Saturday, June 6, 2015

الطابخون على الشمس!

عن «الديبلوماسي» الصادر في لندن لمحرره ريمون عطا الله


الطابخون على الشمس!

لليمنيين ثلاثة حلفاء ليس من بينهم إيران، كما يزعم الزاعمون. حلفاؤهم هم: الزمان، والصبر، والجبال، ورابعهم... «القات». 
روما في عزِّها أيام أغسطس قيصر فشلت في حملتها باتجاه اليمن. تاه جيش القائد الروماني إيليوس غاليوس في الصحراء عام 24 قبل الميلاد، وضاعت معه فرصة الوصول الى البحر الأحمر وباب المندب. الإمبراطورية البرتغالية المتجهة الى الهند والصين في «غوا» و «مكاو»  في القرن السادس عشر مرت في عدن مرور الكرام. ثم بعد نحو قرن ونصف القرن من ذلك جاءت الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، وفي طريقها الى الهند أيضاً، لتحط رحالها في عدن كذلك وتبقى هناك نحو قرن لأنها ملكت السيطرة على البحار بعد امتلاكها البخار، لكنها لم تجرؤ أو تفكِّر بالتوغل الى الداخل اليمني.
وبعد ذلك جاءت إمبراطورية بني عثمان فنطحت رأسها بصخور جبال اليمن، لترتد خائبة فبقي «سفر برلك» عبرة لمن يعتبر، ورواية لمن يستمع.
فاليمن هو المكان الذي ظل مستقلاً على دوام الدهر. لاستذكار هذه الحقيقة يكفي أن الإمام يحيى حميد الدين ومملكته المتوكلية في اليمن كانوا أول دولة في العالم اعترفت بالثورة البلشفية في روسيا وبالاتحاد السوفياتي الناتج منها، في عشرينات القرن العشرين يوم كان الأميركيون والأوروبيون يخوضون الحرب الأهلية الروسية الى جانب الروس البيض. لم يكن نجم أميركا في ذلك الوقت قد بزغ على العالم، فأراد الإمام حليفاً دولياً قوياً ومهاباً في وجه الإنكليز الرابضين على جنوبه والداعمين لغريمه ابن سعود. إذ يمكن القول بأن الإمامة في اليمن هي الطبعة الأولى غير المنقَّحة من «ولاية الفقيه» قبل رفع رايتها مزيدة ومنقحة في طهران خلال العقود الأخيرة. الطبعتان تلتقيان على رفض ومقاومة التدخل الخارجي، وتفترقان على المناحي الاجتماعية: واحدة رجعية ومتخلفة وواحدة عصرية وتقدمية.
لم يكن اعتراف حكم الإمامة في اليمن بالاتحاد السوفياتي وثورته الاشتراكية من بداية الطريق المفارقة الوحيدة. وربما كانت المفارقة الكبرى تنافره مع الدولة السعودية الجارة على الرغم من تقاربهما في طبيعة نظام حكم كل منهما. ذلك أن الدولة السعودية الوليدة في نجد والمتحالفة مع الإنكليز المتواجدين في عدن والخليج، كان لديها مخطط توسعي شمل الحجاز والأحساء وعينها على اليمن، فاقتطعت منه ثلاث مناطق حدودية مهمة في ظروف مؤاتية لها هي: نجران، وجيزان، وعسير. فصار الجاران عدوين لدودين، على الرغم من اعتراف اليمنيين بالأمر الواقع الجديد في اتفاقية الطائف لعام 1934. لكن المعاهدات في مثل هذه الحالات لا تصفي القلوب.
ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 وبروز زعامة جمال عبد الناصر على المسرح العربي والإقليمي والدولي، أحدث بدوره مفارقات ملفتة في الجزيرة العربية. أقلقت ثورة 23 يوليو المصرية السعوديين، وأنعشت آمال اليمنيين. لكن عبد الناصر في مطلع عام 1956، وتحديداً قبل ستة أشهر فقط من العدوان الثلاثي (الفرنسي ـ البريطاني ـ الإسرائيلي) على مصر بسبب تأميم قناة السويس، أراد أن «يضبضب» الوضع بين السعودية واليمن تحت شعار «أمن البحر الأحمر»، فاتفق الثلاثة، المصريون والسعوديون واليمنيون على توقيع ما أسموه «ميثاق جدة» في 21 نيسان من عام 1956. هذا الميثاق الأمني وقعه عن مصر جمال عبد الناصر شخصياً، ووقعه عن السعودية الملك سعود بن عبد العزيز ومعه ولي عهده وزير الخارجية فيصل بن عبد العزيز، ووقعه عن المملكة المتوكلية اليمنية الإمام سيف الإسلام البدر نيابة عن أبيه الإمام أحمد حميد الدين.
ليس من المفيد الآن بعد ستين سنة، ومرور مياه كثيرة تحت الجسر اليمني والعربي عموماً، نبش مضامين ذلك الميثاق، ميثاق جدة لعام 1956. الأمر المهم هو ما نشأ عنه من مفارقات في التطورات اللاحقة. فقد اعتبر الإمام أحمد حميد الدين أنه حصل على ضمانة مصر وجمال عبد الناصر فأعلن انحيازه الى مصر وليكن ما يكون، على قول أنور السادات بعد «ميثاقه» مع معمر القذافي حيث قال: «أنا مع أخي معمر وليكن ما يكون»!
في حرب السويس بعد أشهر ستة من ميثاق جدة، اعتبر الإمام أحمد انتصار مصر على الإنكليز في تلك الحرب انتصاراً لليمن.
وعندما هاج العالم العربي وماج في مطلع عام 1958 مع قيام الوحدة السورية ـ المصرية وإعلان «الجمهورية العربية المتحدة» طالبت المملكة المتوكلية اليمنية بالانضمام الى دولة الوحدة، وأوفد الإمام أحمد ابنه الإمام البدر الى دمشق ليعلن انضمامه الى دولة الوحدة. لكن بسبب تفاوت الأنظمة طلب عبد الناصر من الموفد اليمني تشكيل صيغة اتحادية مختلفة تستوعب المملكة اليمنية أطلقوا عليها اسم «الدول العربية المتحدة» ووضعوا لهذه الصيغة هيكلاً ودستوراً.
لكن بعد الانفصال السوري عن مصر في عام 1961 نشأت مفارقات عجيبة غريبة ومتداخلة تتعلق بميثاق جدة المشار اليه. هو ميثاق أمني يُفترض فيه أن يشكل ضمانة لموقعيه بمساندة بعضهم البعض. الذي حصل هو أن عبد الناصر اتهم السعوديين بخرق الميثاق لوقوفهم وراء الحركة الانفصالية في سوريا، وفي هذا كثير من الصحة. 
أما المفارقة الأفدح فقد حدثت عندما قام الجيش اليمني بقيادة المشير عبد الله السلال بانقلاب ضد حكم الإمامة وإعلان النظام الجمهوري في صنعاء، واستنجاد الجمهوريين بمصر الناصرية المرتبطة مع حكم الإمامة بميثاق أمني يُفترض فيه أن يحمي الإمام البدر المخلوع الذي كان قد تسلَّم مقاليد الأمور بعد وفاة أبيه الإمام أحمد، والذي يجمعه مع عبد الناصر نظام اتحادي، كما سلف القول.
الشيء المضحك في الأمر أن الإنقلابيين الجمهوريين في صنعاء استندوا الى ميثاق جدة الموقع بيد الإمام البدر في طلبهم النجدة المصرية لتثبيت دعائم الإنقلاب على البدر. وفي هذه الخلطة العجيبة من تحالفات الأضداد صارت مصر المتحدة مع الإماميين حليفة المنقلبين عليهم، وصار الإماميون، الأعداء التاريخيون للسعوديين، في حضن المملكة السعودية.
انسحاب الجيش المصري من اليمن بعد حرب عام 1967 مع إسرائيل، زيَّن للسعودية أنها تستطيع الانفراد بحكم اليمن. قبلت بالحكم الجمهوري على هذا الظن ربما تحت شعار «جمهورية في الجيب خير من إمامة في الغيب»، وهي في الأصل إمامة معادية. 
ومنذ ذلك الوقت لم تنقطع المفارقات اليمنية وصولاً الى الوضع الراهن الذي يبدو فيه السعوديون وقد خرجوا من المعمعة اليمنية المتواصلة كالخارجين من المولد بلا حمُّص كما يقول المثل الشعبي. أو كأنهم اتكأوا على شعار جديد بدل جمهورية الجيب وإمامة الغيب قرأه اليمنيون على مزاجهم بما معناه «نحكمكم أو نقتلكم» ولكم الخيار، فهبت «عاصفة الحزم» التي قد تكون مخارجها هي الأخرى في تحالفات الأضداد كما جرى في زمن عبد الناصر والإمام البدر قبل نصف قرن.
المفارقة الجديدة هي أن السعودية التي بدت وسط «عاصفة الحزم» في موقع القوة، كانت في الحلبة السياسية في موقع ضعف. حصانهم في الميدان اليمني هذه المرة حصان أعرج لا يستطيع أن يمضي الى نهاية الشوط. لعلهم وهم ينظرون الى حصانهم الأعرج عبد ربه منصور هادي، يتندمون على حصانهم الجموح السابق علي عبد الله صالح. 
في السابق كانت القيادة السعودية المخملية للملف اليمني، المتمثلة بالأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد ووزير الدفاع، ثم بولي العهد ووزير الداخلية نايف بن عبد العزيز، تعمل على قاعدة «إن لله جنوداً من ذهب»، أي على «نظرية التزييت»، أو كما يقولون في بلاد الشام «أطعم الفم تستحي العين». ثلاثون سنة حكم علي عبد الله صالح اليمن بدعم سعودي (وأميركي) على أحسن ما يرام. لعب دور الثعلب ودور الأسد بغاية الإتقان الى درجة أنه مات وقام من بين الأموات، وبمساعدة السعوديين أيضاً، ليقف شوكة في حلقهم هذه المرة، وهذه أيضاً مفارقة من مفارقات اليمن التي لا تنتهي. خاض ستة حروب في الشمال، وحرباً كبرى طاحنة في الجنوب ضد الحراك الانفصالي في عدن، ولم يرف له جفن. أين هذا من الحصان السعودي الراهن الأعرج الذي هرب من الميدان عند أول طلقة!
خاض علي عبد الله صالح ستة حروب ضد الحوثيين في صعدة، وبمباركة سعودية. حاربهم في زمن قائدهم الأول بدر الدين الحوثي، وحاربهم في زمن قائدهم الثاني حسين بدر الدين الحوثي، مؤسس حركة «أنصار الله» المتشكلة على غرار «حزب الله» اللبناني الذي بات له في اليمن باع طويل. فلا عجب أن الطائرات السعودية المغيرة على صعدة تعمدت قصف ضريحه. وحاربهم أخيراً في زمن قائدهم الحالي، الفتى عبد الملك بدر الدين الحوثي. 
في آخر حرب شنها علي عبد الله صالح على الحوثيين قبل عزله في همروجة «الربيع العربي»، وقف السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني يخطب في بيروت داعياً الرئيس علي عبد الله صالح لوقف الحرب ضد الحوثيين. ومما قاله نصر الله في ذلك الخطاب عبارة ملفتة: «ما الحوثيون وما علي عبد الله صالح». بمعنى أن الحوثيين والرئيس اليمني المخلوع تالياً يمكنهما أن يشكلا فريقاً واحداً بدل أن يكونا فريقين متخاصمين ومتقاتلين. وبالفعل صار صالح فريقاً واحداً مع الحوثيين أعداءه السابقين، ولو بعد خلعه. هذا الذي أفقد السعوديين الجدد صوابهم، ربما لأن فتيلتهم قصيرة خلافاً للأولين.
حتى تنظيم «القاعدة» الإرهابي في اليمن، الذي كان من أهم الأذرع السعودية لأميركا في حرب أفغانستان ضد الجيوش السوفياتية، استطاع علي عبد الله صالح ترويضه الى درجة أن طائرات أميركا الإلكترونية بدون طيار عجزت عن اصطياده. ويمكن الرجوع لفهم تلك الحقبة الى تحقيق لـ«الديبلوماسي» حول الموضوع عنوانه «اليمن التعيس.. القاعدة في مكتب الرئيس»!
من المفارقات الملفتة أيضاً التشابه في الوضع السياسي بين اليمن ولبنان. كلاهما مسرح لصراعات إقليمية وليس في أي منهما رئيس للجمهورية. تنظر الى الرئيس اليمني السابق الجنرال عبد ربه منصور هادي فكأنك تنظر الى الرئيس اللبناني السابق الجنرال ميشال سليمان، وكلاهما يهتف بحياة المملكة السعودية. وتنظر الى إعلان لقاء الرياض لليمنيين المنفيين وهو إعلان تجاوزته الأمم المتحدة أخيراً بالدعوة الى لقاء آخر غير مشروط في جنيف، فكأنك تنظر الى إعلان بعبدا، فوفاش بفوفاش!
أو كأنك تنظر الى «لقاء الجمهورية» اللبناني في بيت ميشال سليمان، الى جانب سمير مقبل وأليس شبطيني، فترى صورة عبد ربه منصور هادي الى جانب خالد البحاح وأحمد عوض بن مبارك. والأهم من ذلك أنك تنظر الى السيد عبد الملك الحوثي فكأنك ترى صورة السيد حسن نصر الله، وترى حركة أنصار الله في صعدة وحجة كأنها حزب الله في الجنوب والبقاع.
وللبنانيين مع اليمن حكايات قديمة لا تخلو من طرافة. ومن أبرز الشخصيات اللبنانية التاريخية التي تعاطت مع اليمن بشكل من الأشكال، الأديب المعروف أمين الريحاني المعروف بلقبه «فيلسوف الفريكة» الذي زار اليمن في عهد الإمام يحيى حميد الدين ودوَّن مشاهداته ولقاءاته في كتابه «ملوك العرب»، وكذلك الأمير شكيب أرسلان الذي كان يراسل زعماء الدول العربية ومنهم الإمام يحيى، ويقال إن المير شكيب هو الذي أوصى الإمام المتوكلي بالاعتراف بالاتحاد السوفياتي. لكن اللبناني الذي عمل مع الحكم الإمامي كمستشار وديبلوماسي وترك بصمات ملحوظة هو الدكتور عدنان الترسيسي الذي وضع كتباً عديدة عن اليمن، منها: «اليمن وحضارة العرب، مع دراسة جغرافية كاملة»، وكتاب «سبأ وحضارات العرب الأولى»، وكتاب «بلاد العرب وحضارات العرب الأولى». 
وكان الدكتور الترسيسي أيام سفارته في بيروت مهووساً باختباراته عن الطاقة الشمسية، وربما كان هو الذي أقنع الإمام أحمد كيف «يطبخ على الشمس». فقد كان الترسيسي يأتي الى حرم الجامعة الأميركية في بيروت وبيده طبَّاخ من صنعه يعمل بالطاقة الشمسية فيضعه في الشمس أمام الطلاَّب المتحلقين حوله ليقلي عليه البيض أمامهم!
والمعروف أن عبارة «يطبخ على الشمس» تطلق مجازاً على القادة الصبورين طويلي النفس، الذين ينتظرون لحظتهم من غير أن يدانيهم يأس أو قنوط. ولا أحد يعرف ما إذا كان عدنان الترسيسي قد تعلم الطبخ على الشمس من اليمنيين، أو هو الذي علمهم تلك الحرفة!
لكن ما يحير السعوديين الآن بعد أكثر من شهرين من القصف الجوي المتواصل على المدن والمرافق اليمنية أن الحلول الديبلوماسية المطروحة في الكواليس الدولية، ومنها على الأخص المواقف الأميركية، لا تريحهم. وقد ظهر هذا الانزعاج عندما قاطع أربعة من حكام الخليج وعلى رأسهم العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لقاء كامب دايفيد الذي دعاهم اليه الرئيس الأميركي باراك أوباما. وفي اللقاء الذي تم بغياب القادة الخليجيين الأربعة لم يقدم الرئيس الأميركي الى الخليجيين ما كانوا يصبون اليه، ناهيك بأنهم لم يستطيعوا ثنيه عن توقيع اتفاق نووي مع إيران. بل هو قال لهم بالفم الملآن إن الخطر عليهم من داخلهم وليس من إيران، وهذا ما اعتبروه ثالثة الأثافي!
في البداية فرح السعوديون والخليجيون عموماً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216 تحت الفصل السابع، وهو قرار يُلزم الحوثيين بالعودة من حيث أتوا، والجيش اليمني بالعودة الى ثكناته، وبالدعوة الى إلقاء السلاح. لكن هذا القرار بقي حبراً على ورق على الرغم من كونه أقرَّ تحت الفصل السابع، فلم تجد السعودية جيشاً حليفاً يأتي اليها ليخوض حرباً برية في اليمن بحجة تطبيق ذلك القرار. الباكستانيون اعتذروا، والمصريون تهربوا، واليمنيون المتحالفون مع السعودية في داخل اليمن تبخروا، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند اللاهث وراء صفقات السلاح المليارية وعدهم بجنود سنغاليين لم يأتوا، وتنظيم «القاعدة» الذي كان في السابق يعمل بتطنيش من علي عبد الله صالح تقطعت به الحبال والسبل، فانكفأ في معظمه الى حضرموت حيث يقال إن السعودية تحاول من هناك تأسيس جيش يمني رديف يخوض عنها الحرب في داخل اليمن، وتحت عباءة الرئيس المنتهي الصلاحية العامل من منفاه السعودي، بحجة إعادة الشرعية.
بل إن ما أقلق السعودين أكثر أن الأمم المتحدة التي كانت ترعى الحوار اليمني، وكادت في عهد مبعوثها السابق جمال بن عمر أن تصل الى تفاهم بين مختلف الفصائل اليمنية حول «السلم والشراكة»، لحست قرار مجلس الأمن وفصله السابع ودعت الى لقاء جديد للحوار اليمني في جنيف من غير أي شروط مسبقة كتلك التي فرضها قرار الفصل السابع. بذلك تكون الأمم المتحدة قد نسفت مرجعية الرياض كأساس للحل اليمني، وأحلت مكانها مرجعية أخرى ووضعت قرار مجلس الأمن في خبر كان فلم يعد يصلح حتى كغطاء لتدخل خارجي ما في اليمن إذا وجدت جهة قابلة بهذا التدخل.
فلا عجب أن السعوديين ويمنييهم بقيادة عبد ربه منصور هادي أعلنوا على الفور رفضهم للقاء جنيف الأممي، ورفضهم لمشاركة إيران في أي لقاء يتعلق باليمن، باعتبار أن وكالة منصور هادي حصرية. والأوضح من ذلك أن الرئيس اليمني السابق اللاجىء في الرياض طالب بحوار جهوي بين الشمال والجنوب، فكان ذلك أوضح تصريح بالسعي الى تقسيم اليمن من جديد الى شمال وجنوب كما كان في زمن الإنكليز، لا كما انتهى اليه في زمن علي عبد الله صالح والأميركان من ورائه، بحيث أن محاولة الانفصال التي جرت بقوة السلاح في عام 1994 لم يُكتب لها النجاح لأنها جرت بدون موافقة أميركية. وبقي الحراك الجنوبي حركة بلا بركة حتى وهو في خارج اليمن يبشِّر بالانفصال.
والوضع كما هو الآن تتداخل فيه ثلاثة عوامل مقلقة للجانب السعودي:
العامل الأول، الضعف الميؤوس منه لحليفخم اليمني. ذلك أن الدمار الكبير الذي أحدثته عاصفة الحزم السعودية في اليمن، جعل جميع اليمنيين في داخل اليمن ينظرون نظرة عدائية تجاه أي يمني يتعاطى مع الرياض الى أي جهة انتمى والى أي فصيل سياسي انتسب. فعندما خرج السوريون من لبنان أو أخرجوا بقي أكثر من نصف اللبنانيين متعاونين معهم ويجاهرون بالولاء لهم. حتى أن مظاهرة 8 آذار الحاشدة التي قادها حزب الله وحلفاؤه في بيروت انطلقت تحت شعار «شكراً سوريا». لم يخرج أي يمني حتى الآن يشكر السعودية على حسناتها السابقة، وعلى الأرجح لن يخرح أحد، لأن الدمار الذي أحدثته «عاصفة الحزم» أزال كل المكرمات السابقة. فالقصف السعودي وحَّد اليمنيين بدل أن يفرِّقهم فعزَّ النصير داخل اليمن.
العامل الثاني، هو موقف الرئيس الأميركي باراك أوباما. لم يكتفِ الرئيس الأميركي بتصريحاته السابقة حول تشخيص المخاطر المحدقة بدول الخليج مستبعداً الخطر الإيراني، ولا بتلميحاته التطمينية الفاترة خلال لقاء كامب دايفيد مع المسؤولين الخليجيين، بل طرح مواضيع خطيرة في المقابلة التي أجرتها معه مجلة «أتلانتيك» الأميركية أخيراً وفيها تطرَّق الى المسعى السعودي للحصول على رادع نووي.  ومما ألمح اليه أوباما في هذا الصدد الى أن قيام السعودية بأي مجهود نووي من شأنه أن يؤدي الى فك التحالف التاريخي بين واشنطن والرياض. ومما زاد في الطين بلة تلميح أوباما الى إعجابه بالقدرات القتالية لحزب الله اللبناني، مما دفع البعض الى سحب ذلك على الحوثيين وأنصار الله في اليمن،بما ينبىء بالخشية من أن تبدِّل أميركا حلفاءها السابقين بحلفاء أكفأ وأنشط وأفتى بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران. 
العامل الثالث، هو ظهور بوادر صدوع في الصف الخليجي. من البداية اتخذت سلطنة عمان موقفاً مغايراً، بل هي طرحت نفسها وسيطاً محايداً لحل الخلافات اليمنية، باعتبار أن المملكة السعودية باتت طرفاً في الصراع القائم فلم تعد قادرة على جمع الشمل وقد نظر اليها جانب من اليمنيين على قاعدة «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم». لم يعد بمقدور الخصم أن يكون حكماً. ثم بدأ الفتور يدب في بعض الدول الخليجية الأخرى مثل الكويت وقطر وربما دولة الإمارات أيضاً. بدأ هؤلاء يحسبون حساب المسافات. كل ابتعاد خليجي عن السعودية مهما كان ضئيلاً له من الآن وصاعداً حساب، إن لم يكن على الصعيد الداخلي فعلى الصعيد الإقليمي، وإن لم يكن على الصعيد الإقليمي فعلى الصعيد الدولي.
أما في اليمن ذاتها، فإن الطبيعة الجبلية للبلاد تجعلها عصية على الانكسار، ناهيك بالصبر التاريخي للناس على الويلات، وباحتراف الطبخ على الشمس قبل اللبناني عدنان الترسيسي وبعده. فالجبل كان النصير الأول للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وجبال اليمن أصعب مسلكاً من جبال الجزائر. وفي الجبال بين الوديان والوعر، لا تنفع الآليات الحديثة. «الآليات» الوحيدة النافعة في الوعر هي الحمير والبغال. حتى أن ظهور البغال والحمير تصلح كمنصات لإطلاق الصواريخ الحديثة وغيرها من الأسلحة الأوتوماتيكية. في كهوف الجبال لا تنفع الطائرات، وفي مسالكها لا تنفع الدبابات، لأنها لا تستطيع أن تصل الى حيث الحاجة اليها.
والزمان في اليمن ليس له حساب على امتداده من اللحظة الى الدهر. ويقال إنه في العهد العثماني خطر لكاتب يمني أن يُصدر صحيفة من ورقة واحدة وجه منها باللغة العربية ووجهها الآخر باللغة التركية القديمة المكتوبة بالخط العربي، وسمَّاها «اليمن» وكتب تحت اسمها شعاراً على غرار شعار الصحافي كامل مروة لجريدته «الحياة» التي آلت الى السعوديين بشخص الأمير الجنرال خالد بن سلطان، والقائل: «قل كلمتك وامشِ». أما شعار الجريدة اليمنية العثمانية فيقول: «اليمن يمان تصدر كلما سنح الزمان». فالزمان في اليمن طويل وسوانحه بعيدة المدى.
في القديم، أي في الزمان الروماني، كان الرومان يقولون في سجلاتهم البحرية أن بحَّارة سفنهم المارة في اتجاه بحر العرب كانوا يشمُّون ويتنسمون روائح البن والبخور الصادرة من الشواطىء الجنوبية للجزيرة العربية على بعد عشرة أميال في داخل البحر قبل أن يشاهدوا اليابسة بأعينهم، فأطلقوا على اليمن العبارة اللاتينية (Arabia Felix) التي ترجمت تالياً الى عبارة «اليمن السعيد»، لكن الترجمة الأدق هي «العربية السعيدة»، باعتبارها أقرب العبارات الى «العربية السعودية». ومع ذلك فإن اليمن منذ المملكة الحميرية مروراً بمملكة الملك اليهودي ذو نؤاس الى اليوم عاش في الشقاء أكثر مما عرف السعادة، إلاَّ ربما في عهد بلقيس ملكة مملكة سبأ، أو كلما سنح الزمان!    
   

No comments:

Post a Comment