الاسم الاول فالعلاقة طوال العهد كانت مضطربة لاعتبارات مختلفة (راجع القسم التاسع "سنوات من العثرات").
لم يغفل ابن العم أديب في مذكراته عن قوانين الانتخاب التي ارتبط اسمه بها في القديم والحديث فكان عرابها خصوصا بعد "الاقتراح الأرثوذكسي" الذي ارتبط باسمه ذخرت المذكرات بالأرقام والدوائر والتحالفات ورسم ملامح المجتمع الانتخابي (راجع القسم العاشر "الائتلاف المستعصي").
يعترف الفرزلي في متن الصفحات المقبلة برهانه الخاطىء و"الانقلاب الذي ظل فكرة" على عهد الهراوي (راجع القسم الحادي عشر "الرهان الخاطىء").
وصولاً الى عهد أميل لحود يُبدي الفرزلي في مذكراته امتعاضاً كبيراً من العهد والمحيطين به ويقف بإسهاب حول العلاقة بين بكركي وقرنة شهوان وسياسة مد اليد التي اتبعها تجاههما (راجع القسم الثاني عشر "القطيعة").
صعباً كان وقع التمديد لإميل لحود على ايلي الفرزلي و"مكلفاً" كان هذا التمديد (راجع القسم الثالث عشر "الخليفة")
"الزلزال" هكذا وصف الفُرْزُلي جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري مُسهباً في اجتراح الوصف وتشخيص الألم الذي رافقه بعد الاغتيال على المستوى الفردي والوطني مُدركاً عمق الأثر وصعوبة المرحلة وما كان يُحاك للبلاد من خلال هذا الاغتيال "الجريمة البشعة" وتكر السبحة في تقديم الشروحات وعرض النتائج الناجمة عن هذه الجريمة سواء على المستوى الشخصي ام الوطني (راجع القسم الرابع عشر: "الزلزال").
ويتحدث الفرزلي في مذكراته التي ارادها "الى كل الذين يعملون ليكون لبنان وطناً ديمقراطياً نهائياً لجميع اللبنانيين" عن كيفية وصول العماد ميشال عون الى بعبدا وعن العلاقة بينه وبين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله (راجع القسم الخامس عشر: "رؤى لتحول لم يحصل").
متمهلاً في عرضه ومتخصصا بدا الفرزلي في مذكراته شغوفاً بحديثه عن قانون الانتخاب لاسيما القانون الأرثوذكسي الذي بدأ اقتراحاً ثم لقاءً فقانوناً غائصاً حتى العظم في حشد الحجج والبراهين والأسباب الموجبة لهذه الولادة "المستقيمة" التي تقف خلفها عوامل وجودية لم ينم الفرزلي الى ان ابصر مشروعه النور هو الذي وصل الليل بالنهار حتى اصبح حلمه الذي هو حلم كثيرين (سواء بالعلن او بالسر) حتى صار حقيقة واقعة. (راجع القسم السادس عشر "الأرثوذكسي خطوة... خطوة).
لم تغب عن مذكرات الفرزلي رؤيته واستشرافه للبنان والإقليم من خلال مجموعة مقالات واوراق بحثية عن روسيا وسوريا والفاتيكان ومصر (راجع القسم السابع عشر "آراء ومواقف").
"مظلوماً ايلي الفرزلي في مذكراته" على حد تعبير الكاتب الكبير جهاد الزين لانه يُصعب ان تفيه حقه في بضعة سطور وكلمات هو الذي ان قصد لكتب ٨٠٠ صفحة أخرى لتجربة رجل ووطن وإنسان.
Charbel Laham, Lerissa Ferzli and 21 others
3 Comments1 Share
Like
No comments:
Post a Comment