Saturday, May 9, 2020

مقال الدكتور سامر عوض عن مذكراتي (اجمل التاريخ كان غدا)


  1. لم يفاجئني كتاب ايلي فرزلي
  2. بقلم سامر عوض



قرعت جرس الهاتف في احدى ظهيرات يوم من أيام شهر نيسان 2018، فضربت موعدا مع الرئيس أيلي الفرزلي، وإذا به يحدد لي موعدا للقاء دام بعض الساعات. خرجت من ذاك اللقاء الودي بالانطباع ذاته، الذي راودني عندما قرأت كتاب الرجل تحت عنوان "أجمل التاريخ كان غدا" لكنه من المفارقة الكبيرة بالنسبة لي فأن الكتاب بمثابة موسوعة تلخص تاريخ لبنان السياسي الحديث، منذ بدايات القرن المنصرم حتى مطلع القرن الحالي. فهو كتاب لرجل لكنه يجسد مرحلة يطير طيفها ليطال كل ما ارتبط به وبدولته من شخصيات ودول و سياقات واحداث. فمن المستغرب بمكان أن يتحدث سياسي ممارس بهذه الطلاقة التي رأينا ذروة صراحتها على رأس قلمه المدمى بنار لبنان ونور مشرقه خلال عقود طوال من الزمان. حيث أن هذا الكتاب ليس مجرد مذكرات أو ذكريات أو تحليلات، بل هو سبر لعمق النفس البشرية واختلاجاتها بكل ما لها وما عليها. إذ أرجح أن يكون الفرزلي قد أرخ دقائق وتفاصيل حياته السياسية برمتها يوما بيوم ولحظة بلحظة؛ فأرشفها وأعادها إلينا اليوم مبلسمة بمحاكاته ومحاكمته لتلك المشاعر الجياشة، التي تخللت مواقفه ومواقعه ورؤاه. فقد تعرض مستطردا للكثير من الحوادث والمجريات التي تفسر لنا ظواهر لم نكن نفهم حيثياتها؛ لجهلنا خبايا كواليسها كفلسفة دخول القوات السورية إلى لبنان وخروجها منه بعد حوالي التسعة والعشرين عاما، حيث يقدم نموذج السياسي السابق الصريح حد جرح الحقيقة في عمق قلبها لتنزف دما يحوله يراعا. وكل هذا يكون مربوطا بريشة سعيد عقل الزحلي النشأة والعالمي الصيت الذي قال أن أجمل التاريخ كان غدا. فقيمة الكتاب أنه لا يقف عند الحقائق بل بنتقل لينطلق، منها متمنيا على المستقبل ومنه أن يكون أجمل. حبث فتحت هذه المذاكرات التي تدارسها لمجلدات كانت قد أقفلت بالشكل الذي فتحته كحربي زحلة، وأغلقت أبوابا من الجدال البيزنطي السريالي بوثائق دامغة حقيقية ككواليس نهاية رئيس قوات الاستطلاع السوري في لبنان غازي كنعان. هو كتاب للتاريخ ومن اجلنا ليس مجرد صفحات نقلبها، بل وثائق ومستندات يجدر دراستها وتفحصها وتمحيص دقائقها ودلالانها. حيث يتحدث مثلا عن كواليس اختيار الرئيس الهراوي ومنطق التمديد له، مما يذكرنا بكميل منسى وكتابه عن تلك الحقبة حين يقول الهراوي عند سؤاله عن هذه التفاصيل، أن من مدد لي و اختار الرئيس لحود هو سوريا. لكن الجديد في الامر هو الدوافع الجدية الدقيقة التي حثت أصحاب القرار في تلك الفترة لتبني هذا النهج. فمن المستغرب في مكان أن يبقى الكتاب محافظا على ذات الحرارة و الحنية والشفافية، منذ فاتحته حتى خاتمته. فقد كتب بريشة واحدة وقلب وروح واحدة، حيث يبدأ القارئ بترصد ليتوقع الموقف لأنه عرف مبدأ الكاتب ومنطلقه والأهداف منها التي يرمي لتحقيقها. حيث يذكر أن الاستقالة من الدور يعني الاستقالة من الوطن، وهو حتى في أشد مراحل حياته وطأة لن يتوانى ولو للحظة واحدة عن المبادرة للوي ذراع أي يد تمتد لتقطع أي جسر، لا بل سعى لمد جسور بين الأفرقاء فوظف علاقاته لخدمة وطنه كما جاء في الفصل الذي يتحدث عن إعادة المياه لمجاريها بين بكركي ودمشق. لكن هذا النفس المبادراتي لا يغير من مدى حدية موافق الرجل، إن تطلبت ذلك. حيث ذكر بسياق ما واصفا أحد رؤساء الوزراء ومسميا إياه ووصفه بأنه يحمل كل مواصفات نكران الجميل. آمن الفرزلي بضرورة التعددية ولا سيما في الإعلام، فإذا كانت الفوضى في الإعلام مصيبة فإن أحاديته كارثة. يؤكد الكتاب كلام معالي الأستاذ كريم بقردوني أن الفرزلي من دون السياسة لا يستطيع أن يعيش، فهذا ما يدفعنا لتفسير الشخصية الزحلية من خلال الكتاب، فعندما تتطالعه تشتم من شرفة الكتاب رائحة أشجار البقاع وتتذوق طيب شراب كرمها. فهو ليس كتاب قائم بذاته، بل جزء من تراكمات عائلية تظهر استخلاصاتها في نفحات استطلاع الكاتب. فهو لم يولد سنة ١٩٤٩ بل هو تراكم تجارب وخبرات ترى نتائجها في صفحات الكتاب، فهو لا يحمل راية العائلة بل يتحمل وزر تدبيرها. قد توافق أو تعارض ما يقدم لك الكتاب وصاحبه، لكنك لا تستطيع الا ان تحترم ما قاله، لانه نتيجة جد وتعب وكد دون كلل بشكل مستمر ومتواصل. حيث جاء إلى السياسة من باب المحاماة كالمنطق اللاتيني الذي يعتبرها ميدان للدفاع عن الحقوق والمطالبة بها. فهو أمين ليتحدث عن خصال أخصامه كالهراوي وأن يبرر موقف سوريا في تلك الحوادث التي كانت تحصل كاختيار الأشخاص والتسويق لهم مظهرا في كل ذلك توجهاته وتوجساته فيبين الإخفاقات تارة والانتصارات طورا والهزائم في حين أخرى. يذكرنا هذا الكتاب بمذكرات كيسنجر بالنسبة لأميركا ومذكرات ونستن تشرشل بالنسبة لبريطانيا وكتاب الأسد والصراع على الشرق الأوسط عن سوريا ،وأعتقد أنه سيتم ترجمة هذا الكتاب إلى لغات عدة لأنه لم يسبق ربما مقاربة المواضيع التي تناولها هذا الكتاب بالدسم والعمق والتكثيف ذاته الذي تمت معالجة الكتاب على أساسه. سيصبح هذا الكتاب مرجعا يعود إليه كل دارس لهذه الحقبة ليميز بين النص و ما حوله فلا تعود الآراء جوهرا منفصلا عن الواقع بل هما تؤمان أزليان لا ينفصم عراهما. ينقل الكتاب صاحبه من اصطفاف وطني إلى بعد إقليمي سخر كل ما يمكن من أجل قضية لبنان كما يراها ويشعر بها فتراه ثابت والسياسة تتغير حيث يقدم لك الفلسفة و التأريخ و التاريخ والسياسة،بقالب سهل ممتنع وكأنك تتطالع رواية زحلاوية بحبر لبناني وبعد وطني وورق مشرقي ونفحة إنسانية.